الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ) أي من دون الله النافع الضار المبدع للأشياء القادر ما لا يقدر على أن ينفع ولا يضر ؛ إذ هي أصنام : خشب ، وحجارة ، وغير ذلك ، ( ونرد ) إلى الشرك ( على أعقابنا ) أي رد القهقرى إلى وراء وهي المشية الدنية بعد هداية الله إيانا إلى طريق الحق وإلى المشية السجح الرفيعة ، ( ونرد ) معطوف على ( أندعو ) أي أيكون هذا ، وهذا استفهام بمعنى الإنكار ، أي : لا يقع شيء من هذا ، وجوز أبو البقاء أن تكون الواو فيه للحال ، أي : ونحن نرد أي : أيكون هذا الأمر في هذه الحال ، وهذا فيه ضعف لإضمار المبتدأ ، ولأنها تكون حالا مؤكدة ، واستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر . قال الطبري وغيره : الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمرا فخاب .

( كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ) قال الزمخشري : ( كالذي ) [ ص: 157 ] ذهب به مردة الجن والغيلان في الأرض في المهمه حيران تائها ضالا عن الجادة لا يدري كيف يصنع ( له ) أي لهذا المستهوى ( أصحاب ) رفقة ( يدعونه إلى الهدى ) أي إلى أن يهدوه الطريق المستوي ، أو سمي الطريق المستقيم بالهدى ، يقولون له : ائتنا ، وقد اعتسف المهمه تابعا للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم ، وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوي الإنسان ، والغيلان تستولي عليه ، كقوله : ( الذي يتخبطه الشيطان ) فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان ، والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم . انتهى . وأصل كلامه مأخوذ من قول ابن عباس ولكنه طوله وجوده . قال ابن عباس : مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه فيصبح وقد ألقته في مهمه ‌‌ومهلكة ، فهو حائر في تلك المهامه ، وحمل الزمخشري ( استهوته ) على أنه من الهوى الذي هو المودة والميل ، كأنه قيل كالذي أمالته الشياطين عن الطريق الواضح إلى المهمه القفر ، وحمله غيره كأبي علي على أنه من الهوي ، أي : ألقته في هوة ، ويكون استفعل بمعنى أفعل نحو استزل وأزل ، تقول العرب : هوى الرجل وأهواه غيره ، واستهواه : طلب منه أن يهوي ، هوى ويهوي شيئا ، والهوي السقوط من علو إلى سفل . قال الشاعر :


هوى ابني من ذرى شرف فزلت رجله ويده



ويستعمل الهوي أيضا في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ، ومنه " فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم " . وقال :


تهوي إلى مكة تبغي الهدى     ما مؤمنو الجن ككفارها



وقال أبو عبد الله الرازي : هذا المثل في غاية الحسن ، وذلك أن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه ; لأن الحجر كان حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة ، وذلك يوجب كمال التردد والتحير ، فعند نزوله من الأعلى إلى الأسفل لا يعرف أنه يسقط على وضع يزداد بلاؤه بسبب سقوطه عليه أو يقل ، ولا تجد للحائر الخائف أكمل ولا أحسن من هذا المثل . انتهى . وهو كلام تكثير لا طائل تحته ، وجعل الزمخشري قوله : ( له أصحاب ) أي له رفقة ، وجعل مقابلهم في صورة التشبيه المسلمين يدعونه إلى الهدى فلا يلتفت إليهم ، وهو تأويل ابن عباس ومجاهد ، وجعلهم غيره ( له أصحاب ) من الشياطين الدعاة ، أو لا يدعونه إلى الهدى بزعمهم وبما يوهمونه ، فشبه بالأصحاب هنا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على الارتداد . وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضا ، وحكى مكي وغيره أن المراد بالذي استهوته الشياطين هو عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، وبالأصحاب أبوه وأمه ، وذكر أهل السير أنه فيه نزلت هذه الآية ، دعا أباه أبا بكر إلى عبادة الأوثان ، وكان أكبر ولد أبي بكر وشقيق عائشة ، أمهما أم رومان بنت الحارث بن غنم الكنانية ، وشهد بدرا وأحدا مع قومه كافرا ، ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه أبو بكر - رضي الله عنه - ليبارزه ، فذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : " متعني بنفسك " ، ثم أسلم وحسن إسلامه ، وصحب الرسول - عليه السلام - في هدنة الحديبية ، وكان اسمه عبد الكعبة ، فسماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن ، وفي الصحيح أن عائشة سمعت قول من قال : إن قوله : ( والذي قال لوالديه أف لكما ) أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقالت : كذبوا ، والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي .

قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : إذا كان هذا واردا في شأن أبي بكر فكيف قيل للرسول : ( قل أندعو ) ؟ قلت : للاتحاد الذي كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، وخصوصا بينه وبين الصديق - رضي الله عنه - [ ص: 158 ] انتهى . وهذا السؤال إنما يرد إذا صح أنها نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن ، ولن يصح ، وموضع ( كالذي ) نصب ، قيل : على أنه نعت لمصدر محذوف أي ردا مثل رد الذي ، والأحسن أن يكون حالا أي كائنين كالذي ، و ( الذي ) ظاهره أنه مفرد ، ويجوز أن يراد به معنى الجمع أي كالفريق الذي ، وقرأ حمزة : " استهواه " بألف ممالة . وقرأ السلمي والأعمش وطلحة : استهوته الشيطان بالتاء وإفراد الشيطان . وقال الكسائي : إنها كذلك في مصحف ابن مسعود . انتهى . والذين نقلوا لنا القراءة عن ابن مسعود إنما نقلوه : الشياطين جمعا . وقرأ الحسن : الشياطون ، وتقدم نظيره ، وقد لحن في ذلك . وقد قيل : هو شاذ قبيح ، وظاهر قوله : ( في الأرض ) أن يكون متعلقا بـ ( استهوته ) . وقيل : حال من مفعول ( استهوته ) ، أي كائنا في الأرض . وقيل : من ( حيران ) . وقيل : من ضمير ( حيران ) ، و ( حيران ) لا ينصرف ، ومؤنثه حيرى ، و ( حيران ) حال من مفعول ( استهوته ) . وقيل : حال من ( الذي ) والعامل فيه الرد المقدر ، والجملة من قوله ( له أصحاب ) حالية أو صفة لحيران أو مستأنفة ، و ( إلى الهدى ) متعلق بـ ( يدعونه ) ، وأتنا من الإتيان . وفي مصحف عبد الله أتينا فعلا ماضيا لا أمرا ، فإلى الهدى متعلق به .

( قل إن هدى الله هو الهدى ) ، من قال : إن ( له أصحاب ) يعني به الشياطين ، وإن قوله ( إلى الهدى ) بزعمهم ، كانت هذه الجملة ردا عليهم ، أي : ليس ما زعمتم هدى بل هو كفر وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان ، ومن قال : إن قوله ( أصحاب ) مثل للمؤمنين الداعين إلى الهدى الذي هو الإيمان ، كانت إخبارا بأن الهدى هدى الله من شاء ، لا أنه يلزم من دعائهم إلى الهدى وقوع الهداية بل ذلك بيد الله من هداه اهتدى .

( وأمرنا لنسلم لرب العالمين ) الظاهر أن اللام لام كي ، ومفعول ( أمرنا ) الثاني محذوف وقدروه : وأمرنا بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم ( لرب العالمين ) ، والجملة داخلة في المقول معطوفة على ( إن هدى الله هو الهدى ) . وقال الزمخشري : هو تعليل للأمر ، فمعنى ( أمرنا ) قيل لنا : أسلموا ؛ لأجل أن نسلم . وقال ابن عطية : ومذهب سيبويه أن ( لنسلم ) في موضع المفعول ، وأن قولك : أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ، ومثله قول الشاعر :


أريد لأنسى ذكرها فكأنما     تمثل لي ليلى بكل سبيل



إلى غير ذلك من الأمثلة . انتهى . فعلى ظاهر كلامه تكون اللام زائدة ويكون أن نسلم هو متعلق ( أمرنا ) على جهة أنه مفعول ثان بعد إسقاط حرف الجر . وقيل : اللام بمعنى الباء كأنه قيل : وأمرنا بأن نسلم ، [ ص: 159 ] ومجيء اللام بمعنى الباء قول غريب ، وما ذكره ابن عطية عن سيبويه ليس كما ذكر ، بل ذلك مذهب الكسائي والفراء زعما أن لام كي تقع في موضع أن في أردت وأمرت ، قال تعالى : ( يريد الله ليبين لكم ) ، ( يريدون ليطفئوا ) أي أن يطفئوا ، ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس ) ، أريد لأنسى ذكرها ، ورد ذلك عليهما أبو إسحاق ، وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا تتعلق بمحذوف ، وأن الفعل قبلها يراد به المصدر ، والمعنى : الإرادة للبيان والأمر للإسلام ، فهما مبتدأ وخبر ، فتحصل في هذه اللام أقوال : أحدها أنها زائدة ، والثاني أنها بمعنى كي للتعليل ، إما لنفس الفعل وإما لنفس المصدر المسبوك من الفعل ، والثالث أنها لام كي ، أجريت مجرى أن ، والرابع أنها بمعنى الباء ، وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب ( التكميل ) ، وجاء ( لرب العالمين ) تنبيها على أنه مالك العالم كله معبودهم من الأصنام وغيرها .

( وأن أقيموا الصلاة واتقوه ) أن هنا مصدرية ، واختلف في ما عطف عليه ، قال الزجاج : هو معطوف على قوله : " لنسلم " ، تقديره لأن نسلم و ( أن أقيموا ) . قال ابن عطية : واللفظ يمانعه لأن ( نسلم ) معرب و ( أقيموا ) مبني ، وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل . انتهى . وما ذكره من أنه لا يعطف المبني على المعرب وأن ذلك لا يجوز ، ليس كما ذكر ، بل ذلك جائز نحو قام زيد وهذا ، وقال تعالى : ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار ) ، غاية ما في هذا أن العامل إذا وجد المعرب أثر فيه ، وإذا وجد المبني لم يؤثر فيه ، ويجوز إن قام زيد ويقصدني أحسن إليه ، بجزم " يقصدني " ، فـ ( إن ) لم تؤثر في قام لأنه مبني وأثرت في يقصدني لأنه معرب ، ثم قال ابن عطية : اللهم إلا أن يجعل العطف في إن وحدها ، وذلك قلق ، وإنما يتخرج على أن يقدر قوله : ( أن أقيموا ) بمعنى وليقم ، ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالة اللفظ ، فجاز العطف على أن نلغي حكم اللفظ ونعول على المعنى ، ويشبه هذا من جهة ما حكاه يونس عن العرب : ادخلوا الأول فالأول ، وإلا فليس يجوز إلا ادخلوا الأول فالأول بالنصب . انتهى . وهذا الذي استدركه [ ص: 160 ] ابن عطية بقوله : اللهم إلا أن . . . إلى آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه وهو أن ( أن أقيموا ) معطوف على أن نسلم ، وأن كليهما علة للمأمور به المحذوف ، وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء أن أقيموا على معناها من موضوع الأمر ، وليس كذلك لأن ( أن ) إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر ، وإذا انسبك منهما مصدر زال منها معنى الأمر ، وقد أجاز النحويون : سيبويه وغيره أن توصل ( أن ) المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي وبالأمر ، قال سيبويه : وتقول : كتبت إليه بأن قم ، أي بالقيام ، فإذا كان الحكم كذا كان قوله : لنسلم ، وأن أقيموا في تقدير للإسلام ولإقامة الصلاة ، وأما تشبيه ابن عطية بقوله : ادخلوا الأول فالأول - بالرفع - فليس يشبهه ; لأن ادخلوا لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده ، بخلاف ( أن ) فإنها توصل بالأمر ، فإذا لا شبه بينهما . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : علام عطف قوله : ( وأن أقيموا ) ؟ ( قلت ) : على موضع ( لنسلم ) ، كأنه قيل : وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا . انتهى . وظاهر هذا التقدير أن ( أن نسلم ) في موضع المفعول الثاني لقوله : وأمرنا ، وعطف عليه " وأن أقيموا " فتكون اللام على هذا زائدة ، وكان قد قدم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه ; لأن ما يكون علة يستحيل أن يكون مفعولا ، ويدل على أنه أراد بقوله أن نسلم أنه في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك : ويجوز أن يكون التقدير : وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا ، أي للإسلام ولإقامة الصلاة . انتهى . وهذا قول الزجاج ، فلو لم يكن هذا القول مغايرا لقوله الأول لاتحد قولاه ، وذلك خلف ، وقال الزجاج : ويحتمل أن يكون ( وأن أقيموا ) معطوفا على ( ائتنا ) . وقيل : معطوف على قوله : ( إن هدى الله هو الهدى ) ، والتقدير : قل أن أقيموا ، وهذان القولان ضعيفان جدا ، ولا يقتضيهما نظم الكلام ، قال ابن عطية : يتجه أن يكون بتأويل : ( وإقامة ) فهو عطف على المفعول المقدر في أمرنا . انتهى . وكان قد قدر : وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان لأن نسلم ، وهذا قول لا بأس به وهو أقرب من القولين قبله ، إذ لا بد من تقدير المفعول الثاني لأمرنا ، ويجوز حذف المعطوف عليه لفهم المعنى ، تقول : أضربت زيدا ؟ فتجيب : نعم وعمرا ، التقدير : ضربته وعمرا ، وقد أجاز الفراء : جاءني الذي وزيد قائمان ، التقدير : جاءني الذي هو وزيد قائمان ، فحذف هو لدلالة المعنى عليه ، والضمير المنصوب في ( واتقوه ) عائد على رب العالمين .

( وهو الذي إليه تحشرون ) جملة خبرية تتضمن التنبيه والتخويف لمن ترك امتثال ما أمر به من الإسلام والصلاة واتقاء الله ، وإنما تظهر ثمرات فعل هذه الأعمال وحسرات تركها يوم الحشر والقيامة . ( وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ) لما ذكر تعالى أنه إلى جزائه يحشر العالم وهو منتهى ما يئول إليه أمرهم ، ذكر مبتدأ وجود العالم واختراعه له بالحق أي بما هو حق لا عبث فيه ولا هو باطل أي لم يخلقهما باطلا ولا عبثا بل صدرا عن حكمة وصواب وليستدل بهما على وجود الصانع إذ هذه المخلوقات العظيمة الظاهر عليها سمات الحدوث لا بد لها من محدث واحد عالم قادر مريد سبحانه جل وعلا . وقيل : معنى بالحق : بكلامه ، في قوله للمخلوقات ( كن ) وفي قوله : ( ائتيا طوعا أو كرها ) والمراد في هذا ونحوه إنما هو إظهار انفعال ما يريد تعالى أن يفعله وإبرازه للوجود بسرعة وتنزيله منزلة ما يؤمر فيمتثل . ( ويوم يقول كن فيكون قوله الحق ) جوزوا في ( يوم ) أن يكون معمولا لمفعول فعل محذوف وقدروه واذكر الإعادة يوم يقول كن ، أي يوم يقول للأجساد كن ، معادة . ويتم الكلام عند قوله : كن ، ثم أخبر بأنه يكون قوله الحق الذي كان في الدنيا إخبارا بالإعادة فيكون ( قوله ) فاعلا بـ ( فيكون ) أو يتم الكلام عند قوله : كن فيكون ، ويكون ( قوله الحق ) مبتدأ وخبرا . وقال الزجاج ( يوم يقول ) معطوف على الضمير من قوله [ ص: 161 ] ( واتقوه ) أي واتقوا عقابه والشدائد ويوم ، فيكون انتصابه على أنه مفعول به لا ظرف . وقيل : ( ويوم ) معطوف على ( السماوات والأرض ) والعامل فيه خلق ، وقيل : العامل اذكر ، أو معطوفا على قوله ( بالحق ) إذ هو في موضع نصب ويكون ( يقول ) بمعنى الماضي كأنه قال : وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم قال لها كن . ويتم الكلام عند قوله ( فيكون ) ويكون ( قوله الحق ) مبتدأ وخبرا أو يتم عند ( كن ) ويبتدئ ( فيكون قوله الحق ) أي يظهر ما يظهر ، وفاعل يكون ( قوله ) و ( الحق ) صفة و ( يكون ) تامة وهذه الأعاريب كلها بعيدة ينبو عنها التركيب ، وأقرب ما قيل ما قاله الزمخشري وهو أن قوله الحق مبتدأ والحق صفة له و ( يوم يقول ) خبر المبتدأ فيتعلق بمستقر ، كما تقول يوم الجمعة القتال ، واليوم بمعنى الحين والمعنى أنه خلق السماوات والأرض قائما بالحق والحكمة وحين يقول للشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء . قوله الحق والحكمة أي لا يكون شيء من السماوات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب ، وجوز الزمخشري وجها آخر وهو أن يكون قوله الحق فاعلا بقوله : فيكون ، فانتصاب ( يوم ) بمحذوف دل عليه قوله بالحق كأنه قيل : كن يوم بالحق . وهذا إعراب متكلف . ( وله الملك يوم ينفخ في الصور ) قيل ( يوم ) بدل من قوله ( ويوم يقول ) ، وقيل : منصوب بالملك ، وتخصيصه بذلك اليوم كتخصيصه بقوله : ( لمن الملك اليوم ) وبقوله : ( والأمر يومئذ لله ) وفائدته الإخبار بانفراده بالملك حين لا يمكن أن يدعى فيه ملك ، وقيل هو في موضع نصب على الحال وذو الحال الملك والعامل ( له ) وقيل هو في موضع الخبر لقوله : ( قوله الحق ) أي يوم ينفخ في الصور ، وقيل ظرف لقوله ( تحشرون ) أو لـ ( يقول ) أو لـ ( عالم الغيب والشهادة ) . وقرأ الحسن ( في الصور ) وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض ويؤيد تأويل من تأوله أن الصور جمع صورة كثومة وثوم ، والظاهر أن ثم نفخا حقيقة ، وقيل : هو عبارة عن قيام الساعة ونفاد الدنيا واستعاره . وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو : ننفخ بنون العظمة . ( عالم الغيب والشهادة ) أي هو عالم ، أو مبتدأ على تقدير من النافخ أو فاعل بـ ( يقول ) أو بـ ( ينفخ ) محذوفة يدل عليه ينفخ نحو ( رجال ) بعد قوله : ( يسبح ) بفتح الباء و ( شركاؤهم ) بعد ( زين ) مبنيا للمفعول ورفع ( قتل ) ، ونحو ( ضارع لخصومة ) بعد ليبك يزيد ، التقدير يسبح له رجال ، وزينه شركاؤهم ، ويبكيه ضارع أو نعت للذي . أقوال أجودها الأول ، والغيب والشهادة يعمان جميع الموجودات ، وقرأ الأعمش ( عالم ) بالخفض ، ووجه على أنه بدل من الضمير في ( له ) أو من رب العالمين ، أو نعت للضمير في ( له ) والأجود الأول لبعد المبدل منه في الثاني وكون الضمير الغائب يوصف وليس مذهب الجمهور إنما أجازه الكسائي وحده . ( وهو الحكيم الخبير ) لما ذكر خلق الخلق وسرعة إيجاده لما يشاء وتضمن البعث إفناءهم قبل ذلك ناسب ذكر الوصف بالحكيم ، ولما ذكر أنه عالم الغيب والشهادة ناسب ذكر الوصف بالخبير إذ هي صفة تدل على علم ما لطف إدراكه من الأشياء [ ص: 162 ] ( وهو الحكيم الخبير .

التالي السابق


الخدمات العلمية