الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فلا تكونن من الجاهلين ) . تقدم قول ابن عطية في أن تأسف وتحزن على أمر [ ص: 116 ] أراده الله تعالى ، وأمضاه ، وعلم المصلحة فيه .

وقال أيضا : و ( من الجاهلين ) يحتمل في أن لا تعلم أن الله ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره الله وأراده ، وتذهب بك نفسك إلى ما لم يقدر الله انتهى . وضعف الاحتمال الأول بأنه مع كمال ذاته وتوفر معلوماته وعظيم اطلاعه على ما يليق بقدرة الحق جل جلاله ، واستيلائه على جميع مقدوراته ، لا ينبغي أن يوصف بأنه جاهل; لأنه تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى; لأن هذا من قبيل الدين والعقائد ، فلا يجوز أن يكون جاهلا بها ، وكأن الزمخشري قد فسر قوله : ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) بأن تأتيهم آية ملجئة ، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة ، فقال في قوله : ( فلا تكونن من الجاهلين ) من الذين يجهلون ذلك ، ويرومون ما هو خلافه . وأشار بذلك إلى الإتيان بالآية الملجئة إلى الإيمان ، وتقدم الكلام في الإلجاء . وقيل : لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم ويكفر بعضهم ، وضعف بأن هذا ليس مما يجهله - صلى الله عليه وسلم - . وقيل لا تكونن ممن لا صبر له لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين ، وضعف بأنه تعالى قد أمره بالصبر في آيات كثيرة ومع أمر الله له بالصبر وبيان أنه خير يبعد أن يوصف بعد صبره بقلة الصبر . وقيل : لا يشتد حزنك لأجل كفرهم فتقارب حال الجاهل بأحكام الله وقدره ، وقد صرح بهذا في قوله : ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) وقال قوم : جاز هذا الخطاب لأنه لقربه من الله ومكانته عنده كان ذلك حملا عليه كما يحمل العاقل على قريبه فوق ما يحمله على الأجانب ، خشية عليه من تخصيص الإذلال . وقال مكي والمهدوي : الخطاب له والمراد به أمته ، وتمم هذا القول بأنه كان يحزنه إصرار بعضهم على الكفر وحرمانهم ثمرات الإيمان . قال ابن عطية : وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ انتهى . وقيل : الرسول معصوم من الجهل والشك بلا خلاف ، ولكن العصمة لا تمنع الامتحان بالأمر والنهي ، أو لأن ضيق صدره وكثرة حزنه من الجبلات البشرية ، وهي لا ترفعها العصمة بدليل : اللهم إني بشر وإني أغضب كما يغضب البشر ، الحديث . وقوله : إنما أنا بشر فإذا نسيت فذكروني . انتهى . والذي أختاره أن هذا الخطاب ليس للرسول ، وذلك أنه تعالى قال : ( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ) فهذا إخبار وعقد كلي أنه لا يقع في الوجود إلا ما شاء وقوعه ، ولا يختص هذا الإخبار بهذا الخطاب بالرسول بل الرسول عالم بمضمون هذا الإخبار ، فإنما ذلك للسامع فالخطاب والنهي في ( فلا تكونن ) للسامع دون الرسول فكأنه قيل : ولو شاء الله أيها السامع الذي لا يعلم أن ما وقع في الوجود بمشيئة الله جمعهم على الهدى لجمعهم عليه ، فلا تكونن أيها السامع من الجاهلين بأن ما شاء الله إيقاعه وقع ، وأن الكائنات معذوقة بإرادته .

التالي السابق


الخدمات العلمية