الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ) هذه محاورة من موسى - عليه السلام - لفرعون وخطاب له بأحسن ما يدعى به ، وأحبها إليه إذ كان من ملك مصر يقال له فرعون كنمرود في يونان ، وقيصر في الروم ، وكسرى في فارس ، والنجاشي في الحبشة وعلى هذا لا يكون فرعون وأمثاله علما شخصيا ، بل يكون علم جنس كأسامة وثعالة ، ولما كان فرعون قد ادعى الربوبية فاتحه موسى بقوله : ( إني رسول من رب العالمين ) لينبهه على الوصف الذي ادعاه ، وأنه فيه مبطل لا محق ولما كان قوله : ( حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق ) أردفها بما يدل على صحتها وهو قوله : ( قد جئتكم ) ولما قرر رسالته فرع عليها تبليغ الحكم وهو قوله : ( فأرسل ) ولم ينازعه فرعون في هذه السورة في شيء مما ذكره موسى إلا أنه طلب المعجزة ودل ذلك على موافقته لموسى ، وأن الرسالة ممكنة لإمكان المعجزة إذ لم يدفع إمكانها ، بل قال : ( إن كنت جئت بآية ) ويأتي الكلام على هذا الطلب من فرعون للمعجزة ، وقرأ نافع ( علي أن لا أقول ) بتشديد الياء جعل ( على ) داخلة على ياء المتكلم ، ومعنى ( حقيق ) جدير وخليق وارتفاعه على أنه صفة لرسول ، أو خبر بعد خبر و ( أن لا أقول ) الأحسن فيه أن يكون فاعلا بحقيق كأنه قيل : يحق علي كذا ويجب ويجوز أن يكون ( أن لا أقول ) مبتدأ و ( حقيق ) خبره ، وقال قوم تم الكلام عند قوله : ( حقيق ) و ( على أن لا أقول ) مبتدأ وخبره ، وقرأ باقي السبعة علي بجرها ( أن لا أقول ) ، أي : ( حقيق ) علي قول الحق ، فقال قوم ضمن ( حقيق ) معنى حريص ، وقال أبو الحسن والفراء والفارسي : علي بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى على في قوله ( ولا تقعدوا بكل صراط ) ، أي : على كل صراط فكأنه قيل : ( حقيق ) بأن لا أقول كما تقول فلان حقيق بهذا الأمر وخليق به ويشهد لهذا التوجيه قراءة أبي بأن لا أقول وضع مكان على الباء ، قال الأخفش : وليس ذلك بالمطرد لو قلت ذهبت على زيد تريد بزيد لم يجز ، وقال الزمخشري : وفي المشهورة إشكال ولا يخلو من وجوه ، أحدها : أن يكون مما يقلب من الكلام لا من الإلباس كقوله :


وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر

ومعناه وتشقى الضياطرة بالرماح . انتهى هذا الوجه ، وأصحابنا يخصون القلب بالشعر ولا يجيزونه في فصيح الكلام فينبغي أن ينزه القراءة عنه ، وعلى هذا يصير معنى [ ص: 356 ] هذه القراءة معنى قراءة نافع ، قال الزمخشري : والثاني أن ما لزمك لزمته فلما كان قول الحق حقيقا عليه كان هو حقيقا على قول الحق ، أي : لازما له ، قال الزمخشري : والثالث أن يضمن ( حقيق ) معنى حريص تضمين هيجني معنى ذكرني في بيت الكتاب . انتهى يعني بالكتاب كتاب سيبويه ، والبيت :


إذا تغنى الحمام الورق هيجني     ولو تسليت عنها أم عمار



قال الزمخشري : والرابع وهو الأوجه وإلا دخل في نكت القرآن أن يغرق موسى - عليه السلام - في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما ، وقد روي أن عدو الله فرعون قال لما قال : ( إني رسول من رب العالمين ) كذبت فيقول أنا حقيق علي قول الحق ، أي : واجب علي قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به . انتهى ولا يتضح هذا الوجه إلا إن عنى أنه يكون ( على أن لا أقول ) صفة كما تقول أنا على قول الحق ، أي : طريقي وعادتي قول الحق ، وقال ابن مقسم ( حقيق ) من نعت الرسول ، أي : رسول حقيق من رب العالمين أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق ، وهذا معنى صحيح واضح ، وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق ( على ) برسول ولم يخطر لهم تعليقه إلا بقوله : ( حقيق ) . انتهى . وكلامه فيه تناقض في الظاهر ؛ لأنه قدر أولا العامل في ( على ) أرسلت ، وقال آخر : إنهم غفلوا عن تعليق ( على ) برسول فأما هذا الآخر فلا يجوز على مذهب البصريين ؛ لأن رسولا قد وصف قبل أن يأخذ معموله ، وذلك لا يجوز ، وأما التقدير الأول وهو إضمار أرسلت ويفسره لفظ رسول فهو تقدير سائغ ، وتناول كلام ابن مقسم أخيرا في قوله عن تعليق على برسول ، أي : بما دل عليه رسول ، وقرأ عبد الله والأعمش حقيق أن لا أقول بإسقاط على فاحتمل أن يكون على إضمار على كقراءة من قرأ بها واحتمل أن يكون على إضمار الباء كقراءة أبي ، وعلى الاحتمالين يكون التعلق بحقيق .

ولما ذكر أنه رسول من عند الله ، وأنه لا يقول على الله إلا الحق أخذ يذكر المعجزة والخارق الذي يدل على صدق رسالته ، والخطاب في ( جئتكم ) لفرعون وملئه الحاضرين معه ومعنى ( ببينة ) بآية بينة واضحة الدلالة على ما أذكره ، والبينة قيل : التسع الآيات المذكورة في قوله : ( في تسع آيات إلى فرعون وقومه ) ، قال بعض العلماء وسياق الآية يقتضي أن البينة هي العصا واليد البيضاء بدليل ما بعده من قوله : ( فألقى عصاه ) ، وقال ابن عباس والأكثرون هي العصا وفي قوله : ( من ربكم ) تعريض أن فرعون ليس ربا لهم ، بل ربهم هو الذي جاء موسى بالبينة من عنده ( فأرسل ) ، أي : فخل ، والإرسال ضد الإمساك ( معي بني إسرائيل ) ، أي : حتى يذهبوا إلى أوطانهم ومولد آبائهم الأرض المقدسة وذلك أن يوسف - عليه السلام - لما توفي وانقرض الأسباط غلب فرعون على نسلهم واستعبدهم في الأعمال الشاقة وكانوا يؤدون إليه الجزاء فاستنقذهم الله بموسى - عليه السلام - وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر ، واليوم الذي دخل فيه موسى أربعمائة عام ، والظاهر أن موسى لم يطلب من فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه وفي غير هذه الآية دعاؤه إياه إلى الإقرار بربوبية الله تعالى وتوحيده قال تعالى : ( فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى ) وكل نبي داع إلى توحيد الله تعالى ، وقال تعالى حكاية عن فرعون : ( أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون ) فهذا ونظائره دليل على أنه طلب منه الإيمان خلافا لمن قال إن موسى لم يدعه إلى الإيمان ولا إلى التزام شرعه وليس بنو إسرائيل من قوم فرعون والقبط ، ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى .

[ ص: 357 ] ( قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ) لما عرض موسى - عليه السلام - رسالته على فرعون وذكر الدليل على صدقه وهو مجيئه بالبينة والخارق المعجز استدعى فرعون منه خرق العادة الدال على الصدق ، وهذا الاستدعاء يحتمل أن يكون على سبيل الاختبار وتجويزه ذلك ، ويحتمل أن يكون على سبيل التعجيز لما تقرر في ذهن فرعون أن موسى لا يقدر على الإتيان ببينة ، والمعنى : إن كنت جئت بآية من ربك فأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك .

( فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ) بدأ بالعصا دون سائر المعجزات ؛ لأنها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة قالوا منها أنه ضرب بها باب فرعون ففزع من قرعها فشاب رأسه فخضب بالسواد فهو أول من خضب بالسواد وانقلابها ثعبانا وانقلاب خشبة لحما ودما قائما به الحياة من أعظم الإعجاز ويحصل من انقلابها ثعبانا من التهويل ما لا يحصل في غيره ، وضربه بها الحجر فينفجر عيونا ، وضربه بها فتنبت . قاله ابن عباس ومحاربته بها اللصوص والسباع القاصدة غنمه ، واشتعالها في الليل كاشتعال الشمعة وصيرورتها كالرشا لينزح بها الماء من البئر العميقة وتلقفها الحبال والعصي التي للسحرة ، وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم ، والإلقاء حقيقة هو في الأجرام ومجاز في المعاني نحو ألقى المسألة .

قال ابن عباس ، والسدي : صارت العصا حية عظيمة شعراء فاغرة فاها ، ما بين لحييها ثمانون ذراعا ، وقيل : أربعون ، ذكره مكي عن فرقد واضعة أحد لحييها بالأرض والآخر على سور القصر وذكروا من اضطراب فرعون وفزعه وهربه ووعده موسى بالإيمان إن عادت إلى حالها ، وكثرة من مات من قوم فرعون فزعا أشياء لم تتعرض إليها الآية ولا تثبت في حديث صحيح فالله أعلم بها ، ومعنى ( مبين ) ظاهر لا تخييل فيه ، بل هو ثعبان حقيقة ، قال ابن عطية : ( وإذا ) ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرد من حيث كانت خبرا عن جثة ، والصحيح الذي عليه شيوخنا أنها ظرف مكان كما قاله المبرد وهو المنسوب إلى سيبويه ، وقوله من حيث كانت خبرا عن جثة ليست في هذا المكان خبرا عن جثة ، بل خبر هي قوله : ( ثعبان ) ولو قلت ( فإذا هي ) لم يكن كلاما وينبغي أن يحمل كلامه من حيث كانت خبرا عن جثة على مثل : خرجت فإذا السبع ، على تأويل من جعلها ظرف مكان وما ذكره من أن الصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان هو مذهب الرياشي ونسب أيضا إلى سيبويه ، ومذهب الكوفيين أن إذا الفجائية حرف لا اسم .

( ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ) ، أي : جذب ( يده ) قيل من جيبه وهو الظاهر لقوله : ( وأدخل يدك في جيبك ) ، وقيل : من كمه و ( للناظرين ) ، أي : للنظار وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها ؛ لأنه لا يعرض لها للنظار إلا إذا كان بياضها عجيبا خارجا عن العادة يجتمع الناس إليه كما يجتمع النظار للعجائب ، قال مجاهد : ( بيضاء ) كاللبن ، أو أشد بياضا ، وروي أنها كانت تظهر [ ص: 358 ] منيرة شفافة كالشمس ، ثم يردها فترجع إلى لون موسى ، وكان آدم - عليه السلام - شديد الأدمة ، وقال ابن عباس : صارت نورا ساطعا يضيء له ما بين السماء والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخروا على وجوههم ، وقال الكلبي : بلغنا أن موسى - عليه السلام - قال يا فرعون ما هذه بيدي ؟ قال : هي عصا ، فألقاها موسى فإذا هي ثعبان ، وروي أن فرعون رأى يد موسى فقال لفرعون ما هذه ؟ فقال : يدك ، ثم أدخلها جيبه ، وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا ، غلب شعاعها شعاع الشمس وما أعجب أمر هذين الخارقين أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء ، والآخر في غير نفسه وهي العصا ، وجمع بذينك تبدل الذرات وتبدل الأعراض ، فكانا دالين على جواز الأمرين وإنهما كلاهما ممكن الوقوع ، قال أبو محمد بن عطية : هاتان الآيتان عرضهما موسى - عليه السلام - للمعارضة ودعا إلى الله بهما وخرق العادة بهما وتحدى الناس إلى الدين بهما فإذا جعلنا التحدي الدعاء إلى الدين مطلقا فبهما تحدى وإذا جعلنا التحدي الدعاء بعد العجز عن معارضة المعجزة وظهور ذلك فتنفرد حينئذ العصا بذلك ؛ لأن المعارضة والمعجز فيها وقعا ويقال : التحدي هو الدعاء إلى الإتيان بمثل المعجزة فهذه نحو ثالث ، وعليه يكون تحدي موسى بالآيتين جميعا ؛ لأن الظاهر من أمره أنه عرضهما معا وإن كان لم ينص على الدعاء إلى الإتيان بمثلهما . انتهى . وهو كلام فيه تثبيج .

( قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ) . وفي الشعراء ( قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم ) والجمع بينهما أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام فحكى هنا قولهم وهناك قوله ، أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ فقالوه لأعقابهم ، أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ كما تفعل الملوك يرى الواحد منهم الرأي فيكلم به من يليه من الخاصة ، ثم تبلغه الخاصة العامة والدليل عليه أنهم أجابوه في قوله : ( أرجه ) وكان السحر إذ ذاك في أعلى المراتب فلما رأوا انقلاب العصا ثعبانا والأدماء بيضاء ، وأنكروا النبوة ودافعوه عنها قصدوا ذمه بوصفه بالسحر وحط قدره إذ لم يمكنهم في ظهور ما ظهر على يده نسبة شيء إليه غير السحر وبالغوا في وصفه بأن قالوا : ( عليم ) ، أي : بالغ الغاية في علم السحر وخدعه وخيالاته وفنونه ، وأكثر استعمال لفظ هذا إذا كان من كلام الكفار في التنقص والاستغراب كما قال : ( أهذا الذي يذكر آلهتكم ) ، ( أهذا الذي بعث الله رسولا ) ، إن هذا إلا أساطير الأولين ( ما هذا إلا بشر مثلكم ) ( إن هذان لساحران ) ( إن كان هذا هو الحق من عندك ) يعدلون عن لفظ اسم ذلك الشيء إلى لفظ الإشارة وأكدوا نسبة السحر إليه بدخول إن واللام .

يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون استشعرت نفوسهم ما صار إليه أمرهم من إخراجهم من أرضهم وخلو مواطنهم منهم وخراب بيوتهم فبادروا [ ص: 359 ] إلى الإخبار بذلك ، وكان الأمر كما استشعروا إذ غرق الله فرعون وآله وأخلى منازلهم منهم ونبهوا على هذا الوصف الصعب الذي هو معادل لقتل الأنفس كما قال : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم وأراد به إحراجهم إما بكونه يحكم فيكم بإرسال خدمكم وعمار أرضكم معه حيث يسير فيفضي ذلك إلى خراب دياركم وإما بكونهم خافوا منه أن يقاتلهم بمن يجتمع إليه من بني إسرائيل ويغلب على ملكهم قال النقاش كانوا يأخذون من بني إسرائيل خرجا كالجزية فرأوا أن ملكهم يذهب بزوال ذلك وجاء في سورة الشعراء بسحره وهنا حذفت لأن الآية الأولى هنا بنيت على الاختصار فناسبت الحذف ، ولأن لفظ ساحر يدل على السحر و فماذا تأمرون من قول فرعون أو من قول الملأ إما لفرعون وأصحابه وإما له وحده كما يخاطب أفراد العظماء بلفظ الجمع وهو من الأمر ، وقال ابن عباس : معناه تشيرون به ، قال الزمخشري : من أمرته فأمرني بكذا أي شاورته فأشار عليك برأي ، وقرأ الجمهور ( تأمرون ) بفتح النون هنا وفي الشعراء وروى كردم عن نافع بكسر النون فيهما وماذا يحتمل أن تكون كلها استفهاما وتكون مفعولا ثانيا لتأمرون على سبيل التوسع فيه بأن حذف منه حرف الجر ، كما قال أمرتك الخير ويكون المفعول الأول محذوفا لفهم المعنى أي أي شيء تأمرونني ، وأصله بأي شيء ويجوز أن تكون ما استفهاما مبتدأ ، و ( ذا ) بمعنى الذي خبر عنه و ( تأمرون ) صلة ذا ، ويكون قد حذف منه مفعولي ( تأمرون ) الأول وهو ضمير المتكلم والثاني وهو الضمير العائد على الموصول ، والتقدير فأي شيء الذي تأمروننيه أي تأمرنني به ، وكلا الإعرابين في ماذا جائز في قراءة من كسر النون إلا أنه حذف ياء المتكلم وأبقى الكسرة دلالة عليها ، وقدر ابن عطية الضمير العائد على ذا إذا كانت موصولة مقرونة بحرف الجر ، فقال وفي ( تأمرون ) ضمير عائد على ( الذي ) تقديره تأمرون به انتهى . وهذا ليس بجيد لفوات شرط جواز حذف الضمير إذا كان مجرورا بحرف الجر وذلك الشرط هو أن لا يكون الضمير في موضع رفع وأن يجر ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه ويتحد المتعلق به الحرفان لفظا ومعنى ويتحد معنى الحرف أيضا لابن عطية أنه قدره على الأصل ثم اتسع فيه فتعدى إليه الفعل بغير واسطة الحروف ، ثم حذف بعد الاتساع .

قالوا أرجه وأخاه أي قال من حضر مناظرة موسى من عقلاء ملأ فرعون وأشرافه قيل : ولم يكن يجالس فرعون ولد غية وإنما كانوا أشرافا ولذلك أشاروا عليه بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا : إن قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن اغلبه بالحجة ، وقرئ بالهمز وبغير همز فقيل هما بمعنى واحد ، وقيل المعنى احبسه ، وقيل : أرجه بغير همز أطمعه جعله من رجوت أدخل عليه همزة الفعل أي أطمعه وأخاه ولا تقتلهما حتى يظهر كذبهما فإنك إن قتلتهما ظن أنهما صدقا ولم يجر لهارون ذكر في صدر القصة وقد تبين من غير آية أنهما ذهبا معا وأرسلا إلى فرعون ولما كان موافقا له في دعواه [ ص: 360 ] ومؤازرا أشاروا بإرجائهما ، وقرأ ابن كثير وهشام ( أرجئهو ) بالهمز وضم الهاء ووصلها بواو ، وأبو عمرو كذلك إلا أنه لم يصل ، وروي هذا عن هشام وعن يحيى عن أبي بكر ، وقرأ ورش والكسائي ( أرجهي ) بغير همز وبكسر الهاء ووصلها بياء ، وقرأ عاصم وحمزة بغير همز وسكنا الهاء ، وقرأ قالون بغير همز ومختلس كسرة الهاء ، وقرأ ابن ذكوان في رواية كقراءة ورش والكسائي ، وفي المشهور عنه أرجئه بالهمز وكسر الهاء من غير صلة ، وقد قيل عنه أنه يصلها بياء ، قال ابن عطية وقرأ ابن عامر أرجئه بكسر الهاء بهمزة قبلها ، قال الفارسي : وهذا غلط انتهى . ونسبة ابن عطية هذه القراءة لابن عامر ليس بجيد ؛ لأن الذي روى ذلك إنما هو ابن ذكوان لا هشام فكان ينبغي أن يقيد فيقول وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وقال بعضهم : قال أبو علي ضم الهاء مع الهمز لا يجوز غيره قال : ورواية ابن ذكوان عن ابن عامر غلط وقال ابن مجاهد بعده وهذا لا يجوز لأن الهاء لا تكسر إلا إذا وقع قبلها كسرة أو ياء ساكنة ، وقال الحوفي : ومن القراء من يكسر مع الهمز وليس بجيد ، وقال أبو البقاء : ويقرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف لأن الهمز حرف صحيح ساكن فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر ، ووجهه أنه أتبع الهاء كسرة الجيم والحاجز غير حصين ويخرج أيضا على توهم إبدال الهمز ياء أو على أن الهمز لما كان كثيرا ما يبدل بحرف العلة أجري مجرى حرف العلة في كسر ما بعده ، وما ذهب إليه الفارسي وغيره من غلط هذه القراءة ، وأنها لا تجوز قول فاسد ؛ لأنها قراءة ثابتة متواترة روتها الأكابر عن الأئمة وتلقتها الأمة بالقبول ولها توجيه في العربية وليست الهمزة كغيرها من الحروف الصحيحة لأنها قابلة للتغيير بالإبدال والحرف بالنقل وغيره فلا وجه لإنكار هذه القراءة .

وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم ( المدائن ) مدائن مصر وقراها : " والحاشرون " ، قال ابن عباس : هم أصحاب الشرط ، وقال محمد بن إسحاق لما رأى فرعون من آيات الله عز وجل ما رأى قال : لن نغالب موسى إلا بمن هو منه فاتخذ غلمانا من بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية . قال البغوي : هي الفرما يعلمونهم السحر كما يعلمون الصبيان في المكتب فعلموهم سحرا كثيرا ، وواعد فرعون موسى موعدا ، ثم دعاهم وسألهم فقال : ماذا صنعتم قالوا : علمناهم من السحر ما لا يقاومهم به أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فإنه لا طاقة لنا به ، وقرأ الأخوان بكل سحار هنا وفي يونس والباقون ( ساحر ) وفي الشعراء أجمعوا على سحار وتناسب سحار ( عليم ) لكونهما من ألفاظ المبالغة ، ولما كان قد تقدم ( إن هذا لساحر عليم ) ناسب هنا أن يقابل بقوله : ( بكل ساحر عليم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية