الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) . هذه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، على ما كان يلقى من قومه ، وتأس بمن سبق من الرسل ، وهو نظير ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ) لأن ما كان مشتركا من ما لا يليق أهون على النفس مما يكون فيه الانفراد ، وفي التسلية والتأسي من التخفيف ما لا يخفى; وقالت الخنساء :


ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي     وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي

وقال بعض المولدين :


ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة     يواسيك أو يسليك أو يتوجع

ولما كان الكفار لا ينفعهم الاشتراك في العذاب ، ولا يتسلون بذلك ، نفى ذلك تعالى عنهم ، فقال : ( ولن [ ص: 80 ] ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) ، قيل : كان قوم يقولون : يجب أن يكون ملكا من الملائكة ، على سبيل الاستهزاء ، فيضيق قلب الرسول عند سماع ذلك ، فسلاه الله تعالى بإخباره أنه قد سبق للرسل قبلك استهزاء قومهم بهم; ليكون سببا للتخفيف عن القلب . وفي قوله تعالى : ( فحاق ) إلى آخره إخبار بما جرى للمستهزئين بالرسل قبلك ، ووعيد متيقن لمن استهزأ بالرسول ، عليه السلام ، وتثبيت للرسول على عدم اكتراثه بهم; لأن مآلهم إلى التلف ، والعقاب الشديد المرتب على الاستهزاء ، وأنه تعالى يكفيه شرهم وإذايتهم ، كما قال تعالى : ( إنا كفيناك المستهزئين ) . ومعنى ( سخروا ) استهزءوا ، إلا أن ( استهزأ ) تعدى بالباء ، وسخر بـ ( من ) ، كما قال : ( إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ) وبالباء تقول : سخرت به ، وتكرر الفعل هنا لخفة الثلاثي ، ولم يتكرر في ( ولقد استهزئ ) ، فكان يكون التركيب ( فحاق بالذين ) استهزءوا بهم لثقل ( استفعل ) . والظاهر في ( ما ) أن تكون بمعنى الذي ، وجوزوا أن تكون ( ما ) مصدرية . والظاهر أن الضمير في ( منهم ) عائد على الرسل; أي ( فحاق بالذين سخروا ) ، من الرسل ، وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون عائدا على غير الرسل . قال الحوفي : في أمم الرسل ، وقال أبو البقاء : على المستهزئين ، ويكون ( منهم ) حالا من ضمير الفاعل في ( سخروا ) . وما قالاه وجوزاه ليس بجيد ، أما قول الحوفي فإن الضمير يعود على غير مذكور ، وهو خلاف الأصل ، وأما قول أبي البقاء ، فهو أبعد; لأنه يصير المعنى ( فحاق بالذين سخروا ) كائنين من المستهزئين ، فلا حاجة لهذه الحال; لأنها مفهومة من قوله : ( سخروا ) . وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة ، بكسر دال ( ولقد استهزئ ) على أصل التقاء الساكنين . وقرأ باقي السبعة ، بالضم إتباعا ، ومراعاة لضم التاء ، إذ الحاجز بينهما ساكن ، وهو حاجز غير حصين .

( قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) لما ذكر تعالى ما حل بالمكذبين المستهزئين ، وكان المخاطبون بذلك أمة أمية ، لم تدرس الكتب ، ولم تجالس العلماء ، فلها أن تظافر في الإخبار بهلاك من أهلك بذنوبهم ، أمروا بالسير في الأرض ، والنظر فيما حل بالمكذبين; ليعتبروا بذلك ، وتتظافر مع الإخبار الصادق الحس ، فللرؤية من مزيد الاعتبار ، ما لا يكون ، كما قال بعض العصريين :


لطائف معنى في العيان ولم تكن     لتدرك إلا بالتزاور واللقا

والظاهر أن السير المأمور به ، هو الانتقال من مكان إلى مكان ، وأن النظر المأمور به ، هو نظر العين ، وأن الأرض هي ما قرب من بلادهم من ديار الهالكين بذنوبهم ، كأرض عاد ومدين ومدائن قوم لوط وثمود . وقال قوم : السير والنظر هنا ، ليسا حسيين ، بل هما جولان الفكر والعقل في أحوال من مضى من الأمم التي كذبت رسلها ، ولذلك قال الحسن : سيروا في الأرض لقراءة القرآن أي : اقرءوا القرآن وانظروا ما آل إليه أمر المكذبين ، واستعارة السير ( في الأرض ) لقراءة القرآن فيه بعد . وقال قوم : ( الأرض ) هنا عام; لأن في كل قطر منها آثارا لهالكين ، وعبرا للناظرين ، وجاء هنا خاصة ( ثم انظروا ) بحرف المهلة ، وفيما سوى ذلك بالفاء التي هي للتعقيب . وقال الزمخشري : في الفرق جعل [ ص: 81 ] النظر متسببا عن السير فكان السير سببا للنظر ، ثم قال : فكأنه قيل : ( سيروا ) لأجل النظر ، ولا تسيروا سير الغافلين ، وهنا معناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع ، وإيجاب النظر في آثار الهالكين ، ونبه على ذلك بـ ( ثم ) لتباعد ما بين الواجب والمباح انتهى . وما ذكره أولا متناقض; لأنه جعل النظر متسببا عن السير ، فكان السير سببا للنظر ، ثم قال : فكأنما قيل : ( سيروا ) لأجل النظر ، فجعل السير معلولا بالنظر ، فالنظر سبب له ، فتناقضا ، ودعوى أن الفاء تكون سببية ، لا دليل عليها ، وإنما معناها التعقيب فقط ، وأما مثل ضربت زيدا فبكى ، وزنى ماعز فرجم ، فالتسبيب فهم من مضمون الجملة; لأن الفاء موضوعة له ، وإنما يفيد تعقيب الضرب بالبكاء ، وتعقيب الزنا بالرجم فقط ، وعلى تسليم أن الفاء تفيد التسبيب ، فلم كان السير هنا سير إباحة ، وفي غيره سير واجب ؟ فيحتاج ذلك إلى فرق بين هذا الموضع ، وبين تلك المواضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية