الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ) الظاهر أن ( أن ) تفسيرية ، و ( لا ) ناهية ; [ ص: 250 ] لأن ( أتل ) فعل بمعنى القول ، وما بعد ( أن ) جملة ، فاجتمع في أن شرطا التفسيرية وهي أن يتقدمها معنى القول وأن يكون بعدها جملة ، وذلك بخلاف أي فإنها حرف تفسير يكون قبلها مفرد وجملة يكون فيها معنى القول وغيرها ، وبعدها مفرد وجملة ، وجعلها تفسيرية هو اختيار الزمخشري ، ( فإن قلت ) : إذا جعلت أن مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بـ ( ما حرم ربكم ) وجب أن يكون ما بعده منهيا عنه محرما كله ، كالشرك ، وما بعده مما دخل عليه حرف النهي ، فما يصنع بالأوامر ؟ ( قلت ) : لما وردت هذه الأوامر مع النواهي وتقدمهن جميعا فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه ، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها ، وهي الإشارة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله . انتهى . وكون هذه الأشياء اشتركت في الدخول تحت حكم التحريم ، وكون التحريم راجعا إلى أضداد الأوامر بعيد جدا وألغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين ، أحدهما أنها معطوفة على المناهي قبلها ، فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز أن التفسيرية ، بل هي معطوفة على قوله : ( تعالوا أتل ما حرم ) ، أمرهم أولا بأمر يترتب عليه ذكر مناه ، ثم أمرهم ثانيا بأوامر ، وهذا معنى واضح ، والثاني أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي وداخلة تحت أن التفسيرية ، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل عليه حذفه ، والتقدير : وما أمركم به ، فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه ; لأن معنى ( ما حرم ربكم عليكم ) ما نهاكم ربكم عنه ، فالمعنى قل تعالوا أتل ما نهاكم ربكم عنه ، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون أن تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ، ألا ترى أنه يجوز أن تقول : أمرتك أن لا تكرم جاهلا وأكرم عالما ، إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر ، كما قال امرؤ القيس :


يقولون لا تهلك أسى وتجمل



وهذا لا نعلم فيه خلافا ، بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء ، فإن في جواز العطف فيها خلافا ، وقد جوزوا في ( أن ) أن تكون مصدرية لا تفسيرية في موضع رفع وفي موضع نصب . فأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ دل عليه المعنى ، والتقدير : المتلو ( أن لا تشركوا ) . وأما النصب فمن وجوه ، أحدها : أن يكون منصوبا بقوله : ( عليكم ) ، ويكون من باب الإغراء ، وتم الكلام عند قوله : ( أتل ما حرم ربكم ) ، أي : التزموا انتفاء الإشراك ، وهذا بعيد لتفكيك الكلام عن ظاهره . الثاني : أن يكون مفعولا من أجله ، أي : ( أتل ما حرم ربكم عليكم ) [ ص: 251 ] ( أن لا تشركوا ) ، وهذا بعيد لأن ما جاء بعده أمر معطوف بالواو ، ومناه هي معطوفة بالواو ، فلا يناسب أن يكون تبيينا لما حرم ، أما الأوامر فمن حيث المعنى ، وأما المناهي فمن حيث العطف . الثالث : أن يكون مفعولا بفعل محذوف ، تقديره : أوصيكم أن لا تشركوا ; لأن قوله : ( وبالوالدين إحسانا ) محمول على أوصيكم ( وبالوالدين إحسانا ) ، وهذا بعيد لأن الإضمار على خلاف الأصل . وهذه الأوجه الثلاثة " لا " فيها باقية على أصل وضعها من النفي ، وهو مراد . الرابع : أن يكون في موضع نصب على البدل من ( ما حرم ) أو من الضمير المحذوف من ( ما حرم ) ، إذ تقديره ما حرمه ، وهذان الوجهان " لا " فيهما زائدة كهي في قوله : ( ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك ) ، وهذا ضعيف لانحصار عموم المحرم في الإشراك ، إذ ما بعده من الأمر ليس داخلا من المحرم ، ولا بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادعاء زيادة لا فيه لظهور " أن لا " فيها للنهي . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : هلا قلت هي التي تنصب الفعل ، وجعلت ( أن لا تشركوا ) بدلا من ( ما حرم ) ، ( قلت ) : وجب أن يكون لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها ، وهي قوله : ( وبالوالدين إحسانا ) ; لأن التقدير : وأحسنوا ( وبالوالدين إحسانا ) ، " وأوفوا " ، " وإذا قلتم فاعدلوا " ، " وبعهد الله أوفوا " . انتهى . ولا يتعين أن تكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه " لا " ; لأنا بينا جواز عطف ( وبالوالدين إحسانا ) على ( تعالوا ) ، وما بعده معطوف عليه ، ولا يكون قوله : ( وبالوالدين إحسانا ) معطوفا على ( أن تشركوا ) ، و ( أن لا تشركوا ) شامل لمن أشرك بالله الأصنام كقوم إبراهيم ، ومن أشرك بالله الجن ، ومن أشرك بنين وبنات . وقال ابن الجوزي : قيل ادعاء شريك لله . وقيل : طاعة غير الله في معصية الله . وتقدم تفسير ( وبالوالدين إحسانا ) في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية