الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ) لما أخبر أنه لا يتبع إلا ما يوحى إليه أمره الله - تعالى - أن ينذر به فقال : ( وأنذر به ) أي بما أوحي إليك . وقيل : يعود على الله أي بعذاب الله . وقيل : يعود على الحشر ، وهو مأمور بإنذار الخلائق كلهم ، وإنما خص بالإنذار هنا من خاف الحشر لأنه مظنة الإيمان ، وكأنه قيل : الكفرة المعرضون دعهم ورأيهم وأنذر بالقرآن من يرجى إيمانه . وروى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في الموالي منهم بلال وصهيب وخباب وعمار ومهجع وسلمان وعامر بن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة ، وظاهر قوله : ( الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ) عموم من خاف الحشر وآمن بالبعث من مسلم ويهودي [ ص: 135 ] ونصراني فلا يتخصص بالمسلمين المقرين بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهم يتقون ، أي يدخلون في زمرة أهل التقوى ، ولا بأهل الكتاب ولا بناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقا فيهلكوا ، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار دون المتمردين منهم و ( يخافون ) باق على حقيقته أي يخافون ما يترتب على الحشر من مؤاخذتهم بذنوبهم ، وأما الحشر فمتحقق . وقال الطبري : يخافون هنا يعلمون ، ومعنى إلى ربهم أي إلى جزاء ربهم أي موعوده ، وقد تعلق بهذه الآية المجسمة بأن الله في حيز ومكان مختص وجهة معينة لأن كلمة إلى لانتهاء الغاية .

( ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ) قال الزمخشري : في موضع الحال من ( يحشروا ) بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم ولا بد من هذه الحال ; لأن كلا محشور فالخوف إنما هو الحشر على هذه الحال . وقال ابن عطية : إن جعلناه داخلا في الخوف كان في موضع الحال أي يخافون أن يحشروا في حال من لا ولي له ولا شفيع ، فهي مختصة بالمؤمنين المسلمين لأن اليهود والنصارى يزعمون أن لهم شفعاء وأنهم أبناء الله ونحو هذا من الأباطيل ، وإن جعلناه إخبارا من الله عن صفة الحال يومئذ فهي عامة للمسلمين وأهل الكتاب .

( لعلهم يتقون ) ترجئة لحصول تقواهم إذا حصل الإنذار .

( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) قال سعد بن أبي وقاص : نزلت فينا ستة ، في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال ، قالت قريش : إنا لا نرضى أن نكون لهؤلاء تبعا فاطردهم عنك فنزلت . وقال خباب بن الأرت : فينا نزلت ، كنا ضعفاء عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا بالغداة والعشي ما ينفعنا ، فقال الأقرع بن حابس وعيينة بن حصين : إنا من أشراف قومنا وإنا نكره أن يرونا معهم فاطردهم إذا جالسناك ، فنزلت ، فأتيناه وهو يقول : ( سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ) ، فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته ، وهذا فيه بعد ; لأن الآية مكية وهؤلاء الأشراف لم ينذروا إلا بالمدينة . وفي رواية عن خباب : فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله - تعالى - ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) الآية ، فكان يقعد معنا فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه قمنا وتركناه حتى يقوم . وروى العوفي عن ابن عباس : أن ناسا من الأشراف قالوا : نؤمن بك وإذا صلينا خلفك فأخر هؤلاء الذين معك فيصلوا خلفنا ، فيكون الطرد تأخرهم من الصف لا طردهم من المجلس . ورويت هذه الأسباب بزيادة ونقص ، ومضمونها أن ناسا من أشراف العرب سألوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - طرد فقراء المؤمنين عنه فنزلت ، ولما أمر تعالى بإنذار غير المتقين لعلهم يتقون أردف ذلك بتقريب المتقين وإكرامهم ونهاه عن طردهم ووصفهم بموافقة ظاهرهم لباطنهم من دعاء ربهم وخلوص نياتهم ، والظاهر من قوله تعالى : ( يدعون ربهم ) يسألونه ويلجأون إليه ويقصدونه بالدعاء والرغبة ، ( بالغداة والعشي ) كناية عن الزمان الدائم ولا يراد بهما خصوص زمانهما كما تقول : الحمد لله بكرة وأصيلا تريد في كل حال ، فكنى بالغداة عن النهار وبالعشي عن الليل ، أو خصهما بالذكر لأن الشغل فيهما غالب على الناس ومن كان في هذين الوقتين يغلب عليه ذكر الله ودعاؤه كان في وقت الفراغ أغلب عليه . وقيل : المراد بالدعاء الصلاة المكتوبة . فقال الحسن ومقاتل : هي الصلاة بمكة التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشيا . وقال قتادة ومجاهد في رواية عنه : هي صلاة الصبح والعصر . وقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد في رواية وإبراهيم : هي الصلوات الخمس . وقال بعض القصاص : إنه الاجتماع إليهم [ ص: 136 ] غدوة وعشيا فأنكر ذلك ابن المسيب وعبد الرحمن بن أبي عمرة وغيرهما ، وقالوا : الآية في الصلوات في الجماعة . وقال أبو جعفر : هي قراءة القرآن وتعلمه . وقال الضحاك : العبادة . وقال إبراهيم في رواية : ذكر الله . وقال الزجاج : دعاء الله - تعالى - بالتوحيد والإخلاص وعبادته . وقرأ الجمهور : بالغداة . وقرأ ابن عامر وأبو عبد الرحمن ومالك بن دينار والحسن ونصر بن عاصم وأبو رجاء العطاردي : بالغدوة . وروي عن أبي عبد الرحمن أيضا : بالغدو بغير هاء . وقرأ ابن أبي عبلة : بالغدوات والعشيات بالألف فيهما على الجمع ، والمشهور في غدوة أنها معرفة بالعلمية ممنوعة الصرف . قال الفراء : سمعت أبا الجراح يقول : ما رأيت كغدوة قط يريد غداة يومه ، قال : ألا ترى أن العرب لا تضيفها ، فكذا لا تدخلها الألف واللام إنما يقولون : جئتك غداة الخميس . انتهى . وحكى سيبويه والخليل أن بعضهم ينكرها فيقول : رأيته غدوة بالتنوين ، وعلى هذه اللغة قرأ ابن عامر ومن ذكر معه وتكون إذ ذاك كفينة . حكى أبو زيد : لقيته فينة غير مصروف ، ولقيته الفينة بعد الفينة أي الحين بعد الحين ، ولما خفيت هذه اللغة على أبي عبيد أساء الظن بمن قرأ هذه القراءة فقال : إنما نرى ابن عامر والسلمي قرآ تلك القراءة اتباعا للخط ، وليس في إثبات الواو في الكتاب دليل على القراءة بها ; لأنهم كتبوا الصلاة والزكاة بالواو ولفظهما على تركها وكذلك الغداة ، على هذا وجدنا العرب . انتهى . وهذا من أبي عبيد جهل بهذه اللغة التي حكاها سيبويه والخليل وقرأ بها هؤلاء الجماعة ، وكيف يظن بهؤلاء الجماعة القراء أنهم إنما قرءوا بها لأنها مكتوبة في المصحف بالواو ، والقراءة إنما هي سنة متبعة ، وأيضا فابن عامر عربي صريح كان موجودا قبل أن يوجد اللحن لأنه قرأ القرآن على عثمان بن عفان ، ونصر بن عاصم أحد العرب الأئمة في النحو ، وهو ممن أخذ علم النحو عن أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو ، والحسن البصري من الفصاحة بحيث يستشهد بكلامه ، فكيف يظن بهؤلاء أنهم لحنوا ؟ انتهى . واغتروا بخط المصحف ، ولكن أبو عبيدة جهل هذه اللغة وجهل نقل هذه القراءة فتجاسر على ردها ، عفا الله عنه . والظاهر أن العشي مرادف للعشية ، ألا ترى قوله : ( إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد ) . وقيل : هو جمع عشية ، ومعنى ( يريدون وجهه ) يخلصون نياتهم له في عبادتهم ، ويعبر عن ذات الشيء وحقيقته بالوجه . وقال ابن عباس : يطلبون ثواب الله ، والجملة في موضع الحال ، وقد استدل بقوله : ( وجهه ) من أثبت الأعضاء لله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

( ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء ) قال الحسن والجمهور : الحساب هنا حساب الأعمال . وقيل : حساب الأرزاق أي لا ترزقهم ولا يرزقونك حكاه الطبري . وقال الزمخشري : كقوله ( إن حسابهم إلا على ربي ) وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم فقال : ( ما عليك من حسابهم من شيء ) بعد شهادته لهم [ ص: 137 ] بالإخلاص وبإرادة وجه الله تعالى في أعمالهم وإن كان الأمر كما يقولون عند الله ، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك ، كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم كقوله ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) انتهى . ولا يمكن ما ذكره من الترديد في قوله : وإن كان الأمر إلى آخره لأنه تعالى قد أخبر بأنهم ( يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) وإخبار الله تعالى هو الصدق الذي لا شك فيه فلا يقال فيهم وإن كان الأمر كما يقولون وإن كان لهم باطن غير مرضي لأنه فرض مخالف لما أخبر الله تعالى به من خلوص بواطنهم ونياتهم له تعالى .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما كفى قوله : ( ما عليك من حسابهم من شيء ) حتى ضم إليه ( وما من حسابك عليهم من شيء ) ( قلت ) : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصدهما مؤدى واحد وهو المعني في قوله ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه ; انتهى . وقوله : كأنه قيل لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه تركيب غير عربي ، لا يجوز عود الضمير هنا غائبا ولا مخاطبا لأنه إن أعيد غائبا فلم يتقدم له اسم مفرد غائب يعود عليه ، إنما يتقدم قوله : ولا هم ولا يمكن العود إليه على اعتقاد الاستغناء بالمفرد عن الجمع لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم وإن أعيد مخاطبا فلم يتقدم له مخاطب يعود عليه إنما تقدم قوله : لا تؤاخذ أنت ، ولا يمكن العود إليه لأنه مخاطب فلا يعود عليه غائبا ولو أبرزته مخاطبا لم يصح التركيب أيضا وإصلاح هذا التركيب أن يقال : لا يؤاخذ كل واحد منكم ولا منهم بحساب صاحبه أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك ، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم فتغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وزيد تضربان ، والظاهر أن الضمائر كلها عائدة على ( الذين يدعون ) . وقيل : الضمير في ( من حسابهم ) وفي ( عليهم ) عائد على المشركين وتكون الجملتان اعتراضا بين النهي وجوابه ، قال الزمخشري : والمعنى لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويحركك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الضمير في ( حسابهم ) و ( عليهم ) للكفار الذين أرادوا طرد المؤمنين أي ما عليك منهم آمنوا ولا كفروا فتطرد هؤلاء رعيا بذلك ، والضمير في تطردهم عائد على الضعفة من المؤمنين ويؤيد هذا التأويل أن ما بعد الفاء أبدا سبب ما قبلها وذلك لا يبين إذا كانت الضمائر كلها للمؤمنين . وحكى الطبري أن الحساب هنا إنما [ ص: 138 ] هو في رزق الدنيا أي لا ترزقهم ولا يرزقونك ، قال : فعلى هذا تجيء الضمائر كلها للمؤمنين ; انتهى .

ومن في ( من حسابهم ) وفي ( من حسابك ) مبعضة في موضع نصب على الحال في ( من حسابهم ) وذو الحال هو من شيء لأنه لو تأخر من حسابهم لكان في موضع النعت لشيء فلما تقدم انتصب على الحال و ( عليك ) في موضع الخبر لما إن كانت حجازية ، وأجزنا توسط خبرها إذا كانت ظرفا أو مجرورا ، وفي موضع خبر المبتدإ إن لم نجز ذلك أو اعتقدنا أن ما تميمية وأما في ( من حسابك ) فقيل : هو في موضع نصب على الحال ويضعف ذلك بأن الحال إذا كان العامل فيها معنى الفعل لم يجز تقديمها عليه خصوصا إذا تقدمت على العامل وعلى ذي الحال . وقيل : يجوز أن يكون الخبر ( من حسابك ) و ( عليهم ) صفة لشيء تقدمت عليه فانتصب على الحال وهذا ضعيف لأن عليهم هو محط الفائدة فترجح أن يكون هو الخبر ، ويكون من حسابك على هذا تبيينا لا حالا ولا خبرا وانظر إلى حسن اعتنائه بنبيه وتشريفه بخطابه حيث بدأ به في الجملتين معا فقال : ( ما عليك من حسابهم من شيء ) ثم قال : ( وما من حسابك عليهم من شيء ) فقدم خطابه في الجملتين وكان مقتضى التركيب الأول لو لوحظ أن يكون التركيب الثاني ( وما عليهم من حسابك من شيء ) لكنه قدم خطاب الرسول وأمره تشريفا له عليهم واعتناء بمخاطبته ، وفي هاتين الجملتين رد العجز على الصدر ، ومنه قول الشاعر :


وليس الذي حللته بمحلل وليس الذي حرمته بمحرم



( فتطردهم فتكون من الظالمين ) الظاهر أن قوله : ( فتطردهم ) جواب لقوله ( ما عليك من حسابهم من شيء ) ويكون النصب هنا على أحد معنيي النصب في قولك : ما تأتينا فتحدثنا لأن أحد معنيي هذا ما تأتينا محدثا إنما تأتي ولا تحدث ، وهذا المعنى لا يصح في الآية والمعنى الثاني ما تأتينا فكيف تحدثنا ؟ أي لا يقع هذا فكيف يقع هذا ، وهذا المعنى هو الذي يصح في الآية أن لا يكون حسابهم عليك فيكون وقع الطرد ، وأطلقوا جواب أن يكون ( فتطردهم ) جوابا للنفي ولم يبينوا كيفية وقوعه جوابا والظاهر في قوله : ( فتكون من الظالمين ) أن يكون معطوفا على ( فتطردهم ) والمعنى الإخبار بانتفاء حسابهم وانتفاء الطرد والظلم المتسبب عن الطرد ، وجوزوا أن يكون ( فتكون ) جوابا للنهي في قوله : ( ولا تطرد ) كقوله : ( لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ) وتكون الجملتان وجواب الأولى اعتراضا بين النهي وجوابه ، ومعنى ( من الظالمين ) من الذين يضعون الشيء في غير مواضعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية