الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ) أعمالهم : ما كانوا فيه من الشرك وعبادة الأصنام ، ومسيرهم إلى بدر ، وعزمهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا التزيين والقول والنكوص هل ذلك على سبيل المجاز أو الحقيقة ؟ قولان للمفسرين ، بدأ الزمخشري بالأول فقال : وسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون ، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما تحيرهم ، فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم ، أي : بطل كيده حين نزلت جنود الله ، وكذا عنالحسن كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم ، انتهى ، ويكون ذلك من باب مجاز التمثيل ، وقال المهدوي يضعف هذا القول : إن قوله : ( وإني [ ص: 505 ] جار لكم ) ليس مما يلقى بالوسوسة ، انتهى ، ويمكن أن يكون صدور هذا القول على لسان بعض الغواة من الناس ، قال لهم ذلك بإغواء إبليس له ، ونسب ذلك إلى إبليس لأنه هو المتسبب في ذلك القول ، فيكون القول والنكوص صادرين من إنسان حقيقة ، والجمهور على أن إبليس تصور لهم ، فعن ابن عباس في صورة رجل من بني مدلج في جند من الشياطين معه راية ; وقيل : جاءهم في طريقهم إلى بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، وقد خافوا من بني بكر وكنانة لدخول كانت بينهم ، وكان من أشراف كنانة فقال ما حكى الله عنه ، ومعنى : جار لكم : مجيركم من بني كنانة ، فلما رأى الملائكة تنزل نكص ; وقيل : كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نكص قال له الحارث : إلى أين ؟ أتخذلنا في هذه الحال ؟ فقال : إني أرى ما لا ترون ، ودفع في صدر الحارث وانطلق وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة بن مالك ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم ، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان ، وفي الموطأ وغيره : ما رؤي الشيطان في يوم أقل ولا أحقر ولا أصغر في يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة ، إلا ما رأى يوم بدر ، قيل : وما رأى يا رسول الله ؟ قال : رأى الملائكة يريحها جبريل ، وقال الحسن : رأى إبليس جبريل يقود فرسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتجر ببردة ، وفي يده اللجام ، ولكم ليس متعلقا بقوله : لا غالب ; لأنه كان يلزم تنوينه ; لأنه يكون اسم لا مطولا ، والمطول يعرب ولا يبنى ، بل لكم في موضع رفع على الخبر ، أي : كائن لكم ، وبما تعلق المجرور تعلق الظرف ، واليوم عبارة عن يوم بدر ، ويحتمل أن يكون قوله : وإني جار لكم ، معطوفا على لا غالب لكم اليوم ، ويحتمل أن تكون الواو للحال ، أي : لا أحد يغلبكم وأنا جار لكم أعينكم وأنصركم بنفسي وبقومي ، والفئتان جمعا المؤمنين والكافرين ; وقيل : فئة المؤمنين وفئة الملائكة ، نكص على عقبيه رجع في ضد إقباله ، وقال : ( إني بريء منكم ) ، مبالغة في الخذلان والانفصال عنهم لم يكتف بالفعل حتى أكد ذلك بالقول ، ( ما لا ترون ) : رأى خرق العادة ونزول الملائكة ، إني أخاف الله ، قال قتادة وابن الكلبي معذرة كاذبة لم يخف الله قط ، وقال الزجاج وغيره : بل خاف مما رأى من الهول أنه يكون اليوم الذي أنظر إليه ، انتهى ، وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى : ( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ) ، ويحتمل أن يكون والله شديد العقاب معطوفا على معمول القول ، قال ذلك بسطا لعذره عندهم ، وهو متحقق أن عذاب الله شديد ، ويحتمل أن يكون من كلام الله استؤنف تهديدا لإبليس ومن تابعه من مشركي قريش .

التالي السابق


الخدمات العلمية