الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( تلك القرى نقص عليك من أنبائها ) الخطاب للرسول و ( القرى ) هي بلاد قوم نوح وهود وصالح وشعيب بلا خلاف بين المفسرين ، وجاءت الإشارة بتلك إشارة إلى بعد هلاكها وتقادمه وحصل الربط بين هذه وبين قوله ( ولو أن أهل القرى ) و ( نقص ) يحتمل إبقاؤه على حاله من الاستقبال ، والمعنى : قد قصصنا عليك ( من أنبائها ) ونحن نقص عليك أيضا منها مفرقا في السور ، ويجوز أن يكون عبر بالمضارع عن الماضي ، أي : ( تلك القرى ) قصصنا ، والإنباء هنا إخبارهم مع أنبيائهم ومآل عصيانهم ، و ( تلك ) مبتدأ و ( القرى ) خبر ( ونقص ) جملة حالية نحو قوله فتلك بيوتهم خاوية وفي الإخبار بالقرى معنى التعظيم لمهلكها ، كما قيل في قوله تعالى : ( ذلك الكتاب ) وفي قوله - عليه السلام - أولئك الملأ من قريش وكقول أمية :


تلك المكارم لا قعبان من لبن

ولما كان الخبر مقيدا بالحال أفاد كالتقييد بالصفة في قولك هو الرجل الكريم وأجازوا أن يكون ( نقص ) خبرا بعد خبر ، وأن يكون خبرا و ( القرى ) صفة ، ومعنى ( من ) التبعيض فدل على أن لها أنباء أخر لم تقص عليه ، وإنما قص ما فيه عظة وازدجار وادكار بما جرى على من خالف الرسل ليتعظ بذلك السامع من هذه الأمة .

[ ص: 353 ] ( ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ) قال أبي بن كعب : ليؤمنوا اليوم بما كذبوا من قبل يوم الميثاق ، وقال ابن عباس : ما كانوا ليخالفوا علم الله فيهم ، وقال يمان بن رئاب : بما كذبوا أسلافهم من الأمم الخالية لقوله : ( ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ) فالفعل في ( ليؤمنوا ) لقوم وفي ( بما كذبوا ) لقوم آخرين . وقيل : ( جاءتهم رسلهم ) بالمعجزات التي اقترحوها ( فما كانوا ليؤمنوا ) بعد المعجزات ( بما كذبوا ) به قبلها كما قال : قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ، وقال الكرماني : ( من قبل ) يعود على الرسل ، تقديره من قبل مجيء الرسل لم يسلب عنهم اسم الكفر والتكذيب ، بل بقوا كافرين مكذبين كما كانوا قبل الرسل ، قال الزمخشري : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله قبل مجيء الرسل ، أو مما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولا حتى جاءتهم الرسل ، أي : استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن باتوا مصرين لا يرعوون ، ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرار المواعظ عليهم ، وتتابع الآيات ، وقال ابن عطية : يحتمل أربعة وجوه من التأويل ، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذبوه لأول أمره ، ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل ، وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصرامة عليه ، ويؤيد هذا التأويل قوله : كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا من قبل فكان تكذيبهم سببا لأن يمنعوا الإيمان بعد ، والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر ، بل كفر كلهم ومشى بعضهم على سنن بعض في الكفر . أشار إلى هذا القول النقاش ، فكان الضمير في قوله : ( كانوا ) يختص بالآخرين ، والضمير في قوله : ( كذبوا ) يختص بالقدماء منهم ، والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم لو ردوا إلى الدنيا ومكنوا من العودة ليؤمنوا بما قد كذبوا به في حال حياتهم ودعا الرسول لهم . قاله مجاهد وقربه بقوله تعالى : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) وهذه أيضا صفة بليغة في اللجاج والثبوت على الكفر ، بل هي غاية في ذلك ، والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى بأنهم مكذبون به ، فحمل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرسل ، وذكر هذا القول المفسرون وقربوه بأن الله تعالى حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق ، وهو قول أبي بن كعب . انتهى كلام ابن عطية : والذي يظهر أن الضمير في " كانوا " وفي " ليؤمنوا " عائد على أهل القرى ، وأن الباء في " بما " ليست سببية ، فالمعنى أنهم انتفت عنهم قابلية الإيمان وقت مجيء الرسل بالمعجزات بما كذبوا به قبل مجيء الرسل بالمعجزات ، بل حالهم واحد قبل ظهور المعجزات ، وبعد ظهورها لم تجد عنهم شيئا ، وفي الإتيان بلام الجحود في ليؤمنوا مبالغة في نفي القابلية والوقوع وهو أبلغ من تسلط النفي على الفعل بغير لام ، وما في بما كذبوا موصولة والعائد منصوب محذوف ، أي : بما كذبوه ، وجوز أن تكون مصدرية ، قال الكرماني : وجاء هنا بما كذبوا فحذف متعلق التكذيب لما حذف المتعلق في ولو أن أهل القرى آمنوا وقوله : ولكن كذبوا وفي يونس أبرزه ، فقال : بما كذبوا به من قبل لما كان قد أبرز في فكذبوه فنجيناه ، ثم كذبوا بآياتنا فوافق الختم في كل منهما بما يناسب ما قبله . انتهى ملخصا .

[ ص: 354 ] ( كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ) ، أي : مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى حين انتفت عنهم قابلية الإيمان وتساوى أمرهم في الكفر قبل المعجزات وبعدها يطبع الله على قلوب الكافرين ممن أتى بعدهم ، قال الكرماني : تقدم ذكر الله بالصريح وبالكناية فجمع بينهما فقال : ( ونطبع على قلوبهم ) وختم بالصريح فقال : ( كذلك يطبع الله ) ، وفي يونس بنى على ما قبله بنون العظمة في قوله : فنجيناه ، وجعلناهم ، ثم بعثنا فناسب نطبع بالنون .

( وما وجدنا لأكثرهم من عهد ) ، أي : لأكثر الناس ، أو أهل القرى ، أو الأمم الماضية احتمالات ثلاثة . قاله التبريزي ، والعهد هنا هو الذي عوهدوا عليه في صلب آدم . قاله أبي ، وابن عباس ، أو الإيمان . قاله ابن مسعود ، ويدل عليه الأمن اتخذ عند الله عهدا ، وهو لا إله إلا الله فالمعنى من إيفاء ، أو التزام عهد ، وقيل : العهد هو وضع الأدلة على صحة التوحيد والنبوة إذ ذلك عهد في رقاب العقلاء ، كالعقود فعبر عن صرف عقولهم إلى النظر في ذلك بانتفاء وجدان العهد و ( من ) في ( من عهد ) زائدة تدل على الاستغراق لجنس العهد .

( وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) إن هنا هي المخففة من الثقيلة ووجد بمعنى علم ، ومفعول ( وجدنا ) الأولى ( أكثرهم ) ومفعول الثانية ( لفاسقين ) ، واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة وإن النافية ، وتقدم الكلام على ذلك في قوله : ( وإن كانت لكبيرة ) ودعوى بعض الكوفيين أن إن في نحو هذا التركيب هي النافية ، واللام بمعنى إلا ، وقال الزمخشري : وإن الشأن والحديث وجدنا . انتهى . ولا يحتاج إلى هذا التقدير ، وكان الزمخشري يزعم أن إن إذا خففت كان محذوفا منها الاسم ، وهو الشأن والحديث إبقاء لها على الاختصاص بالدخول على الأسماء ، وقد تقدم لنا تقدير نظير ذلك ورددنا عليه .

( ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) لما قص الله تعالى على نبيه أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما آل إليه أمر قومهم وكان هؤلاء لم يبق منهم أحد أتبع بقصص موسى وفرعون وبني إسرائيل إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات وأمته من أكثر الأمم تكذيبا وتعنتا واقتراحا وجهلا وكان قد بقي من أتباعه عالم وهم اليهود فقص الله علينا قصصهم لنعتبر ونتعظ وننزجر عن أن نتشبه بهم ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن بين موسى وشعيب عليهما السلام مصاهرة - كما حكى الله في كتابه - ونسبا لكونهما من نسل إبراهيم ولما استفتح قصة نوح بـ ( أرسلنا ) بنون العظمة أتبع ذلك قصة موسى فقال : ( ثم بعثنا ) والضمير في ( من بعدهم ) عائد على الرسل من قوله ( ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ) ، أو للأمم السابقة ، والآيات الحجج التي آتاه الله على قومه ، أو الآيات التسع ، أو التوراة أقوال ، وتعدية فظلموا بالباء إما على سبيل التضمين بمعنى كفروا بها ألا ترى إلى قوله : ( إن الشرك لظلم عظيم ) وإما أن تكون الباء سببية ، أي : ظلموا أنفسهم بسببها ، أو الناس حيث صدوهم عن الإيمان ، أو الرسول فقالوا : سحر وتمويه أقوال ، وقال الأصم : ظلموا تلك النعم التي آتاهم الله بأن استعانوا بها على معصية الله تعالى فانظر أيها السامع ما آل إليه أمر المفسدين الظالمين جعلهم [ ص: 355 ] مثالا توعد به كفرة عصر الرسول - عليه السلام - .

التالي السابق


الخدمات العلمية