الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) الإشارة بـ ( تلك ) إلى ما وقع به [ ص: 172 ] الاحتجاج من قوله ( فلما جن عليه الليل ) إلى قوله ( وهم مهتدون ) ، وهذا الظاهر ، وأضافها إليه تعالى على سبيل التشريف ، وكان المضاف إليه نون العظمة لا تاء المتكلم ، و ( آتيناها ) أي أحضرناها بباله وخلقناها في نفسه ، إذ هي من الحجج العقلية ، أو ( آتيناها ) بوحي منا ولقناه إياها ، وإن أعربت ( وتلك ) مبتدأ ، و ( حجتنا ) بدلا و ( آتيناها ) خبرا لتلك لم يجز أن يتعلق ( على قومه ) بـ ( حجتنا ) ، وكذا إن أعربت ( وتلك حجتنا ) مبتدأ وخبرا ، و ( آتيناها ) حالا ، العامل فيها اسم الإشارة لأن الحجة ليست مصدرا ، وإنما هو الكلام المؤلف للاستدلال على الشيء ، ولو جعلناه مصدرا مجازا لم يجز ذلك أيضا ; لأنه لا يفصل بالخبر ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه ، وأجاز الحوفي أن يكون ( آتيناها ) في موضع النعت لحجتنا ، والنية فيها الانفصال ، والتقدير : وتلك حجة لنا آتيناها . انتهى . وهذا بعيد جدا . وقال الحوفي : وها مفعول أول و ( إبراهيم ) مفعول ثان ، وهذا قد قدمنا أنه مذهب السهيلي ، وأما مذهب الجمهور فالهاء مفعول ثان و ( إبراهيم ) مفعول أول ، وقال الحوفي وابن عطية : ( على قومه ) متعلق بـ ( آتيناها ) . قال ابن عطية : أظهرناها لإبراهيم على قومه ، وقال أبو البقاء : بمحذوف ، تقديره حجة على قومه ودليلا ، وقال الزمخشري : ( آتيناها إبراهيم ) أرشدناه إليها ووفقناه لها ، وهذا تفسير معنى ، ويجوز أن يكون في موضع الحال وحذف مضاف أي : آتيناها إبراهيم مستعلية على حجج قومه قاهرة لها .

( نرفع درجات من نشاء ) أي : مراتب ومنزلة من نشاء ، وأصل الدرجات في المكان ، ورفعها بالمعرفة أو بالرسالة أو بحسن الخلق أو بخلوص العمل في الآخرة أو بالنبوة والحكمة في الدنيا أو بالثواب والجنة في الآخرة أو بالحجة والبيان ، أقوال أقربها الأخير ؛ لسياق الآية ، ونون درجات الكوفيون ، وأضافها الباقون ، ونصبوا المنون على الظرف أو على أنه مفعول ثان ، ويحتاج هذا القول إلى تضمين ( نرفع ) معنى ما يعدى إلى اثنين أي نعطي من نشاء درجات .

( إن ربك حكيم عليم ) أي : ( حكيم ) في تدبير عباده ، ( عليم ) بأفعالهم ، أو حكيم في تقسيم عباده إلى عابد صنم وعابد الله ، ( عليم ) بما يصدر بينهم من الاحتجاج ، ويحتمل أن يكون الخطاب في ( إن ربك ) للرسول ، ويحتمل أن يكون المراد به إبراهيم فيكون من باب الالتفات والخروج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب على سبيل التشريف بالخطاب .

( ووهبنا له إسحاق ويعقوب ) : ( إسحاق ) ابنه لصلبه من سارة ، و ( يعقوب ) ابن إسحاق ، كما قال تعالى : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، وعدد تعالى نعمه على إبراهيم فذكر إيتاءه الحجة على قومه ، وأشار إلى رفع درجاته ، وذكر ما من به عليه من هبته له هذا النبي الذي تفرعت منه أنبياء بني إسرائيل ، ومن أعظم المنن أن يكون من نسل الرجل الأنبياء والرسل ، ولم يذكر إسماعيل مع إسحاق ، قيل : لأن المقصود بالذكر هنا أنبياء بني إسرائيل ، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ، ولم يخرج من‌‌‌‌ صلب إسماعيل نبي إلا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكره في هذا المقام لأنه أمره عليه السلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن جدهم إبراهيم لما كان موحدا لله متبرئا من الشرك رزقه الله أولا ملوكا وأنبياء ، والجملة من قوله : ( ووهبنا ) معطوفة على قوله : ( وتلك حجتنا ) عطف فعلية على اسمية ، وقال ابن عطية : ( ووهبنا ) عطف على ( آتيناها ) . انتهى . ولا يصح هذا لأن ( آتيناها ) لها موضع من الإعراب ، إما خبر ، وإما حال ، ولا يصح في ( ووهبنا ) شيء منهما .

( كلا هدينا ) أي : كل واحد من إسحاق ويعقوب هدينا .

( ونوحا هدينا من قبل ) لما ذكر شرف أبناء إبراهيم ذكر شرف آبائه ، فذكر نوحا الذي هو آدم الثاني ، وقال : ( من قبل ) تنبيها على قدمه [ ص: 173 ] وفي ذكره لطيفة ، وهي أن نوحا - عليه السلام - عبدت الأصنام في زمانه ، وقومه أول قوم عبدوا الأصنام ، ووحد هو الله - تعالى - ودعا إلى عبادته ورفض تلك الأصنام ، وحكى الله عنه مناجاته لربه في قومه حيث قالوا : ( لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ) ، وكان إبراهيم عبدت الأصنام في زمانه ، ووحد هو الله - تعالى - ودعا إلى رفضها ، فذكر الله - تعالى - نوحا وأنه هداه كما هدى إبراهيم .

( ومن ذريته داود وسليمان ) قيل : ومن ذرية نوح ، عاد الضمير عليه لأنه أقرب مذكور ، ولأن في جملتهم لوطا وهو ابن أخي إبراهيم ، فهو من ذرية نوح لا من ذرية إبراهيم ، وقيل : ومن ذرية إبراهيم ، عاد الضمير عليه لأنه المقصود بالذكر ، قال ابن عباس : هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم ، وإن كان فيهم من لا يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب ; لأن لوطا ابن أخي إبراهيم ، والعرب تجعل العم أبا ، وقال أبو سليمان الدمشقي : ووهبنا له لوطا في المعاضدة والنصرة . انتهى . قالوا : والمعنى : وهدينا أو ووهبنا من ذريته داود وسليمان ، وقرنهما لأنهما أب وابن ، ولأنهما ملكان نبيان ، وقدم داود لتقدمه في الزمان ولكونه صاحب كتاب ولكونه أصلا لسليمان وهو فرعه . ( وأيوب ويوسف ) قرنهما لاشتراكهما في الامتحان ، أيوب بالبلاء في جسده ونبذ قومه له ، ويوسف بالبلاء بالسجن ولغربته عن أهله ، وفي مآلهما بالسلامة والعافية ، وقدم أيوب لأنه أعظم في الامتحان . ( وموسى وهارون ) قرنهما لاشتراكهما في الأخوة ، وقدم موسى لأنه كليم الله .

( وكذلك نجزي المحسنين ) أي مثل ذلك الجزاء ، من إيتاء الحجة وهبة الأولاد الخيرين نجزي من كان محسنا في عبادتنا مراقبا في أعماله لنا .

( وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ) قرن بينهم لاشتراكهم في الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا ، وبدأ بزكريا ويحيى لسبقهما عيسى في الزمان ، وقدم زكريا لأنه والد يحيى ، فهو أصل ويحيى فرع ، وقرن عيسى وإلياس لاشتراكهما في كونهما لم يموتا بعد ، وقدم عيسى لأنه صاحب كتاب ودائرة متسعة ، وتقدم ذكر أنساب هؤلاء الأنبياء إلا إلياس ، وهو إلياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران ، وروي عن ابن مسعود أن إدريس هو إلياس ، ورد ذلك بأن إدريس هو جد نوح - عليهما السلام - تظافرت بذلك الروايات ، وقيل : إلياس هو الخضر ، وتقدم خلاف القراء في زكريا مدا وقصرا ، وقرأ ابن عباس باختلاف عنه ، والحسن ، وقتادة ، بتسهيل همزة إلياس ، وفي ذكر عيسى هنا دليل على أن ابن البنت داخل في الذرية ، وبهذه الآية استدل على دخوله في الوقف على الذرية ، وسواء كان الضمير في ( ومن ذريته ) عائدا على نوح أو على إبراهيم ، فنقول : الحسن والحسين ابنا فاطمة - رضي الله عنهم - هما من ذرية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبهذه الآية استدل أبو جعفر الباقر ويحيى بن يعمر على ذلك ، وكان الحجاج بن يوسف طلب منهما الدليل على ذلك إذ كان هو ينكر ذلك [ ص: 174 ] فسكت في قصتين جرتا لهما معه .

( كل من الصالحين ) لا يختص كل بهؤلاء الأربعة ، بل يعم جميع من سبق ذكره من الأربعة عشر نبيا .

( وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا ) المشهور أن إسماعيل هو ابن إبراهيم من هاجر ، وهو أكبر ولده ، وقيل : هو نبي من بني إسرائيل كان زمان طالوت ، وهو المعني بقوله : " إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " ، واليسع ، قال زيد بن أسلم : هو يوشع بن نون ، وقال غيره : هو اليسع بن أخطوب ابن العجوز ، وقرأ الجمهور : واليسع ، كأن أل أدخلت على مضارع وسع ، وقرأ الأخوان : والليسع على وزن فيعل نحو الضيغم ، واختلف فيه أهو عربي أم عجمي ، فأما على قراءة الجمهور وقول من قال : إنه عربي فقال : هو مضارع سمي به ، ولا ضمير فيه ، فأعرب ثم نكر وعرف بأل ، وقيل سمي بالفعل كيزيد ، ثم أدخلت فيه أل زائدة شذوذا ، كاليزيد في قوله :


رأيت الوليد بن اليزيد مباركا



ولزمت كما لزمت في الآن ، ومن قال : إنه أعجمي فقال : زيدت فيه أل ولزمت شذوذا ، وممن نص على زيادة أل في اليسع أبو علي الفارسي ، وأما على قراءة الأخوين فزعم أبو علي أن أل فيه كهي في الحارث والعباس ; لأنهما من أبنية الصفات ، لكن دخول أل فيه شذوذ عن ما عليه الأسماء الأعجمية إذ لم يجئ فيها شيء على هذا الوزن كما لم يجئ فيها شيء فيه أل للتعريف ، وقال أبو عبد الله بن مالك الجياني : ما قارنت أل نقله كالمسمى بالنضر أو بالنعمان ، أو ارتجاله كاليسع والسموأل ، فإن الأغلب ثبوت أل فيه ، وقد يجوز أن يحذف ، فعلى هذا لا تكون أل فيه لازمة ، واتضح من قوله : إن اليسع ليس منقولا من فعل كما قال بعضهم ، وتقدم أنه قال : يونس بضم النون وفتحها وكسرها ، وكذلك يوسف ، وبفتح النون وسين يوسف قرأ الحسن وطلحة ويحيى والأعمش وعيسى بن عمر في جميع القرآن ، وإنما جمع هؤلاء الأربعة لأنهم لم يبق لهم من الخلق أتباع ولا أشياع ، فهذه مراتب ست : مرتبة الملك والقدرة ذكر فيها داود وسليمان ، ومرتبة البلاء الشديد ذكر فيها أيوب ، ومرتبة الجمع بين البلاء والوصول إلى الملك ذكر فيها يوسف ، ومرتبة قوة البراهين والمعجزات والقتال والصولة ذكر فيها موسى وهارون ، ومرتبة الزهد الشديد والانقطاع عن الناس للعبادة ذكر فيها زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ، ومرتبة عدم الأتباع ذكر فيها إسماعيل واليسع ويونس ولوطا ، وهذه الأسماء أعجمية لا تجر بالكسرة ولا تنون ، إلا اليسع ، فإنه يجر بها ولا ينون ، وإلا لوطا فإنه مصروف لخفة بنائه بسكون وسطه ، وكونه مذكرا وإن كان فيه ما في إخوته من مانع الصرف وهو العلمية والعجمة الشخصية ، وقد تحاشى المسلمون هذا الاسم الشريف ، فقل من تسمى به منهم كأبي مخنف لوط بن يحيى ، ولوط النبي هو لوط بن هارون بن آزر وهو تارخ ، وتقدم رفع نسبه .

( وكلا فضلنا على العالمين ) فيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الأولياء خلافا لبعض من ينتمي إلى الصوف في زعمهم أن الولي أفضل من النبي ، كمحمد بن العربي الحاتمي صاحب كتاب الفتوح المكية وعنقاء مغرب وغيرهما من كتب الضلال ، وفيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة لعموم العالمين وهم الموجودون سوى الله - تعالى - فيندرج في العموم الملائكة . قال ابن عطية : معناه عالمي زمانهم .

( ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ) المجرور في موضع نصب . فقال الزمخشري : عطفا على ( كلا ) بمعنى : وفضلنا بعض آبائهم ، وقال ابن عطية : وهدينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعات ، فمن للتبعيض ، والمراد من آمن نبيا كان أو غير نبي ، ويدخل عيسى في ضمير قوله : ( ومن آبائهم ) ، ولهذا قال محمد [ ص: 175 ] بن كعب : الخال والخالة . انتهى . ( ومن آبائهم ) كآدم وإدريس ونوح وهود وصالح ، ( وذرياتهم ) كذرية نوح - عليه السلام - المؤمنين ، ( وإخوانهم ) كإخوة يوسف ، ذكر الأصول والفروع والحواشي .

( واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ) الظاهر عطف ( واجتبيناهم ) على ( فضلنا ) أي : اصطفيناهم ، وكرر الهداية على سبيل التوضيح للهداية السابقة ، وأنها هداية إلى طريق الحق المستقيم القويم الذي لا عوج فيه وهو توحيد الله - تعالى - وتنزيهه عن الشرك .

( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ) أي : ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هو هدى الله ، وقال ابن عطية : ذلك إشارة إلى النعمة في قوله ( واجتبيناهم ) . انتهى . وفي الآية دليل على أن الهدى بمشيئة الله ، تعالى .

( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) أي : ولو أشركوا مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم ، كما قال تعالى : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) ، وفي قوله : ( ولو أشركوا ) دلالة على أن الهدى السابق هو التوحيد ونفي الشرك .

( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ) لما ذكر أنه تعالى فضلهم واجتباهم وهداهم ذكر ما فضلوا به ، والكتاب : جنس للكتب الإلهية كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل . والحكم : الحكمة أو الحكم بين الخصوم أو ما شرعوه أو فهم الكتاب أو الفقه في دين الله ، أقوال ، وقال أبو عبد الله الرازي : ( آتيناهم الكتاب ) هي رتبة العلم يحكمون بها على بواطن الناس وأرواحهم ، و ( الحكم ) مرتبة نفوذ الحكم بحسب الظاهر ، و ( النبوة ) المرتبة الثالثة وهي التي يتفرع على حصولها حصول المرتبتين ، فالحكام على الخلق ثلاث طوائف ، انتهى ملخصا .

( فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين ) الظاهر أن الضمير في ( بها ) عائد إلى النبوة ; لأنها أقرب مذكور ، وقال الزمخشري : ( بها ) بالكتاب والحكم والنبوة ، فجعل الضمير عائدا على الثلاثة ، وهو أيضا له ظهور ، والإشارة بهؤلاء إلى كفار قريش وكل كافر في ذلك العصر ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم . وقال الزمخشري : ( هؤلاء ) يعني أهل مكة . انتهى . وقاله السدي . وقال الحسن : أمة الرسول ، ومعنى ( وكلنا ) أرصدنا للإيمان بها ، والتوكيل هنا استعارة للتوفيق للإيمان بها والقيام بحقوقها ، كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه ، والقوم الموكلون بها هنا هم الملائكة ، قاله أبو رجاء ، أو مؤمنو أهل المدينة ، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي ، وقال الزمخشري : ( قوما ) هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم ، بدليل قوله ( أولئك الذين هدى الله ) . انتهى . وهو قول الحسن وقتادة أيضا ، قالا : المراد بالقوم من تقدم ذكره من الأنبياء والمؤمنين ، وقيل : الأنبياء الثمانية عشر المتقدم ذكرهم ، واختاره الزجاج وابن جرير ، لقوله بعد ( أولئك الذين هدى الله ) . وقيل : المهاجرون والأنصار ، وقيل : كل من آمن بالرسول ، وقال مجاهد : هم الفرس ، والآية وإن كان قد فسر بها مخصوصون فمعناها عام في الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة .

( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) الإشارة بأولئك إلى المشار إليهم بأولئك الأولى وهم الأنبياء السابق ذكرهم ، وأمره تعالى أن [ ص: 176 ] يقتدي بهداهم ، والهداية السابقة هي توحيد الله - تعالى - وتقديسه عن الشريك ، فالمعنى : فبطريقتهم في الإيمان بالله - تعالى - وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع ، فإنها مختلفة فلا يمكن أن يؤمر بالاقتداء بالمختلفة ، وهي هدى ما لم تنسخ ، فإذا نسخت لم تبق هدى بخلاف أصول الدين فإنها كلها هدى أبدا ، وقال تعالى : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) . وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون الإشارة بأولئك إلى ( قوما ) ، وذلك يترتب على بعض التأويلات في المراد بالقوم على بعضها . انتهى . ويعني أنه إذا فسر القوم بالأنبياء المذكورين أو بالملائكة فيمكن أن تكون الإشارة إلى قوم ، وإن فسروا بغير ذلك فلا يصح ، وقيل : الاقتداء في الصبر كما صبر من قبله ، وقيل : يحمل على كل هداهم إلا ما خصه الدليل ، وقيل : في الأخلاق الحميدة من الصبر على الأذى والعفو ، وقال : في ري الظمآن ، أمر الله - تعالى - نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق ، فأمر بتوبة آدم وشكر نوح ووفاء إبراهيم وصدق وعد إسماعيل وحلم إسحاق وحسن ظن يعقوب واحتمال يوسف وصبر أيوب وإنابة داود وتواضع سليمان وإخلاص موسى وعبادة زكريا وعصمة يحيى وزهد عيسى ، وهذه المكارم التي في جميع الأنبياء اجتمعت في الرسول - صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين - ولذلك وصفه تعالى بقوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) . وقال الزمخشري : ( فبهداهم اقتده ) فاختص هداهم بالاقتداء ولا يقتدى إلا بهم ، وهذا بمعنى تقديم المفعول ، وهذا على طريقته في أن تقديم المفعول يوجب الاختصاص ، وقد رددنا عليه ذلك في الكلام على ( إياك نعبد ) . وقرأ الحرميان وأهل حرميهما وأبو عمرو : اقتده بالهاء ساكنة وصلا ووقفا ، وهي هاء السكت ، أجروها وصلا مجراها وقفا ، وقرأ الأخوان بحذفها وصلا وإثباتها وقفا ، وهذا هو القياس ، وقرأ هشام : اقتده باختلاس الكسرة في الهاء وصلا وسكونها وقفا ، وقرأ ابن ذكوان بكسرها ووصلها بياء وصلا وسكونها وقفا ، ويؤول على أنها ضمير المصدر لا هاء السكت ، وتغليط ابن مجاهد قراءة الكسر غلط منه ، وتأويلها على أنها هاء السكت ضعيف .

( قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ) أي : على الدعاء إلى القرآن وهو الهدى والصراط المستقيم . ( أجرا ) أي : أجرة أتكثر بها وأخص بها ، إن القرآن إلا ذكرى موعظة لجميع العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية