الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ) لما ذكر في هذه السورة مبدأ الخلق الإنساني وهو آدم - عليه السلام - وقص من أخباره ما قص واستطرد من ذلك إلى المعاد ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاوة إلى النار وأمره تعالى بترك الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وكان من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولا غير مستجيبين له ولا مصدقين لما جاء به عن الله قص تعالى عليه أحوال الرسل الذين كانوا قبله وأحوال من بعثوا إليه على سبيل التسلية له والتأسي بهم ، فبدأ بنوح إذ هو آدم الأصغر وأول رسول بعث إلى من في الأرض ، وأمته أدوم تكذيبا له وأقل استجابة ، وتقدم رفع نسبه إلى آدم ، وكان نجارا بعثه الله إلى قومه وهو ابن أربعين سنة . قاله ابن عباس ، وقيل : ابن خمسين ، [ ص: 320 ] وقال مقاتل : ابن مائة ، وقيل : ابن مائتين وخمسين ، وقيل : ابن ثلاثمائة . وقال عون بن شداد : ابن ثلاثمائة وخمسين ، وقال وهب : ابن أربعمائة ، وهذا اضطراب كثير من أربعين إلى أربعمائة فما بينهما ، وروي أن الطوفان كان سنة ألف وستمائة من عمره وهو أول الرسل بعد آدم بتحريم البنات والأخوات والعمات والخالات ، وجميع الخلق الآن من ذرية نوح - عليه السلام - وعن الزهري أن العرب وفارس والروم وأهل الشام واليمن من ذرية سام بن نوح ، والهند والسند والزنج والحبشة والزط والنوبة وكل جلد أسود من ولد حام بن نوح ، والترك والبربر ووراء الصين ويأجوج ومأجوج والصقالبة من ولد يافث بن نوح .

ولقد أرسلنا استئناف كلام دون واو وفي هود : والمؤمنون ، ولقد ، بواو العطف ، قال الكرماني : لما تقدم ذكر الرسول مرات في هود وتقدم ذكر نوح ضمنا في قوله " وعلى الفلك " ؛ لأنه أول من صنعها عطف في السورتين . انتهى . واللام جواب قسم محذوف أكد تعالى هذا الإخبار بالقسم ، قال الزمخشري : فإن قلت : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع قد ، وقل عنهم قوله :


حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا . . . . . . .

قلت : إنما كان ذلك ؛ لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها ، فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى قد عند استماع المخاطب كلمة القسم . انتهى . وبعض أصحابنا يقول إذا أقسم على جملة مصدرة بماض مثبت متصرف ، وكان قريبا من زمان الحال أثبت مع اللام بقد الدالة على التقريب من زمن الحال ولم تأت بقد ، بل باللام وحدها إن لم يرد التقريب ، قال ابن عباس : ( أرسلنا ) بعثنا ، وقال غيره حملناه رسالة يؤديها فعلى هذا تكون الرسالة متضمنة للبعث ، وهنا فقال بفاء العطف وكذا في : " المؤمنون " في قصة عاد وصالح وشعيب ، هنا قال بغير فاء ، والأصل الفاء ، وحذفت في القصتين توسعا واكتفاء بالربط المعنوي ، وفي قصة نوح في هود ( إني لكم ) على إضمار القول ، أي : فقال إني . وفي ندائه قومه تنبيه لهم لما يلقيه إليهم واستعطاف وتذكير بأنهم قومه ، فالمناسب أن لا يخالفوه ومعمول القول جملة الأمر بعبادة الله وحده ورفض آلهتهم المسماة ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وغيرها ، والجملة المنبهة على الوصف الداعي إلى عبادة الله ، وهو انفراده بالألوهية ، المرجو إحسانه المحذور انتقامه دون آلهتهم ولم تأت بحرف عطف ؛ لأنها بيان وتفسير لعلة اختصاصه تعالى بأن يعبد ، وقرأ ابن وثاب ، والأعمش ، وأبو جعفر ، والكسائي ( غيره ) بالجر على لفظ ( إله ) بدلا ، أو نعتا ، وقرأ باقي السبعة ( غيره ) بالرفع عطفا على موضع ( من إله ) ؛ لأن من زائدة بدلا ، أو نعتا ، وقرأ عيسى بن عمر ، ( غيره ) بالنصب على الاستثناء ، والجر والرفع أفصح ، و ( من إله ) مبتدأ و ( لكم ) في موضع الخبر ، وقيل : الخبر محذوف ، أي : في الوجود و ( لكم ) تبيين وتخصيص ، و ( أخاف ) قيل : بمعنى أتيقن وأجزم ؛ لأنه عالم أن العذاب ينزل بهم إن لم يؤمنوا ، وقيل : الخوف على بابه بمعنى الحذر ؛ لأنه جوز أن يؤمنوا ، وأن يستمروا على كفرهم و ( يوم عظيم ) هو يوم القيامة ، أو يوم حلول العذاب بهم في الدنيا ، وهو الطوفان وفي هذه الجملة إظهار الشفقة والحنو عليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية