الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) لو التي ليست شرطا في المستقبل تقلب المضارع للمضي ، فالمعنى : لو رأيت وشاهدت ، وحذف جواب لو جائز بليغ حذفه في مثل هذا ; لأنه يدل على التعظيم ، أي : لرأيت أمرا عجيبا وشأنا هائلا ، كقوله : ولو ترى إذ وقفوا على النار ، والظاهر أن الملائكة فاعل يتوفى ، ويدل عليه قراءة ابن عامر والأعرج : ( تتوفى ) ، بالتاء ، وذكر في قراءة غيرهما ; لأن تأنيث الملائكة مجاز ، وحسنه الفضل ; وقيل : الفاعل في هذه القراءة الفاعل ضمير الله ، والملائكة مبتدأ ، والجملة حالية ، كهي في يضربون ، قالابن عطية : ويضعفه سقوط واو الحال فإنها في الأغلب تلزم مثل هذا ، انتهى ، ولا يضعفه إذ جاء بغير واو في كتاب الله ، وفي كثير من كلام العرب ، والملائكة ملك الموت ، وذكر بلفظ الجمع تعظيما ، أو هو وأعوانه من الملائكة ، فيكون التوفي قبض أرواحهم ، أو الملائكة الممد بهم يوم بدر ، والتوفي قتلهم ذلك اليوم ، أو ملائكة العذاب فالتوفي سوقهم إلى النار ، أقوال ثلاثة ، والظاهر حقيقة الوجوه والأدبار كناية عن الأستاه . قال مجاهد : وخصا بالضرب ; لأن الخزي والنكال فيهما أشد ; وقيل : ما أقبل منهم وما أدبر فيكون كناية عن جميع البدن ، وإذا كان ذلك يوم بدر ، فالظاهر أن الضاربين هم الملائكة . وقيل : الضمير عائد على المؤمنين ، أي : يضرب المؤمنون : فمن كان أمامهم من المؤمنين ضربوا وجوههم ، ومن كان وراءهم ضربوا أدبارهم ، فإن كان ذلك عند الموت ضربتهم الملائكة بسياط من نار ، وقوله : ذوقوا هذا على إضمار القول من الملائكة ، أي : ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق ، ويكون ذلك يوم بدر ، وكانت لهم أسواط من نار يضربونهم بها فتشتعل جراحاتهم نارا ، أو يقال لهم ذلك في الآخرة ، وهو كلام مستأنف من الله على سبيل التقريع للكافرين ، إما في الدنيا حالة الموت ، أي : مقدمة عذاب النار ، وإما في الآخرة ، ويحتمل ذلك وما بعده أن يكون من كلام الملائكة ، أو من كلام الله ، ذلك ، أي : ذلك العذاب ، وهو مبتدأ خبره بما قدمت أيديكم ، وأن الله عطف على ما ، أي : ذلك العذاب بسبب كفركم وبسبب أن الله لا يظلمكم ; إذ أنتم مستحقون العذاب ، فتعذيبكم عدل منه ، وتقدم تفسير هذه الجملة في أواخر سورة آل عمران .

( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ) [ ص: 507 ] تقدم تفسير نظير هذه الآية في أوائل سورة آل عمران .

( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم ) ذلك مبتدأ ، وخبره بأن الله لم يك ، أي : ذلك العذاب أو الانتقام بسبب كذا ، وظاهر النعمة أنه يراد به ما يكونون فيه من سعة الحال والرفاهية والعزة والأمن والخصب وكثرة الأولاد ، والتغيير قد يكون بإزالة الذات ، وقد يكون بإزالة الصفات ، فقد تكون النعمة أذهبت رأسا ، وقد تكون قللت وأضعفت ، وقال القاضي : أنعم الله عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبيل ، والمقصود أن يشتغلوا بالعبادة والشكر ويعدلوا عن الكفر ، فإذا صرفوا هذه الأمور إلى الكفر والفسق فقد غيروا أنعم الله على أنفسهم ، فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن ، وهذا من أوكد ما يدل على أنه تعالى لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة ، وأن الذي يفعله لا يكون إلا جزاء على معاص سلفت ، ولو كان تعالى خلقهم وخلق حياتهم وعقولهم ابتداء للنار ، كما يقوله القوم لما صح ذلك ، انتهى ، قيل : وظاهر الآية يدل على ما قاله القاضي ، إلا أنه يمكن الحمل على الظاهر ; لأنه يلزم من ذلك أن يكون صفة الله معللة بفعل الإنسان ومتأثرة له ، وذلك محال في بديهة العقل ، وقد قام الدليل على أن حكمه وقضاءه سابق أولا ، فلا يمكن أن يكون فعل إلا بقضائه وإرادته . وقيل : أشار بالنعمة إلى محمد بعثه رحمة فكذبوه ، فبدل الله ما كانوا فيه من النعمة بالنقمة في الدنيا وبالعقاب في الآخرة ، قاله السدي ، والظاهر من قوله : على قوم ، العموم في كل من أنعم الله عليه من مسلم وكافر وبر وفاجر ، وأنه تعالى متى أنعم على أحد فلم يشكر بدله عنها بالنقمة ; وقيل : القوم هنا قريش أنعم الله تعالى عليهم ليشكروا ويفردوه بالعبادة فجحدوا وأشركوا في ألوهيته ، وبعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فكذبوه ، فلما غيروا ما اقتضته نعمة وحدثتهم أنفسهم بأن تلك النعم من قبل أوثانهم وأصنامهم غير تعالى عليهم بنقمة في الدنيا ، وأعد لهم العذاب في العقبى ، وقال ابن عطية : ومثال هذا نعمة الله على قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا وغيروا ما كان يجب أن يكونوا عليه ، فغير الله تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار وأحل بهم عقوبته ، انتهى . وتغيير آل فرعون ومشركي مكة ، ومن يجري مجراهم بأن كانوا كفارا ولم تكن لهم حالة مرضية ، فغيروا تلك الحالة المسخوطة إلى أسخط منها من تكذيب الرسل والمعاندة والتخريب وقتل الأنبياء والسعي في إبطال آيات الله ، فغير الله تعالى ما كان أنعم عليهم به وعاجلهم ولم يمهلهم ، وفي قول الزمخشري - : ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله تعالى لم ينبغ له ولم يصح في حكمته أن يغير نعمه عند قوم حتى يغيروا ما بهم من الحال - دسيسة الاعتزال ، وأن الله سميع لأقوال مكذبي الرسول عليم بأفعالهم ، فهو مجازيهم على ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية