الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              وبعث عبد الله بن حذافة السهمي ، وقيل : كعب بن مالك ينادي في الناس ، بمنى : أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : «إنها أيام أكل وشرب وذكر الله» . [ ص: 479 ]

                                                                                                                                                                                                                              قلت : ونادى مناديه بمنى أنها أيام أكل وشرب وباءة ذكره ابن سعد . فانتهى المسلمون عن صيامهم إلا محصورا بالحج أو متمتعا بالعمرة إلى الحج ، فإن الرخصة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يصوموا أيام منى ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              ثم أفاض- صلى الله عليه وسلم- إلى مكة قبل الظهر راكبا ، (وأردف معاوية بن أبي سفيان من منى إلى مكة ) ، فطاف طواف الإفاضة ، وهو طواف الزيارة ، وهو طواف الصدر ، ولم يطف غيره ، قال : هو الصواب .

                                                                                                                                                                                                                              في حديث عائشة ، وابن عباس : أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخر طواف يوم النحر إلى الليل ، علقه البخاري ، ورواه الأربعة .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : قال ابن كثير : والأشبه أن هذا الطواف كان قبل الزوال ، ويحتمل أنه كان بعده .

                                                                                                                                                                                                                              فإن حمل هذا أنه أخر ذلك إلى ما بعد الزوال كأنه يقول : إلى العشي صح ذلك ، وأما إن حمل على ما بعد الغروب فهو بعيد جدا ، ومخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من أنه- صلى الله عليه وسلم- طاف يوم النحر نهارا ، وشرب من سقاية زمزم ، وأما الطواف بالليل ، فهو طواف الوداع ، ومن الرواة من يعبر عنه بطواف الزيارة .

                                                                                                                                                                                                                              ثم أتى زمزم بعد أن قضى طوافه ، وهم يسقون ، فقال : «لولا أن يغلبكم الناس عليها يا ولد عبد المطلب لنزلت ، فسقيت معكم» .

                                                                                                                                                                                                                              ويقال : إنه نزع دلوا لنفسه ، ثم ناوله الدلو ، قلت : ثم مج فيها فأفرغ على سقايتهم في زمزم .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث ابن عباس عند البخاري أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس : يا فضل اذهب إلى أمك فائت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشراب من عندها ، فقال : اسقني ، فقالت : يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه ، قال : «اسقني (مما يشرب الناس )» ، فشرب منه ، ثم أتى زمزم ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              قال : فشرب وهو قائم .

                                                                                                                                                                                                                              قال : والأظهر أن ذلك كان للحاجة ، وهل كان في طوافه هذا راكبا ؟ أو ماشيا ؟ . وقد تقدم ما رواه مسلم وغيره ، عن جابر ، قال : طاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ، لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه فإن الناس غشوه . [ ص: 480 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان ، عن ابن عباس قال : طاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجنه .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القيم : وهذا الطواف ليس بطواف الوداع فإنه كان ليلا ، وليس بطواف القدوم ، لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما : أنه قد صح عنه . أن الرمل في طواف القدوم . ولم يقل أحد قط رملت به راحلته وإنما قالوا رمل نفسه .

                                                                                                                                                                                                                              والثاني قول عمرو بن الشريد : أفضت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما مست قدماه الأرض حتى أتى جمعا ، وهذا ظاهره ، أنه من حين أفاض معه ، ما مست قدماه الأرض إلى أن رجع ، ولا ينقض هذا بركعتي الطواف ، فإن شأنهما معلوم ، قال : والظاهر أن عمرو بن الشريد إنما أراد الإفاضة معه من عرفة ، ولهذا قال : حتى أتى جمعا وهي مزدلفة ، ولم يرد الإفاضة إلى البيت يوم النحر ، ولا ينقض هذا بنزوله عند الشعب حين بال ثم ركب ، لأنه ليس بنزول مستقر ، وإنما مست قدماه الأرض مسا عارضا .

                                                                                                                                                                                                                              ثم رجع- صلى الله عليه وسلم- إلى منى .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف : أين صلى الظهر يومئذ ؟ ففي الصحيحين عن ابن عمر : أنه- صلى الله عليه وسلم- أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى . وفي مسلم عن جابر أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر بمكة ، وكذلك قالت عائشة واختلف في ترجيح أحد القولين على الآخر .

                                                                                                                                                                                                                              ورجح أبو محمد بن حزم وغيره الثاني ، ورجح ابن القيم الأول .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن كثير : فإن علمنا بها أمكن أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر بمكة ، ثم رجع إلى منى فوجد الناس ينتظرونه ، فصلى بأصحابه بمنى أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وطافت عائشة في ذلك اليوم طوافا واحدا وسعت سعيا واحدا أجزأها عن حجها وعمرتها وقال في موضع آخر : يحتمل أنه رجع إلى منى ، في آخر وقت الظهر ، فصلى وطافت صفية ذلك اليوم . ثم حاضت ، قال : فأجزأها طوافها ذلك عن طواف الوداع ولم تودع .

                                                                                                                                                                                                                              وكان رمي الجمار حين تزول الشمس قبل الصلاة ، وكان إذا رمى الجمرتين علاهما ورمى جمرة العقبة من بطن الوادي .

                                                                                                                                                                                                                              وكان يقف عند الجمرة الأولى أكثر مما يقف عند الثانية ، ولا يقف عند الثالثة ، وإذا رماها انصرف ، وكان إذا رمى الجمرتين وقف عندهما ، ورفع يديه لا يقول ذلك في رمي العقبة فإذا رماها انصرف . [ ص: 481 ]

                                                                                                                                                                                                                              ونهى أن يبيت أحد بليالي منى ، ورخص للرعاة أن يبيتوا عند منى ، من جاء منهم فرمى بالليل أرخص له في ذلك وقال : ارموا بمثل حصى الخذف .

                                                                                                                                                                                                                              كان أزواجه يرمين مع الليل ، ثم رجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى منى من يومه ذلك فبات بها ، فلما أصبح انتظر زوال الشمس ، فلما زالت الشمس مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب ، فبدأ بالجمرة الأولى ، التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة ، يقول مع كل حصاة : «الله أكبر» ثم يقدم على الجمرة أمامها حتى أسهل فقام مستقبل القبلة ثم رفع يديه ودعا دعاء طويلا بقدر سورة البقرة ، ثم أتى- صلى الله عليه وسلم- إلى الجمرة الوسطى فرماها كذلك ، ثم انحدر ذات اليسار ، مما يلي الوداع فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو قريبا من وقوفه الأول ثم أتى الجمرة الثالثة ، وهي جمرة العقبة ، فاستبطن الوادي واستعرض الجمرة ، فجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه فرماها بسبع حصيات كذلك ، ولم يرمها من أعلاها كما يفعل الجهال ، ولا جعلها عن يمينه ، واستقبل البيت وقت الرمي كما ذكره غير واحد من الفقهاء .

                                                                                                                                                                                                                              فلما أكمل الرمي من فوره ولم يقف عندها ، فقيل : لضيق المكان بالجبل ، وقيل : وهو الأصح أن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها ، فلما رمى جمرة العقبة فرغ الرمي ، والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها أفضل منه بعد الفراغ منها ، وذكر ما يتعلق بالدعاء بعد الصلاة ، وقد تقدم بما فيه .

                                                                                                                                                                                                                              قال : والذي يغلب على الظن أنه كان يرمي قبل الصلاة ، ثم يرجع فيصلي ، لأن جابرا وغيره قالوا : كان يرمي إذا زالت الشمس فعقبوا زوال الشمس برميه وأيضا فإن وقت الزوال للرمي أيام منى ، كطلوع الشمس لرمي يوم النحر .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي ، وابن ماجه ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال : كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرمي الجمار إذا زالت الشمس زاد ابن ماجه . قدر ما إذا فرغ من رميه- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الإمام أحمد : أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يرمي يوم النحر راكبا ، وأيام منى ماشيا ، في ذهابه ورجوعه .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية