الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ) أي : أقبلت بقصدي وعبادتي وتوحيدي وإيماني وغير ذلك مما يعمه المعنى المعبر عنه ( بوجهي ) للذي ابتدع العالم محل هذه النيرات المحدثات وغيرها ، واكتفى بالظرف عن المظروف لعمومه ، إذ هذه النيرات مظروف السماوات ، ولما كانت الأصنام التي يعبدها قومه من خشب وحجارة ، وذكر ظرف النيرات ، عطف عليه الأرض التي هي ظرف الخشب والحجارة ، و ( حنيفا ) مائلا عن كل دين إلى دين الحق ، وهو عبادة الله ، تعالى " مسلما " أي : منقادا إليه مستسلما له ، ( وما أنا من المشركين ) ، ولما أنكر على أبيه عبادة الأصنام وضلله وقومه ، ثم استدل على ضلالهم بقضايا العقول ، إذ لا يذعنون للدليل السمعي لتوقفه في الثبوت على مقدمات كثيرة ، وأبدى تلك القضايا منوطة بالحس الصادق - تبرأ من عبادتهم ، وأكد ذلك بـ ( إن ) ثم أخبر أنه وجه عبادته لمبدع العالم التي هذه النيرات المستدل بها بعضه ، ثم نفى عن نفسه أن يكون من المشركين مبالغة في التبرؤ منهم .

( وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ) المحاجة مفاعلة من اثنين مختلفين في حكمين يدلي كل منهما بحجته على صحة دعواه ، والمعنى : وحاجه قومه في توحيد الله ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك ، ومحاجة مثل هؤلاء إنما هي بالتمسك باقتفاء آبائهم تقليدا ، وبالتخويف من ما يعبدونه من الأصنام ، كقول قوم هود : ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) ، فأجابهم بأن الله قد هداه بالبرهان القاطع على توحيده ورفض ما سواه وأنه لا يخاف من آلهتهم ، وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام : ( أتحاجوني ) بتخفيف النون ، وأصله بنونين ، الأولى علامة الرفع والثانية نون الوقاية ، والخلاف في المحذوف منهما مذكور في علم النحو ، وقد لحن بعض النحويين من قرأ بالتخفيف وأخطأ في ذلك ، وقال مكي : الحذف بعيد في العربية قبيح مكروه ، وإنما يجوز في الشعر للوزن ، والقرآن لا يحتمل ذلك فيه ، إذ لا ضرورة تدعو إليه ، وقول مكي ليس بالمرتضى ، وقيل : التخفيف لغة لغطفان ، وقرأ باقي السبعة بتشديد النون ، أصله أتحاجونني ، فأدغم هروبا من استثقال المثلين متحركين فخفف بالإدغام ، ولم يقرأ هناك بالفك ، وإن كان هو الأصل ، ويجوز في الكلام .

و ( في الله ) متعلق بـ " أتحاجوني " لا بقوله " وحاجه قومه " . والمسألة من باب الإعمال ، إعمال الثاني ، فلو كان متعلقا بالأول لأضمر في الثاني ، ونظيره ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) ، والجملة من قوله ( وقد هدان ) حالية ، أنكر عليهم أن تقع منهم محاجة له ، وقد حصلت من الله له الهداية لتوحيده ، فمحاجتهم لا تجدي لأنها داحضة .

( ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا ) حكي أن الكفار قالوا لإبراهيم - عليه السلام - : أما خفت أن تصيبك آلهتنا ببرص أو داء لإذايتك لها وتنقيصك ، فقال لهم : لست أخاف الذي تشركون به لأنه لا قدرة له ولا غنى عنده ، و ( ما ) بمعنى الذي ، والضمير في " به " عائد عليه ، أي : الذي تشركون به الله - تعالى - ويجوز أن يعود على الله ، أي : الذي تشركونه بالله في الربوبية ، و ( إلا أن يشاء ربي ) قال ابن عطية : استثناء ليس من الأول ، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضرا استثنى مشيئة ربه - تعالى - في أن يريده بضر . انتهى . فيكون استثناء منقطعا ، وبه قال الحوفي ، فيصير المعنى : لكن مشيئة الله إياي بضر أخاف ، وقال الزمخشري : " إلا أن يشاء ربي " إلا وقت مشيئة ربي شيئا يخاف ، فحذف الوقت ، يعني لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر على منفعة ولا على مضرة ، إلا أن يشاء ربي أن يصيبني [ ص: 170 ] بمخوف من جهتها إن أصبت ذنبا أستوجب به إنزال المكروه ، مثل أن يرجمني بكوكب ، أو بشقة من الشمس والقمر ، أو يجعلها قادرة على مضرتي . انتهى . فيكون استثناء متصلا من عموم الأزمان الذي تضمنه النفي ، وجوز أبو البقاء أن يكون متصلا ومنقطعا إلا أنه جعله متصلا مستثنى من الأحوال ، وقدره : إلا في حال مشيئة ربي أي : لا أخافها في كل حال إلا في هذه الحال ، وانتصب " شيئا " على المصدر أي مشيئة ، أو على المفعول به .

( وسع ربي كل شيء علما ) ذكر عقيب الاستثناء سعة علم الله في تعلقه بجميع الكوائن ، فقد لا يستبعد أن يتعلق علمه بإنزال المخوف بي إما من جهتها إن كان استثناء متصلا ، أو مطلقا إن كان منقطعا ، وانتصب " علما " على التمييز المحول من الفاعل ، أصله وسع علم ربي كل شيء .

( أفلا تتذكرون ) تنبيه لهم على غفلتهم حيث عبدوا ما لا يضر ولا ينفع ، وأشركوا بالله ، وعلى ما حاجهم به من إظهار الدلائل التي أقامها على عدم صلاحية هذه الأصنام للربوبية . وقال الزمخشري : ( أفلا تتذكرون ) فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز ، وقيل : أفلا تتعظون بما أقول لكم ، وقال أبو عبد الله الرازي : ( أفلا تتذكرون ) أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله لا يوجب حلول العذاب ونزول العقاب .

( وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ) استفهام معناه التعجب والإنكار ، كأنه تعجب من فساد عقولهم حيث خوفوه خشبا وحجارة لا تضر ولا تنفع ، وهم لا يخافون عقبى شركهم بالله وهو الذي بيده النفع والضر والأمر كله ، ( ولا تخافون ) معطوف على ( أخاف ) فهو داخل في التعجب والإنكار ، واختلف متعلق الخوف ، فبالنسبة إلى إبراهيم علق الخوف بالأصنام ، وبالنسبة إليهم علقه بإشراكهم بالله - تعالى - تركا للمقابلة ، ولئلا يكون الله عديل أصنامهم لو كان التركيب ولا تخافون الله - تعالى - وأتى بلفظ ( ما ) الموضوعة لما لا يعقل لأن الأصنام لا تعقل إذ هي حجارة وخشب وكواكب ، والسلطان الحجة ، والإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة ، وكأنه لما أقام الدليل العقلي على بطلان الشركاء وربوبيتهم ، نفى أيضا أن يكون على ذلك دليل سمعي ، فالمعنى أن ذلك ممتنع عقلا وسمعا فوجب اطراحه ، وقرئ : ( سلطانا ) بضم اللام ، والخلاف هل ذلك لغة فيثبت به بناء فعلان بضم الفاء والعين ، أو هو اتباع فلا يثبت به .

( فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ) لما خوفوه في مكان الأمن ، ولم يخافوا في مكان الخوف ، أبرز الاستفهام في صورة الاحتمال وإن كان قد علم قطعا أنه هو الآمن لا هم ، كما قال الشاعر :

[ ص: 171 ]

فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيي وأيك فارس الأحزاب



أي أينا ، ومعلوم عنده أنه هو فارس الأحزاب لا المخاطب ، وأضاف أيا إلى الفريقين ، ويعني فريق المشركين وفريق الموحدين ، وعدل عن : أينا أحق بالأمن أنا أم أنتم ، احترازا من تجريد نفسه ، فيكون ذلك تزكية لها ، وجواب الشرط محذوف ، أي : إن كنتم من ذوي العلم والاستبصار فأخبروني أي هذين الفريقين أحق بالأمن .

( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) الظاهر أنه من كلام إبراهيم ، لما استفهمهم استفهام عالم بمن هو الآمن وأبرزه في صورة السائل الذي لا يعلم ، استأنف الجواب عن السؤال ، وصرح بذلك المحتمل فقال : الفريق الذي هو أحق بالأمن هم الذين آمنوا ، وقيل : هو من كلام قوم إبراهيم ، أجابوا بما هو حجة عليهم ، وقيل : هو من كلام الله ، أمر إبراهيم أن يقوله لقومه ، أو قاله على جهة فصل القضاء بين خلقه وبين من حاجه قومه ، واللبس : الخلط ، والذين آمنوا : إبراهيم وأصحابه ، وليست في هذه الأمة ، قاله علي ، وعنه : إبراهيم خاصة ، أو من هاجر إلى المدينة ، قاله عكرمة ، أو عامة ، قاله بعضهم ، وهو الظاهر ، والظلم هنا الشرك ، قاله ابن مسعود وأبي ، وعن جماعة من الصحابة أنه لما نزلت أشفق الصحابة وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما ذلك كما قال لقمان : ( إن الشرك لظلم عظيم ) " ، ولما قرأها عمر عظمت عليه ، فسأل أبيا فقال : إنه الشرك يا أمير المؤمنين ، فسري عنه ، وجرى لزيد بن صوحان مع سلمان نحو مما جرى لعمر مع أبي ، وقرأ مجاهد : ( ولم يلبسوا إيمانهم بشرك ) ، ولعل ذلك تفسير معنى ، إذ هي قراءة تخالف السواد ، وقال الزمخشري : أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم ، وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس . انتهى . وهذه دفينة اعتزال أي : إن الفاسق ليس له الأمن إذا مات مصرا على الكبيرة ، وقوله : وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس ، هذا رد على من فسر الظلم بالكفر والشرك ، وهم الجمهور ، وقد فسره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالشرك ، فوجب قبوله ، ولعل الزمخشري لم يصح له ذلك عن الرسول ، وإنما جعله يأباه لفظ اللبس لأن اللبس هو الخلط ، فيمكن أن يكون الشخص في وقت واحد مؤمنا عاصيا معصية تفسقه ، ولا يمكن أن يكون مؤمنا مشركا في وقت واحد ، و ( لم يلبسوا ) يحتمل أن يكون معطوفا على الصلة ، ويحتمل أن يكون حالا دخلت واو الحال على الجملة المنفية بلم ، كقوله تعالى : ( أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ) ، وما ذهب إليه ابن عصفور من أن وقوع الجملة المنفية بـ ( لم ) قليل جدا ، وابن خروف من وجوب الواو فيها وإن كان فيها ضمير يعود على ذي الحال - خطأ ، بل ذلك قليل ، وبغير الواو كثير ، على ذلك لسان العرب وكلام الله ، وقرأ عكرمة : ( ولم يلبسوا ) بضم الياء ، ويجوز في ( الذين ) أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، وأن يكون خبره المبتدأ ، والخبر الذي هو ( أولئك لهم الأمن ) ، وأبعد من جعل ( لهم الأمن ) خبر الذين ، وجعل ( أولئك ) فاصلة ، وهو النحاس والحوفي .

التالي السابق


الخدمات العلمية