الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ) لما ذكر تعالى ما حل بالأمم السالفة من بأسه وسطوته عليهم آخر أمرهم حين لا تجدي فيهم الموعظة ذكر تعالى أن تلك عادته في أتباع الأنبياء إذا أصروا على تكذيبهم وجاء بعد إلا فعل ماض وهو ( أخذنا ) ولا يليها فعل ماض إلا إن تقدم فعل ، أو أصحب بقد ، فمثال ما تقدمه فعل هذه الآية ، ومثال ما أصحب قد قولك ما زيد إلا قد قام ، والجملة من قوله : ( أخذنا ) حالية ، أي : إلا آخذين أهلها ، وهو استثناء مفرغ من الأحوال ، وتقدم تفسير نظير قوله : ( إلا أخذنا ) إلى آخره .

( ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ) ، أي : مكان الحال السيئة من البأساء والضراء الحال الحسنة من السراء والنعمة ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة مكان الشدة الرخاء ، وقيل : مكان الشر الخير ومكان و ( الحسنة ) مفعولا بدل و ( مكان ) هو محل الباء ، أي : بمكان السيئة ، وفي لفظ ( مكان ) إشعار بتمكن البأساء منهم كأنه صار للشدة عندهم مكان ، وأعرب بعضهم ( مكان ) ظرفا ، أي : في مكان ( حتى عفوا ) ، أي : كثروا وتناسلوا ، وقال مجاهد : كثرت أموالهم وأولادهم ، وقال ابن بحر : حتى أعرضوا من عفا عن ذنبه ، أي : أعرض عنه ، وقال الحسن : سمنوا ، وقال قتادة سروا بكثرتهم ، وذلك استدراج منه لهم ؛ لأنه أخذهم بالشدة ليتعظوا ويزدجروا فلم يفعلوا ، ثم أخذهم بالرخاء ليشكروا .

( وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء ) أبطرتهم النعمة وأشروا ، فقالوا هذه عادة الدهر ضراء وسراء ، وقد أصاب آباءنا مثل ذلك لا بابتلاء وقصد ، بل ذلك بالاتفاق لا على ما تخبر الأنبياء جعلوا أسلافهم وما أصابهم مثلا لهم ولما يصيبهم ، فلا ينبغي أن ننكر هذه العادة من أفعال الدهر .

( فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ) تقدم الكلام على مثل هذه الآية لما أفسدوا على التقديرين أخذوا هذا [ ص: 348 ] الأخذ .

( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) ، أي : لو كانوا ممن سبق في علم الله أنهم يتلبسون بالإيمان بما جاءت به الأنبياء وبالطاعات التي هي ثمرة الإيمان ليتيسر لهم من بركات السماء ، ولكن كانوا ممن سبق في علمه أنهم يكذبون الأنبياء فيؤخذون باجترامهم ، وكل من الإيمان والتكذيب والثواب والعقاب سبق به القدر ، وأضيف الإيمان والتكذيب إلى العبد كسبا ، والموجد لهما هو الله تعالى لا يسأل عما يفعل ، وقال الزمخشري : اللام في القرى إشارة إلى ( القرى ) التي دل عليها قوله تعالى : ( وما أرسلنا في قرية من نبي ) كأنه قال ولو أن أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا آمنوا بدل كفرهم واتقوا المعاصي مكان ارتكابها ( لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) لآتيناهم بالخير من كل وجه ، وقيل : أراد المطر والنبات ( ولكن كذبوا فأخذناهم ) بسوء كسبهم ، ويجوز أن تكون اللام في ( القرى ) للجنس . انتهى . وفي قوله واتقوا المعاصي نزعة الاعتزال ، رتب تعالى على الإيمان والتقوى فتح البركات ، ورتب على التكذيب وحده وهو المقابل للإيمان الهلاك ، ولم يذكر مقابل التقوى ؛ لأن التكذيب لم ينفع معه الخير بخلاف الإيمان فإنه ينفع وإن لم يكن معه فعل الطاعات ، والظاهر أن قوله : ( بركات من السماء والأرض ) لا يراد بها معين ، ولذلك جاءت نكرة ، وقيل : بركات السماء المطر ، وبركات الأرض الثمار ، وقال السدي : المعنى لفتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق ، وقيل : بركات السماء إجابة الدعاء ، وبركات الأرض تيسير الحاجات ، وقيل : بركات السماء المطر وبركات الأرض المواشي والأنعام ، وحصول السلامة والأمن ، وقيل : البركات النمو والزيادات فمن السماء بجهة المطر والريح والشمس ومن الأرض بجهة النبات والحفظ لما نبت هذا الذي تدركه فطر البشر ولله خدام غير ذلك لا يحصى عددهم وما علم الله أكثر ، وذلك أن السماء تجري مجرى الأب والأرض مجرى الأم ومنهما تحصل جميع الخيرات بخلق الله وتدبيره ، والأخذ أخذ إهلاك بالذنوب ، وقرأ ابن عامر وعيسى الثقفي ، وأبو عبد الرحمن ، ( لفتحنا ) بتشديد التاء ، ومعنى الفتح هنا التيسير عليهم كما تيسر على الأبواب المستغلقة بفتحها ، ومنه فتحت على القارئ إذا يسرت عليه بتلقينك إياه ما تعذر عليه حفظه من القرآن إذا أراد القراءة .

( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ) الهمزة دخلت على أمن للاستفهام على جهة التوقيف والتوبيخ والإنكار [ ص: 349 ] والوعيد للكافرين المعاصرين للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك ، والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها ، وقال الزمخشري : فإن قلت : ما المعطوف عليه ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو ؟ قلت : المعطوف عليه قوله : ( فأخذناهم بغتة ) وقوله : ولو أن أهل القرى إلى يكسبون ، وقع اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه وإنما عطفت بالفاء ؛ لأن المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة ، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا ، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى . انتهى . وهذا الذي ذكره الزمخشري من أن حرف العطف الذي بعد همزة الاستفهام وهو عاطف ما بعدها على ما قبل الهمزة من الجمل رجوع إلى مذهب الجماعة في ذلك وتخريج لهذه الآية على خلاف ما قرر هو من مذهبه في غير آية أنه يقدر محذوفا بين الهمزة وحرف العطف يصح بتقديره عطف ما بعد الحرف عليه ، وأن الهمزة وحرف العطف واقعان في موضعهما من غير اعتبار تقديم حرف العطف على الهمزة في التقدير ، وأنه قدم الاستفهام اعتناء ؛ لأنه له صدر الكلام ، وقد تقدم كلامنا معه على هذه المسألة ، وبأسنا عذابنا وبياتا ليلا ، وتقدم تفسيره أول السورة ، ونصبه على الظرف ، أي : وقت مبيتهم ، أو الحال وذلك وقت الغفلة والنوم فمجيء العذاب في ذلك الوقت وهو وقت الراحة والاجتماع في غاية الصعوبة إذ أتى وقت المأمن .

( أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ) ، أي : في حال الغفلة والإعراض والاشتغال بما لا يجدي كأنهم يلعبون و ( ضحى ) منصوب على الظرف ، أي : صحوة ويقيد كل ظرف بما يناسبه من الحال فيقيد البيات بالنوم والضحى باللعب ، وجاء ( نائمون ) باسم الفاعل ؛ لأنها حالة ثبوت ، واستقرار للبائتين ، وجاء ( يلعبون ) بالمضارع ؛ لأنهم مشتغلون بأفعال متجددة شيئا فشيئا في ذلك الوقت ، وقرأ نافع والابنان ( أو أمن ) بسكون الواو ، جعل أو عاطفة ومعناها التنويع لا أن معناها الإباحة ، أو التخيير خلافا لمن ذهب إلى ذلك وحذف ورش همزة ( أمن ) ونقل حركتها إلى الواو الساكنة ، والباقون بهمزة الاستفهام بعدها واو العطف ، وتكرر لفظ أهل القرى لما في ذلك من التسميع والإبلاغ والتهديد والوعيد بالسامع ما لا يكون في الضمير لو جاء ، أو أمنوا فإنه متى قصد التفخيم والتعظيم والتهويل جيء بالاسم الظاهر .

( أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) جاء العطف بالفاء ، وإسناد الفعل إلى الضمير ؛ لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله : أفأمن أهل القرى ، ( أو أمن ) وتأكيد لمضمون ذلك فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء ، ومكر مصدر أضيف إلى الفاعل وهو استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ، قال ابن عطية : و ( مكر الله ) هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول ناقة الله وبيت الله والمراد فعل معاقب به مكر الكفرة ، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب ، فإن العرب تسمي العقوبة على أي جهة كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة ، وهذا نص في قوله : و ( مكروا ) و ( مكر الله ) . انتهى . وقال عطية العوفي : مكر الله عذابه وجزاؤه على مكرهم ، وقيل : مكره استدراجه بالنعمة والصحة وأخذه على غرة وكرر المكر مضافا إلى الله تحقيقا لوقوع جزاء المكر بهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية