الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) نزلت عقب بدر ، فقيل : خطاب للمهاجرين خاصة كانوا بمكة قليلي العدد مقهورين فيها يخافون أن يسلبهم المشركون ، قال ابن عباس فآواهم بالمدينة ، وأيدهم بالنصر يوم بدر ، والطيبات الغنائم ، وما فتح به عليهم ; وقيل : الخطاب للرسول والصحابة وهي حالهم يوم بدر ، والطيبات الغنائم ، والناس عسكر مكة وسائر القبائل المجاورة ، والتأييد هو الإمداد بالملائكة والتغلب على العدد ، وقال وهب وقتادة : الخطاب للعرب قاطبة ، فإنها كانت أعرى الناس أجساما وأجوعهم بطونا وأقلهم حالا حسنة ، والناس فارس والروم ، والمأوى النبوة والشريعة ، والتأييد بالنصر فتح البلاد وغلبة الملوك ، والطيبات تعم المآكل والمشارب والملابس ، قال ابن عطية : هذا التأويل يرده أن العرب كانت في وقت نزول هذه الآية كافرة إلا القليل ، ولم تترتب الأحوال التي ذكر هذا المتأول ، وإنما كان يمكن أن يخاطب العرب بهذه الآية في آخر زمان عمر رضي الله عنه ، فإن تمثل أحد بهذه الآية بحال العرب فتمثيله صحيح ، وأما أن يكون حالة العرب هي سبب نزول الآية فبعيد لما ذكرناه ، انتهى ، وهذه الآية تعديل لنعمه تعالى عليهم ، قال الزمخشري : إذ أنتم ، نصب على أنه مفعول به لاذكروا ظرف ، أي : اذكروا وقت كونكم أقلة أذلة ، انتهى ، وفيه التصرف في إذ بنصبها مفعولة وهي من الظروف التي لا تتصرف إلا بأن أضيف إليها الأزمان ، وقال ابن عطية : وإذ ظرف لمعمول واذكروا ، تقديره : [ ص: 486 ] واذكروا حالكم الكائنة ، أو الثابتة ; إذ أنتم قليل ، ولا يجوز أن تكون إذ ظرفا لاذكروا ، وإنما تعمل اذكر في إذ لو قدرناها مفعولة ، انتهى ، وهو تخريج حسن . وقال الحوفي : إذ أنتم ظرف العامل فيه اذكروا ، انتهى ، وهذا لا يتأتى أصلا ; لأن اذكر للمستقبل ، فلا يكون ظرفه إلا مستقبلا ، وإذ ظرف ماض يستحيل أن يقع فيه المستقبل ، ولعلكم تشكرون متعلق بقوله : فآواكم وما بعده ، أي : فعل هذا الإحسان لإرادة الشكر .

( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) قال ابن عباس والأكثرون : نزلت في أبي لبابة حين استنصحته قريظة لما أتى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسيرهم إلى أذرعات وأريحا كفعله ببني النضير ، فأشار أبو لبابة إلى حلقه ، أي : ليس عند الرسول إلا الذبح ، فكانت هذه خيانته في قصة طويلة ، وقال جابر : في رجل من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بشيء من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال المغيرة بن شعبة : في قتل عثمان . قال ابن عطية : ويشبه أن يتمثل بالآية في قتله ؛ فقد كان قتله خيانة لله ورسوله والأمانات ، انتهى ; وقيل : في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يعلمهم بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم إليها ; وقيل : في قوم كانوا يسمعون الحديث من الرسول فيفشونه حتى يبلغ المشركين ، وخيانتهم الله في عدم امتثال أوامره وفعل ما نهى عنه في سر ، وخيانة الرسول فيما استحفظ ، وخيانة الأمانات إسقاطها وعدم الاعتبار بها ; وقيل : وتخونوا ذوي أماناتكم ( وأنتم تعلمون ) جملة حالية ، أي : وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله ، فكان ذلك أبعد لكم من الوقوع في الخيانة ; لأن العالم بما يترتب على الذنب يكون أبعد الناس عنه ; وقيل : وأنتم تعلمون أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو ; وقيل : وأنتم عالمون تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن ، وجوزوا في ( وتخونوا ) أن يكون مجزوما عطفا على لا تخونوا ، ومنصوبا على جواب النهي ، وكونه مجزوما هو الراجح ; لأن النصب يقتضي النهي عن الجمع ، والجزم يقتضي النهي عن كل واحد ، وقرأ مجاهد ( أمانتكم ) على التوحيد ، وروي ذلك عن أبي عمرو .

( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ) ، أي : سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم ، أو العذاب ، أو محنة ، واختبار لكم وكيف تحافظون على حدوده فيها ، ففي كون الأجر العظيم عنده إشارة إلى أن لا يفتن المرء بماله وولده ، فيؤثر محبته لهما على ما عند الله فيجمع المال ويحب الولد حتى يؤثر ذلك ، كما فعل أبو لبابة لأجل كون ماله وولده كانوا عند بني قريظة .

( يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ) فرقانا قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك والسدي وابن قتيبة ومالك فيما روي عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب : مخرجا ، وقرأ مالك : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، والمعنى : مخرجا في الدين من الضلال ، وقال مزرد بن ضرار :


بادر الأفق أن يغيب فلما أظلم الليل لم يجد فرقانا



وقال الآخر :


ما لك من طول الأسى فرقان     بعد قطين رحلوا وبانوا



وقال الآخر :


وكيف أرجي الخلد والموت طالبي     وما لي من كأس المنية فرقان



وقال ابن زيد وابن إسحاق : فصلا بين الحق والباطل ، وقال قتادة وغيره : نجاة ، وقال الفراء : فتحا ونصرا ، وهو في الآخرة يدخلكم الجنة والكفار النار ، وقال ابن عطية : فرقا بين حقكم وباطل [ ص: 487 ] من ينازعكم ، أي : بالنصر والتأييد عليهم ، والفرقان مصدر من فرق بين الشيئين : حال بينهما ، وقال الزمخشري : نصرا ; لأنه يفرق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله ، ومنه قوله تعالى : ( يوم الفرقان ) ، أو بيانا وظهورا يشهد أمركم ويثبت صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض ، تقول : بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان ، أي : طلع الفجر ، أو مخرجا من الشبهات وتوفيقا وشرحا للصدور ، أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان ، وفضلا ومزية في الدنيا والآخرة ، انتهى ، ولفظ فرقانا مطلق فيصلح لما يقع به فرق بين المؤمنين والكافرين في أمور الدنيا والآخرة ، والتقوى هنا إن كانت من اتقاء الكبائر كانت السيئات الصغائر ليتغاير الشرط والجواز ، وتكفيرها في الدنيا ، ومغفرتها إزالتها في القيامة ، وتغاير الظرفان لئلا يلزم التكرار ، وتقدم تفسير ( والله ذو الفضل العظيم ) في البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية