الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) قال مشركو قريش للرسول : اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود ، وإن شئت من أساقفة النصارى ، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك ، فنزلت . ووجه نظمها بما قبلها أنه لما حكى حلف الكفار ، وأجاب بأنه لا فائدة في إظهار الآيات المقترحة لهم أنهم لا يبقون مصرين على الكفر بين الدليل على نبوته بإنزال القرآن عليه ، وقد عجز الخلق عن معارضته ، وحكم فيه بنبوته ، وباشتمال التوراة والإنجيل على أنه رسول حق ، وأن القرآن كتاب من عند الله حق . ووجه آخر وهو أنه لما ذكر العداوة وتهددهم قالوا ما ذكرناه في سبب النزول . وكان من عادتهم إذا التبس عليهم أمر واختلفوا فيه جعلوا بينهم كاهنا حكما ، فأمره الله أن يقول : ( [ ص: 209 ] أفغير الله أبتغي حكما ) ، وهذا استفهام معناه النفي ، أي : لا أبتغي حكما غير الله . قال الكرماني : والحكم أبلغ من الحاكم لأنه من عرف منه الحكم مرة بعد أخرى ، والحاكم اسم فاعل يصدق على المرة الواحدة . وقال إسماعيل الضرير : الفرق بينهما أن الحكم لا يحكم إلا بالحق ، والحاكم يحكم بالحق وبغير الحق . وقال ابن عطية نحوه ، قال : الحكم أبلغ من الحاكم ، إذ هي صيغة للعدل من الحكام ، والحاكم جار على الفعل ، وقد يقال للجائر . انتهى . وكأنه إشارة إلى حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات ، أو حكمه بأن جعل للأنبياء أعداء ، وحكما أي فاصلا بين الحق والباطل ، وجوزوا في إعراب ( غير ) أن يكون مفعولا بـ ( أبتغي ) وحكما حال ، وعكسه ، وأجاز الحوفي وابن عطية أن ينتصب على التمييز عن غيرهم ، كقولهم : إن لنا غيرها إبلا ، وهو متجه ، وحكاه أبو البقاء ، فالكتاب القرآن ، ومفصلا موضحا مزال الإشكال ، أو مفضلا بالوعد والوعيد ، أو مفصلا مفرقا على حسب المصالح أي لم ينزله مجموعا أو مفصلا فيه الأحكام من النهي والأمر والحلال والحرام والواجب والمندوب والضلال والهدى ، أو مفصلا مبينا فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء ، أقوال خمسة ، وبهذه الآية خاصمت الخوارج عليا في تكفيره بالتحكيم ، وهذه الجملة حالية .

( والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ) أي : والذين أعطيناهم علم التوراة والإنجيل والزبور والصحف ، والمراد علماء أهل الكتاب ، فهو عام بمعنى الخصوص ، وهذه الجملة تكون استئنافا ، وتتضمن الاستشهاد بمؤمني أهل الكتاب والطعن على مشركيهم وحسدتهم ، والعضد في الدلالة بأن القرآن حق ، يعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه كتبهم وموافقته لها .

( فلا تكونن من الممترين ) قيل : الخطاب للرسول خطاب لأمته . وقيل : لكل سامع ، أي إذا ظهرت الدلالة فلا ينبغي أن يمترى فيه . وقيل : هو من باب التهييج والإلهاب كقوله : ( ولا تكونن من المشركين ) . وقيل : ( فلا تكونن من الممترين ) في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ، ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم . وقرأ ابن عباس وحفص : ( منزل ) بالتشديد ، والباقون بالتخفيف .

( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) لما تقدم من أول السورة إلى هنا دلائل التوحيد والنبوة والبعث والطعن على مخالفي ذلك ، وكان من هنا إلى آخر السورة أحكام وقصص ناسب ذكر هذه الآيات هنا ، أي : تمت أقضيته وأقداره ، قاله ابن عباس . وقال قتادة : كلماته هو القرآن ، وقال الزمخشري : كل ما أخبر به وأمر ونهى ووعد وأوعد . وقال الحسن : صدقا في الوعد وعدلا في الوعيد . وقيل : في ما تضمن من خبر وحكم ، أو فيما كان وما يكون ، أو فيما أمر وما نهى ، أو في الترغيب والترهيب ، أو فيما قال : هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار ، أو في الثواب والعقاب ، أو في نصرة أوليائه وخذلان أعدائه ، أو في نصرة الرسول ببدر وإهلاك أعدائه ، أو في الإرشاد والإضلال ، أو في الغفران والتعذيب ، أو في الفضل والمنع ، أو في توسيع الرزق وتقتيره ، أو في إعطائه وبلائه . وهذه الأقوال أول القول فسر به الصدق والمعطوف فسر به العدل ، وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء ( صدقا وعدلا ) مصدرين في موضع الحال ، والطبري تمييزا ، وجوزه أبو البقاء . وقال ابن عطية : هو غير صواب ، وزاد أبو البقاء مفعولا من أجله ، وليس المعنى في ( تمت ) أنها كان بها نقص فكملت ، وإنما المعنى استمرت وصحت ، كما جاء في الحديث : " وتم حمزة على إسلامه " ، وكقوله تعالى : ( وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم ) أي : استمرت ، وهي عبارة عن نفوذ أقضيته . وقرأ الكوفيون هنا ( كلمة ) بالإفراد ، ونافع جميع ذلك ( كلمات ) بالجمع ، تابعه أبو عمرو وابن كثير هنا .

( لا مبدل لكلماته ) أي : لا مغير [ ص: 210 ] لأقضيته ولا مبدل لكلمات القرآن ، فلا يلحقها تغيير لا في المعنى ولا في اللفظ ، وفي حرف أبي : لا مبدل لكلمات الله .

( وهو السميع العليم ) أي : السميع لأقوالكم العليم بالضمائر .

( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) أي : وإن توافق فيما هم عليه من عبادة غير الله وشرع ما شرعوه بغير إذن الله أكثر ، لأن الأكثر إذ ذاك كانوا كفارا ، والأرض هنا الدنيا ، قاله ابن عباس . وقيل : أكثر من في الأرض رؤساء مكة ، والأرض خاص بأرض مكة ، وكثيرا ما ذم الأكثر في كتابه ، والغالب أنه لا يقال الأكثر إلا للذين يتبعون أهواءهم .

( إن يتبعون إلا الظن ) أي : ليسوا راجعين في عقائدهم إلى علم ولا فيما شرعوه إلى حكم الله .

( وإن هم إلا يخرصون ) أي : يقدرون ويحزرون ، وهذا تأكيد لما قبله . ومن المفسرين من خص هذه الطاعة واتباعهم الظن وتخرصهم بأمر الذبائح ، وحكي أن سبب النزول مجادلة المشركين الرسول في أمر الذبائح ، وقولهم : نأكل ما نقتل ولا نأكل ما قتل الله ، فنزلت مخبرة أنهم يقدرون بظنونهم وبخرصهم .

( إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) لما ذكر تعالى ( يضلوك عن سبيل الله ) أخبر أنه أعلم العالمين بالضال والمهتدي ، والمعنى أنه أعلم بهم وبك ، فإنهم الضالون وأنت المهتدي ، و ( من ) قيل : في موضع جر على إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله ، وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر ، نحو : زيد أضرب السيف ، أي : بالسيف . وقال أبو الفتح : في موضع نصب بـ ( أعلم ) بعد حذف حرف الجر ، وهذا ليس بجيد ; لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به ، وقال أبو علي : في موضع نصب بفعل محذوف ، أي : يعلم من يضل ، ودل على حذفه ( أعلم ) ومثله ما أنشده أبو زيد .


وأضرب منا بالسيوف القوانسا



أي : تضرب القوانس ، وهي إذ ذاك موصولة ، وصلتها ( يضل ) وجوز أبو البقاء أن تكون موصوفة بالفعل . وقال الكسائي والمبرد والزجاج ومكي : في موضع رفع ، وهي استفهامية مبتدأ ، والخبر ( يضل ) ، والجملة في موضع نصب بأعلم ، أي : أعلم أي الناس يضل ، كقوله ( لنعلم أي الحزبين ) ، وهذا ضعيف لأن التعليق فرع عن جواز العمل ، وأفعل التفضيل لا يعمل في المفعول به ، فلا يعلق عنه ، والكوفيون يجيزون إعمال أفعل التفضيل في المفعول به ، والرد عليهم في كتب النحو . وقرأ الحسن وأحمد بن أبي شريح : ( يضل ) بضم الياء ، وفاعل ( يضل ) ضمير ( من ) ، ومفعوله محذوف ، أي : من يضل الناس ، أو ضمير الله على معنى يجده ضالا أو يخلق فيه الضلال ، وهذه الجملة خبرية تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالما بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية