الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) : ( من ) هنا سببية ، أي : من فقر ، لقوله ( خشية إملاق ) ، وقتل الولد حرام إلا بحقه ، وإنما ذكر هذا السبب لأنه كان العلة في قتل الولد عندهم ، وبين تعالى أنه هو الرازق لهم ولأولادهم ، وإذا كان هو الرازق فكما لا تقتل نفسك كذلك لا تقتل ولدك . ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين نهى عن الإساءة إلى الأولاد ، ونبه على أعظم الإساءة للأولاد هو إعدام حياتهم بالقتل خوف الفقر ، كما قال في الحديث وقد سئل عن أكبر الكبائر فذكر الشرك بالله ، وهو قوله : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " ثم قال : " وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك " وقال : " وأن تزاني حليلة جارك " ، وجاء هذا الحديث منتزعا من هذه الآية ، وجاء التركيب هنا ( نحن نرزقكم وإياهم ) ، وفي الإسراء ( نحن نرزقهم وإياكم ) ، فيمكن أن يكون ذلك من التفنن في الكلام ، ويمكن أن يقال في هذه الآية : جاء ( من إملاق ) ، فظاهره حصول الإملاق للوالد لا توقعه وخشيته ، وإن كان واجدا للمال ، فبدأ أولا بقوله : ( نحن نرزقكم ) خطابا للآباء وتبشيرا لهم بزوال الإملاق وإحالة الرزق على الخلاق الرزاق ، ثم عطف عليهم الأولاد . وأما في الإسراء فظاهر التركيب أنهم موسرون ، وأن قتلهم إياهم إنما هو لتوقع حصول الإملاق والخشية منه ، فبدئ فيه بقوله : ( نحن نرزقهم ) إخبارا بتكفله تعالى برزقهم ، فلستم أنتم رازقيهم ، وعطف عليهم الآباء ، وصارت الآيتان مفيدتين معنيين . أحدهما أن الآباء نهوا عن قتل الأولاد مع وجود إملاقهم . والآخر أنهم نهوا عن قتلهم وإن كانوا موسرين لتوقع الإملاق وخشيته ، وحمل [ ص: 252 ] الآيتين على ما يفيد معنيين أولى من التأكيد .

( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) المنقول فيما ( منها وما بطن ) كالمنقول في ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) وتقدم فأغنى عن إعادته . ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) هذا مندرج تحت عموم الفواحش إذ الأجود أن لا يخص الفواحش بنوع ما ، وإنما جرد منها قتل النفس تعظيما لهذه الفاحشة واستهوالا لوقوعها ولأنه لا يتأتى الاستثناء بقوله : ( إلا بالحق ) إلا من القتل لا من عموم الفواحش ، وقوله : ( التي حرم الله ) حوالة على سبق العهد في تحريمها فلذلك وصفت بالتي ، والنفس المحرمة هي المؤمنة والذمية والمعاهدة و ( بالحق ) بالسبب الموجب لقتلها كالردة والقصاص والزنا بعد الإحصان والمحاربة . ( ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) أشار إلى جميع ما تقدم وفي لفظ ( وصاكم ) من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإحسان ، ولما كان العقل مناط التكليف قال تعالى : ( لعلكم تعقلون ) أي فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا والوصاة الأمر المؤكد المقرر . وقال الأعشى :


أجدك لم تسمع وصاة محمد نبي الإله حين أوصى وأشهدا

( ولا تقربوا مال اليتيم ) هذا نهي عن القرب الذي يعم جميع وجوه التصرف ، وفيه سد الذريعة ( إلا بالتي هي أحسن ) أي بالخصلة التي هي أحسن في حق اليتيم ولم يأت إلا " بالتي هي حسنة " ، بل جاء بأفعل التفضيل مراعاة لمال اليتيم وأنه لا يكفي فيه الحالة الحسنة بل الخصلة الحسنى وأموال الناس ممنوع من قربانها ، ونص على ( اليتيم ) لأن الطمع فيه أكثر لضعفه وقلة مراعاته . قال ابن عباس وابن زيد ( التي هي أحسن ) هو أن يعمل له عملا مصلحا فيأكل منه بالمعروف وقت الحاجة ، وقال الزجاج : حفظه وزيادته ، وقال الضحاك : حفظ ربحه بالتجارة ولا يأخذ منه شيئا ، وقال مجاهد : التي هي أحسن التجارة فمن كان من الناظرين له مال يعيش به فالأحسن إذا أثمر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرها ، ومن كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه أنفق من ربح نظره . وقيل : الانتفاع بدوابه واستخدام جواريه لئلا يخرج الأولياء بالمخالطة . ذكره المروزي . وقيل لا يأكل منه إلا قرضا وهذا بعيد وأي أحسنية في هذا . ( حتى يبلغ أشده ) هذه غاية من حيث المعنى لا من حيث هذا التركيب اللفظي ، ومعناه احفظوا على اليتيم ماله إلى بلوغ أشده فادفعوه إليه . وبلوغ الأشد هنا لليتيم هو بلوغ الحلم . قاله الشعبي وزيد بن أسلم ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك . وحكى ابن عطية عن الشعبي وربيعة ومالك وأبي حنيفة إنه البلوغ مع أنه لا يثبت فسقه وقد نقل في تفسير الأشد أقوال لا يمكن أن تجيء هنا وكأنها نقلت في قوله ( ولما بلغ أشده ) فعن ابن عباس ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين ، وعنه ثلاث وثلاثون ، وعن ابن جبير ومقاتل : ثماني عشرة ، وعن السدي : ثلاثون ، وعن الثوري : أربع وثلاثون ، وعن عكرمة : خمس وعشرون ، وعن عائشة : أربعون ، وعن أبي العالية : عقله واجتماع قوته ، وعن بعضهم : من خمسة عشر إلى ثلاثين ، وعن بعضهم : ستون سنة [ ص: 253 ] ذكره البغوي . وأشد جمع شدة أو شد أو شد أو جمع لا واحد له من لفظه أو مفرد لا جمع له ، أقوال خمسة ، اختار ابن الأنباري في آخرين الأخير وليس بمختار لفقدان أفعل في المفردات وضعا وأشد مشتق من الشدة وهي القوة والجلادة . وقيل : أصله الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع . قال عنترة :


عهدي به شد النهار كأنما     خضب اللبان ورأسه بالعظلم

( وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ) أي بالعدل والتسوية . وقيل : القسط هنا أدنى زيادة ليخرج بها عن العهدة بيقين لما روي : إذا وزنتم فأرجحوا ( لا نكلف نفسا إلا وسعها ) أي إلا ما يسعها ولا تعجز عنه ، ولما كانت مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان يجري فيها الحرج ذكر بلوغ الوسع وأن ما وراءه معفو عنه ، فالواجب في إيفاء الكيل والميزان هو القدر الممكن وأما التحقيق فغير واجب قال معناه الطبري . وقيل : المعنى لا نكلف ما فيه تلفه وإن جاز كقوله : ( أن اقتلوا أنفسكم ) فعلى هذا لا يكون راجعا إلى إيفاء الكيل والميزان ، ولذلك قال ابن عطية : يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز لا أنه مطالب بغاية العدل في نفس الشيء المتصرف فيه . ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) أي ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة للقائل فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص ، ويدخل في ذي القربى نفس القائل ووالداه وأقربوه ، فهو ينظر إلى قوله : ( ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) وعنى بالقول هنا ما لا يطلع عليه إلا بالقول من أمر وحكم وشهادة زجر ووساطة بين الناس وغير ذلك لكونها منوطة بالقول ، وتخصيصه بالحكم أو بالأمر أو بالشهادة ، أقوال لا دليل عليها على التخصيص . ( وبعهد الله أوفوا ) ويحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل أي بما عهدكم الله عليه أوفوا ، وأن يكون مضافا إلى المفعول أي بما عهدتم الله عليه . وقيل : يحتمل أن يراد به العهد بين الإنسانين وتكون إضافته إلى الله تعالى من حيث أمر بحفظه والوفاء به . قال الماتريدي : أمره ونهيه في التحليل والتحريم . وقال التبريزي : بعهده يوم الميثاق . وقال ابن الجوزي : يشمل ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره . ( ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ) ولما كانت الخمسة المذكورة قبل هذا من الأمور الظاهرة الجلية وجب تعلقها وتفهمها فختمت بقوله : (لعلكم تعقلون ) وهذه الأربعة خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والذكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله : ( لعلكم تذكرون ) . وقرأ حفص والأخوان ( تذكرون ) حيث وقع بتخفيف الذال حذفت التاء إذ أصله تتذكرون ، وفي المحذوف خلاف أهي تاء المضارعة أو تاء تفعل . وقرأ باقي السبعة ( تذكرون ) بتشديده أدغم تاء تفعل في الذال .

التالي السابق


الخدمات العلمية