الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) هاتان الجملتان شرطيتان ، في ضمنهما الأمر بصبر عشرين لمائتين وبصبر مائة لألف ، ولذلك دخلها النسخ ; إذ لو كان خبرا محضا لم يكن فيه النسخ ، لكن الشرط إذا كان فيه معنى التكليف جاز فيه النسخ ، وهذا من ذلك ، ولذلك نسخ بقوله : ( الآن خفف الله عنكم ) والتقييد بالصبر في أول كل شرط لفظا هو محذوف من الثانية لدلالة ذكره في الأولى ، وتقييد الشرط الثاني بقوله : ( من الذين كفروا ) لفظا هو محذوف من الشرط الأول في قوله : ( يغلبوا مائتين ) فانظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيد من الجملة الأولى وحذف نظيره من الثانية ، وأثبت قيد في الثانية وحذف من الأولى ، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في أولى جملتي التخفيف ، وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ، ثم ختمت الآية بقوله : ( الله مع الصابرين ) مبالغة في شدة المطلوبية ، ولم يأت في جملتي التخفيف قيد الكفر اكتفاء بما قبل ذلك ، وتظاهرت الروايات عن ابن عباس وغيره من الصحابة أن ثبات الواحد للعشرة كان فرضا ، لما شق عليهم انتقل إلى ثبات الواحد للاثنين على سبيل التقرب أيضا ، وسواء كان فرضا [ ص: 517 ] أم ندبا هو نسخ ، وقول من قال : إنه تخفيف لا نسخ - كمكي بن أبي طالب - ضعيف ، قال مكي : إنما هو كتخفيف الفطر في السفر ، ولو صام لم يأثم وأجزأه ، ومناسبة هذه الأعداد أن فرضية الثبات أو ندبيته كان أولا في ابتداء الإسلام ، فكان العشرون تمثيلا للسرية والمائة تمثيلا للجيش ، فلما اتسع نطاق الإسلام ، وذلك بعد زمان ، كان المائة تمثيلا للسرايا والألف تمثيلا للجيش ، وليس في أمره تعالى نبيه بتحريض المؤمنين على القتال دليل على ابتداء فرضية القتال بل كان القتال مفترضا قبل هذه الآية ، وإنما جاءت هذه حثا على أمر كان وجب عليهم ، ونص تعالى على سبب الغلبة بأن الكفار قوم لا يفقهون ، والمعنى : أنهم قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم فتفل نياتهم ، ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ، فهو تعالى يخذلهم ، وذلك بخلاف من يقاتل على بصيرة ، وهو موعود من الله بالنصر والغلبة ، وعن ابن جريج : كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث حمزة في ثلاثين راكبا فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب ، قيل ، ثم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه ، وذلك بعد مدة طويلة ، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد للاثنين ، وقال بعض العلماء : الذي استقر حكم التكليف عليه بمقتضى هذه الآية أن كل مسلم بالغ وقف بإزاء المشركين عبدا كان أو حرا فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاحه يقاتل به ، فإن كان ليس معه سلاح فله أن ينهزم وإن قابله ثلاثة حلت له الهزيمة ، والصبر أحسن ، وروى البيهقي وغيره : إن جيش مؤتة وكانوا ثلاثة آلاف من المسلمين وقفوا لمائتي ألف : مائة ألف من الروم ، ومائة ألف من الأنباط ، وروي أنهم وقفوا لأربعمائة ألف ، والأول هو الصحيح ، وفي تاريخ فتح الأندلس أن طارقا مولى موسى بن نصير سار في ألف رجل وسبعمائة رجل إلى الأندلس ، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة ، فالتقى هو وملك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عنان ، فزحف إليه طارق وصبر له فهزم الله الطاغية لذريق ، وكان الفتح ، انتهى ، وما زالت جزيرة الأندلس تلتقي الشرذمة القليلة منهم بالعدد الكثير من النصارى فيغلبونهم ، وأخبرنا من حضر الوقعة التي كانت في الديموس الصغير على اثني عشر ميلا من مدينة غرناطة سنة تسع عشرة وسبعمائة ، وكان المسلمون ألفا وسبعمائة فارس من الأندلسيين والبربر ، وكان النصارى مائة ألف راجل ، وستين ألف رام ، وخمسة عشر ألف فارس بين رام ومدرع ، فصبروا لهم وأسروا أكابرهم ، وقتلوا ملك قشتالة دون جوان ، ونجا أخوه دون بطر مجروحا ، وكان ملوك النصارى : ملك قشتالة المذكور ، وملك إفرنسة ، وملك يوطقال ، وملك غلسية ، وملك قلعة رباح قد خرجوا عازمين على استئصال المسلمين من الجزيرة فهزمهم الله ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم كرر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده ؟ ( قلت ) : للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة ، ولا تتفاوت لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين للمائتين والمائة للألف ، فكذلك بين المائة للمائتين والألف للألفين ، انتهى ، ومعنى ( بإذن الله ) بإرادته وتمكينه ، وفي قوله : ( والله مع الصابرين ) ترغيب في الثبات للقاء العدو ، وتبشير بالنصر والغلبة ; لأنه من كان الله معه هو الغالب ، وقرأ الأعمش : حرص ، بالصاد المهملة ، وهو من الحرص ، وهو قريب من قراءة الجمهور بالضاد ، وقرأ الكوفيون : ( يكن منكم مائة ) ، على التذكير فيهما ، ورواها خارجة عن نافع ، وقرأ الحرميان وابن عامر على التأنيث ، وقرأ أبو عمرو على التذكير في الأول ، ولحظ يغلبوا ، والتأنيث في الثانية ، ولحظ ( صابرة ) ، وقرأ الأعرج على التأنيث كلها إلا قوله : ( وإن يكن منكم ألف ) فإنه على التذكير بلا خلاف ، وقرأ المفضل عن عاصم و ( علم ) مبنيا للمفعول ، وقرأ الحرميان والعربيان والكسائي وابن [ ص: 518 ] عمر ، والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق ضعفا ، وفي الروم بضم الضاد وسكون العين ، وعيسى بن عمر بضمهما ، وحمزة وعاصم بفتح الضاد وسكون العين ، وهي كلها مصادر ، وعن أبي عمرو بن العلاء ضم الضاد لغة الحجاز وفتحها لغة تميم ، وقرأ ابن القعقاع ضعفا جمع ضعيف ، كظريف وظرفاء ، وحكاها النقاش عن ابن عباس ، فقيل : الضعف في الأبدان ; وقيل : في البصيرة والاستقامة في الدين ، وكانوا متفاوتين في ذلك ، وقال الثعالبي الضعف بفتح الضاد في العقل والرأي ، والضعف في الجسم ، وقال ابن عطية : وهذا قول ترده القراءة ، انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية