الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) لما هددهم ، وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم ، أتبع ذلك بما يجرى مجرى الموعظة والنصيحة ، وحض على الاعتبار بالقرون الماضية . و ( يروا ) هنا بمعنى يعلموا; لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة . و ( كم ) في موضع المفعول بـ ( أهلكنا ) . و ( يروا ) معلقة ، والجملة في موضع مفعولها . و ( من ) الأولى لابتداء الغاية ، و ( من ) الثانية للتبعيض ، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع . ووهم الحوفي في جعله ( من ) الثانية بدلا من الأولى ، وظاهر الإهلاك أنه حقيقة ، كما أهلك قوم نوح وعادا وثمود وغيرهم ، ويحتمل أن يكون معنويا بالمسخ قردة وخنازير ، والضمير في ( يروا ) عائد على من سبق من المكذبين المستهزئين . و ( لكم ) خطاب لهم ، فهو التفات ، والمعنى أن القرون المهلكة أعطوا من البسطة في الدنيا ، والسعة في الأموال ، ما لم يعط هؤلاء الذين حضوا على الاعتبار بالأمم السالفة وما جرى لهم . وفي هذا الالتفات تعريض بقلة تمكين هؤلاء ، ونقصهم عن أحوال من سبق ، ومع تمكين أولئك في الأرض فقد حل بهم [ ص: 76 ] الهلاك فكيف لا يحل بكم على قلتكم وضيق خطتكم ؟ فالهلاك إليكم أسرع من الهلاك إليهم . وقال ابن عطية : والمخاطبة في ( لكم ) هي للمؤمنين ، ولجميع المعاصرين لهم ، وسائر الناس كافة ، كأنه قال : ( ما لم نمكن ) يا أهل هذا العصر لكم ، ويحتمل أن يقدر معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال : يا محمد قل لهم ( ألم يروا كم أهلكنا ) الآية . وإذا أخبرت أنك قلت : لو قيل : له ، أو أمرت أن يقال له ، فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها ، فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ ، كذكر غائب دون مخاطبة انتهى . فتقول : قلت لزيد ما أكرمك ! ، وقلت لزيد ما أكرمه ! . والضمير في ( مكناهم ) عائد على ( كم ) مراعاة لمعناها; لأن معناها جمع ، والمراد بها الأمم ، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يعود على ( قرن ) ، وذلك ضعيف; لأن ( من قرن ) تمييز ( لكم ) ، فكم هي المحدث عنها بالإهلاك ، فتكون هي المحدث عنها بالتمكين فما بعده ، إذ ( من قرن ) جرى مجرى التبيين ، ولم يحدث عنه ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ( كم ) هنا ظرفا ، وأن يكون مصدرا; أي : كم أزمنة أهلكنا ؟ أو كم إهلاكا أهلكنا ؟ ومفعول ( أهلكنا من قرن ) على زيادة ( من ) ، وهذا الذي أجازه لا يجوز; لأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع ، بل تدل على المفرد ، لو قلت : كم أزمانا ضربت رجلا ؟ أو كم مرة ضربت رجلا ؟ لم يكن مدلوله مدلول رجال; لأن السؤال إنما هو عن عدد الأزمان ، أو المرات التي ضرب فيها رجل; ولأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة ( من ) لأنها لا تزاد إلا في الاستفهام المحض ، أو الاستفهام المراد به النفي ، والاستفهام هنا ليس محضا ، ولا يراد به النفي . والظاهر أن قوله : ( مكناهم ) جواب لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما كان من حالهم ؟ فقيل : ( مكناهم في الأرض ) . وقال أبو البقاء : ( مكناهم ) في موضع خبر صفة ( قرن ) ، وجمع على المعنى ، وما قاله أبو البقاء ممكن . وما في قوله : ( ما لم نمكن لكم ) جوزوا في إعرابها أن تكون بمعنى الذي ، ويكون التقدير التمكين الذي ( لم نمكن لكم ) ، فحذف المنعوت ، وأقيم النعت مقامه ، ويكون الضمير العائد على ( ما ) محذوفا; أي ما لم نمكنه لكم ، وهذا لا يجوز; لأن ( ما ) بمعنى الذي لا يكون نعتا للمعارف ، وإن كان مدلولها مدلول الذي ، بل لفظ الذي هو الذي يكون نعتا للمعارف ، لو قلت : ضربت الضرب ما ضرب زيد ، تريد الذي ضرب زيد ، لم يجز ، فلو قلت : الضرب الذي ضربه زيد ، جاز . وجوزوا أيضا أن يكون نكرة صفة لمصدر محذوف ، تقديره : تمكينا لم نمكنه لكم ، وهذا أيضا لا يجوز; لأن ( ما ) النكرة صفة ، لا يجوز حذف موصوفها ، لو قلت : قمت ما ، أو ضربت ما ، وأنت تريد قمت قياما ما ، وضربت ضربا ما ، لم يجز ، وهذان الوجهان أجازهما الحوفي . وأجاز أبو البقاء أن يكون ( ما ) مفعولا به بتمكن على المعنى; لأن المعنى أعطيناهم ما لم نعطكم ، وهذا الذي أجازه تضمين ، والتضمين لا ينقاس . وأجاز أيضا أن تكون ( ما ) مصدرية ، والزمان محذوف; أي مد ( ما لم نمكن لكم ) ويعني مدة انتفاء التمكين لكم . وأجاز أيضا أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها; أي شيئا لم نمكنه لكم ، وحذف العائد من الصفة على الموصوف ، وهذا أقرب إلى الصواب . وتعدى مكن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر ، والأكثر تعديته باللام ، ( مكنا ليوسف في الأرض ) ، ( إنا مكنا له في الأرض ) ، ( أولم نمكن لهم ) . وقال أبو عبيد ( مكناهم ) و ( مكنا لهم ) لغتان فصيحتان ، كنصحته ، ونصحت له ، والإرسال والإنزال متقاربان في المعنى; لأن اشتقاقه من رسل اللبن ، وهو ما ينزل من الضرع متتابعا . و ( السماء ) السماء المظلة ، قالوا : لأن المطر ينزل منها إلى السحاب ، ويكون على حذف مضاف; أي مطر السماء ، ويكون ( مدرارا ) ، حالا من ذلك المضاف المحذوف . وقيل : ( السماء ) المطر . وفي الحديث : " في أثر سماء كانت من الليل " . وتقول العرب : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم ، يريدون المطر; وقال الشاعر :

[ ص: 77 ]

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا

( ومدرارا ) على هذا حال من نفس ( السماء ) . وقيل : ( السماء ) هنا السحاب ، ويوصف بالمدرار ، فـ ( مدرارا ) حال منه ( ومدرارا ) يوصف به المذكر والمؤنث ، وهو للمبالغة في اتصال المطر ودوامه وقت الحاجة ، إلا أنها ترفع ليلا ونهارا ، فتفسد ، قاله ابن الأنباري . ولأن هذه الأوصاف إنما ذكرت لتعديد النعم عليهم ومقابلتها بالعصيان ( وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ) تقدم ذكر كيفية جريان الأنهار من التحت في أوائل البقرة . وقد أغرب من فسر ( الأنهار ) هنا بالخيل ، كما قيل : في قوله : ( وهذه الأنهار تجري من تحتي ) وإذا كان الفرس سريع العدو واسع الخطو ، وصف بالبحر وبالنهر ، والمعنى أنه تعالى مكنهم التمكين البالغ ، ووسع عليهم الرزق ، فذكر سببه ، وهو تتابع الأمطار على قدر حاجاتهم ، وإمساك الأرض ذلك الماء حتى صارت الأنهار تجري من تحتهم ، فكثر الخصب ، فأذنبوا ، فأهلكوا بذنوبهم . والظاهر أن الذنوب هنا ، هي كفرهم وتكذيبهم برسل الله وآياته ، والإهلاك هنا لا يراد به مجرد الإفناء والإماتة ، بل المراد الإهلاك الناشئ عن الذنوب ، والأخذ به كقوله تعالى : ( فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا ) لأن الإهلاك بمعنى الإماتة مشترك فيه الصالح والطالح ، وفائدة ذكر إنشاء قرن ( آخرين ) بعدهم ، إظهار القدرة التامة على إفناء ناس ، وإنشاء ناس ، فهو تعالى لا يتعاظمه أن يهلك ( قرنا ) ، ويخرب بلاده ، وينشئ مكانه آخر يعمر بلاده ، وفيه تعريض للمخاطبين بإهلاكهم ، إذا عصوا ، كما أهلك من قبلهم ، ووصف قرنا ( بآخرين ) وهو جمع ، حملا على معنى قرن ، وكان الحمل على المعنى أفصح; لأنها فاصلة رأس آية .

( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) سبب نزولها اقتراح عبد الله بن أبي أمية ، وتعنته ، إذ قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ، ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أمية ، يأمرني بتصديقك . وما أراني مع هذا كنت أصدقك . ثم أسلم بعد ذلك ، وقتل شهيدا بالطائف . ولما ذكر تعالى تكذيبهم بالحق لما جاءهم ، ثم وعظهم ، وذكرهم بإهلاك القرون الماضية بذنوبهم ، ذكرهم مبالغتهم في التكذيب ، بأنهم لو رأوا كلاما مكتوبا ( في قرطاس ) ومع رؤيتهم جسوه بأيديهم ، لم تزدهم الرؤية واللمس إلا تكذيبا ، وادعوا أن ذلك من باب السحر ، لا من باب المعجز عنادا وتعنتا ، وإن كان من له أدنى مسكة من عقل ، لا ينازع فيما أدركه بالبصر عن قريب ، ولا بما لمسته يده . وذكر اللمس لأنهم لم يقتصروا على الرؤية; لئلا يقولوا سكرت أبصارنا . ولما كانت المعجزات مرئيات ومسموعات ، ذكر الملموسات مبالغة في أنهم لا يتوقفون في إنكار هذه الأنواع كلها ، حتى إن الملموس باليد هو عندهم مثل المرئي بالعين والمسموع بالأذن . وذكر اليد هنا ، فقيل مبالغة في التأكيد; ولأن اليد أقوى في اللمس من غيرها من الأعضاء . وقيل : الناس منقسمون إلى بصراء ، وأضراء ، فذكر الطريق الذي يحصل به العلم للفريقين . وقيل : علقه باللمس باليد; لأنه أبعد عن السحر . وقيل : اللمس باليد مقدمة الإبصار ، ولا يقع مع التزوير . وقيل : اللمس يطلق ، ويراد به الفحص عن الشيء ، والكشف عنه ، كما قال : ( وأنا لمسنا السماء ) ، فذكرت اليد حتى يعلم أنه ليس المراد به ذلك اللمس . وجاء ( لقال الذين كفروا ) لأن مثل هذا الغرض يقتضي انقسام الناس إلى مؤمن وكافر ، فالمؤمن يراه من أعظم المعجزات ، والكافر يجعله من باب السحر . ووصف السحر بـ ( مبين ) إما لكونه بينا في نفسه ، وإما لكونه أظهر غيره .

( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ) قال ابن عباس : [ ص: 78 ] قال النضر بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خالد : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ، ومعه أربعة من الملائكة ، يشهدون أنه من عند الله ، وأنك رسوله انتهى . والظاهر أن قوله : ( وقالوا ) استئناف إخبار من الله ، حكى عنهم أنهم قالوا ذلك ، ويحتمل أن يكون معطوفا على جواب ( لو ) أي : ( لقال الذين كفروا ) ، ولقالوا : ( لولا أنزل عليه ملك ) ، فلا يكون إذ ذاك هذان القولان المرتبان على تقدير إنزال الكتاب ( في قرطاس ) واقعين; لأن التنزيل لم يقع ، وكان يكون القول الثاني غاية في التعنت . وقد أشار إلى هذا الاحتمال أبو عبد الله بن أبي الفضل ، قال : في الكلام حذف ، تقديره : ولو أجبناهم إلى ما سألوا ، لم يؤمنوا ، ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ) وظاهر الآية يقتضي أنها في كفار العرب ، وذكر بعض الناس أنها في أهل الكتاب ، والضمير في ( عليه ) عائد على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والمعنى ( ملك ) نشاهده ، ويخبرنا عن الله تعالى بنبوته وبصدقه . و ( لولا ) بمعنى هلا للتحضيض ، وهذا قول من تعنت ، وأنكر النبوات .

( ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ) أي ( ولو أنزلنا ) عليه ( ملكا ) يشاهدونه ، لقامت القيامة ، قاله مجاهد . وقال ابن عباس وقتادة والسدي : في الكلام حذف ، تقديره : ( ولو أنزلنا ملكا ) ، فكذبوه ، ( لقضي الأمر ) بعذابهم ، ولم يؤخروا حسب ما سلف في كل أمة . وقالت فرقة : معنى ( لقضي الأمر ) لماتوا من هول رؤية الملك في صورته . ويؤيد هذا التأويل ، ( ولو جعلناه ملكا ) إلى آخره ، فإن أهل التأويل مجمعون على أنهم لم يكونوا ليطيقوا رؤية الملك في صورته . وقال ابن عطية : فالأولى في ( لقضي الأمر ) أي لماتوا من هول رؤيته . وقال الزمخشري : لقضي أمر إهلاكهم .

( ثم لا ينظرون ) بعد نزوله طرفة عين ، إما لأنهم إذا عاينوا الملك ، قد نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في صورته ، وهي أنه لا شيء أبين منها وأيقن ، ثم لا يؤمنون كما قال ، ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ، لم يكن بد من إهلاكهم كما أهلك أصحاب المائدة ، وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة ، فيجب إهلاكهم ، وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكا في صورته ، زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون انتهى . والترديد الأول بإما ، قول ابن عباس ، والثالث قول تلك الفرقة . وقوله : كما أهلك أصحاب المائدة; لأنهم عنده كفار ، وقد تقدم الكلام فيهم في أواخر سورة العقود ، وذكر أبو عبد الله الرازي الأوجه الثلاثة التي ذكرها الزمخشري ببسط فيها . وقال التبريزي في معنى ( لقضي الأمر ) قولان : أحدهما; لقامت القيامة لأن الغيب يصير عندها شهادة عيانا ، الثاني; الفزع من إهلاكهم; لأن السنة الإلهية جارية في إنزال الملائكة بأحد أمرين : الوحي ، أو الإهلاك ، وقد امتنع الأول ، فيتعين الثاني انتهى . فعلى هذا القول يكون معنى قوله : ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ) أي بإهلاكنا . قال الزمخشري : ومعنى ( ثم ) بعدما بين الأمرين قضاء الأمر ، وعدم الإنظار جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر; لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة انتهى .

( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) أي ولجعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا; لأنهم كانوا يقولون : لولا أنزل على محمد ملك ، وتارة يقولون : ما هذا إلا بشر مثلكم ، ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة ، ومعنى ( لجعلناه رجلا ) أي لصيرناه في صورة رجل ، كما كان جبريل ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في غالب الأحوال في صورة دحية ، وتارة ظهر له وللصحابة في صورة رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه أحد من الصحابة . وفي الحديث : " وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا " ، وكما تصور جبريل لمريم بشرا سويا ، والملائكة أضياف إبراهيم ، وأضياف لوط ومتسور والمحراب ، فإنهم ظهروا بصورة البشر ، وإنما كان يكون بصورة رجل; لأن الناس لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن [ ص: 79 ] زيد ، ويؤيده هلاك الذي سمع صوت ملك في السحاب يقول : أقدم حيزوم ، فمات لسماع صوته ، فكيف لو رآه في خلقته ؟ قال ابن عطية : ولا يعارض هذا برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لجبريل وغيره في صورهم; لأنه عليه السلام أعطي قوة ، يعني غير قوى البشر . وجاء بلفظ رجل ردا على المخاطبين بهذا ، إذ كانوا يزعمون أن الملائكة إناث . وقال القرطبي : لو جعل الله الرسول إلى البشر ملكا ، لفروا من مقاربته ، وما أنسوا به ، ولداخلهم من الرعب من كلامه ، ما يلكنهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله ، فلا تعم المصلحة ، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم لقالوا : لست ملكا ، وإنما أنت بشر ، فلا نؤمن بك ، وعادوا إلى مثل حالهم انتهى . وهو جمع كلام من قبله من المفسرين . وفي هذه الآية دليل على من أنكر نزول الملائكة إلى الأرض ، وقالوا : هي أجسام لطيفة ليس فيها ما يقتضي انحطاطها ، ونزولها إلى الأرض . ورد ذلك عليهم; بأنه تعالى قادر أن يودع أجسامها ثقلا يكون سببا لنزولها إلى الأرض ، ثم يزيل ذلك فتعود إلى ما كانت عليه من اللطافة والخفة ، فيكون ذلك سببا لارتفاعها انتهى هذا الرد . والذي نقول إن القدرة الإلهية تنزل الخفيف ، وتصعد الكثيف من غير أن يجعل في الخفيف ثقلا ، وفي الكثيف خفة ، وليس هذا بالمستحيل ، فيتكلف أن يودع في الخفيف ثقلا ، وفي الكثيف خفة . وفي الآية دليل على إمكان تمثيل الملائكة بصورة البشر ، وهو صحيح واقع بالنقل المتواتر .

( وللبسنا عليهم ما يلبسون ) أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك ، فإني أستدل بأني جئت بالقرآن المعجز ، وفيه أني ملك لا بشر كذبوه كما كذبوا الرسل ، فخذلوا كما هم مخذولون ، ويجوز أن يكون المعنى ( وللبسنا عليهم ) حينئذ مثل ، ( ما يلبسون ) على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله ، قاله الزمخشري ، وفيه بعض تلخيص . وقال ابن عطية : ولخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وضعفتهم; أي : لفعلنا لهم في ذلك تلبسا ، يطرق لهم إلى أن يلبسوا به ، وذلك لا يحسن ، ويحتمل الكلام مقصدا آخر; أي ( للبسنا ) نحن ( عليهم ) كما يلبسون هم على ضعفتهم ، فكنا ننهاهم عن التلبيس ، ونفعله نحن انتهى . وقال قوم : كان يحصل التلبيس لاعتقادهم أن الملائكة إناث ، فلو رأوه في صورة رجل ، حصل التلبيس عليهم ، كما حصل منهم التلبيس على غيرهم . وقال قوم منهم الضحاك : الآية نزلت في اليهود ، والنصارى في دينهم وكتبهم ، حرفوها ، وكذبوا رسلهم ، فالمعنى في اللبس; زدناهم ضلالا على ضلالهم . وقال ابن عباس : لبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم بتحريف الكلام عن مواضعه . و ( ما ) مصدرية ، وأضاف اللبس إليه تعالى على جهة الخلق ، وإليهم على جهة الاكتساب . وقرأ ابن محيصن : ( ولبسنا ) بلام واحدة ، والزهري ( وللبسنا ) بتشديد الباء .

التالي السابق


الخدمات العلمية