الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ) أي : كما جعلنا في مكة صناديدها [ ص: 215 ] ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية ، وتضمن ذلك فساد حال الكفرة المعاصرين للرسول ، إذ حالهم حال من تقدمهم من نظرائهم الكفار . وقال عكرمة : نزلت في المستهزئين ، يعني أن التمثيل لهم ، وقيل : هو معطوف على ( كذلك زين ) ، فتكون الإشارة فيه إلى ما أشير إليه بقوله : ( كذلك زين ) ، و ( جعلنا ) بمعنى صيرنا ، ومفعولها الأول ( أكابر مجرميها ) ، وفي كل قرية المفعول الثاني ، و ( أكابر ) على هذا مضاف إلى ( مجرميها ) ، وأجاز أبو البقاء أن يكون ( مجرميها ) بدلا من ( أكابر ) ، وأجاز ابن عطية أن يكون ( مجرميها ) المفعول الأول ، و ( أكابر ) المفعول الثاني ، والتقدير : مجرميها أكابر ، وما أجازاه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية ، وهو أن أفعل التفضيل إذا كان بمن ملفوظا بها أو مقدرة أو مضافة إلى نكرة كان مفردا مذكرا دائما سواء كان لمذكر أو مؤنث ، مفرد أو مثنى أو مجموع ، فإذا أنث أو ثني أو جمع طابق ما هو له في ذلك ولزمه أحد أمرين : إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة ، وإذا تقرر هذا فالقول بأن ( مجرميها ) بدل من ( أكابر ) أو أن ( مجرميها ) مفعول أول ، خطأ لالتزامه أن يبقى ( أكابر ) مجموعا وليس فيه ألف ولام ، ولا هو مضاف إلى معرفة ، وذلك لا يجوز ، وقد تنبه الكرماني لهذه القاعدة فقال : أضاف الأكابر إلى مجرميها لأن أفعل لا يجمع إلا مع الألف واللام أو مع الإضافة . انتهى . وكان ينبغي أن يقيد فيقول : أو مع الإضافة إلى معرفة . وقدر بعضهم المفعول الثاني محذوفا ، أي : فساقا ( ليمكروا فيها ) ، وهو ضعيف جدا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه ، وقال ابن عطية : ويقال أكابرة كما قالوا أحمر وأحامرة ، ومنه قول الشاعر :


إن الأحامرة الثلاثة أهلكت مالي وكنت بهن قدما مولعا



انتهى . ولا أعلم أحدا أجاز في الأفاضل أن يقال الأفاضلة ، بل الذي ذكره النحويون أن أفعل التفضيل يجمع للمذكر على الأفضلين أو الأفاضل ، وخص الأكابر لأنهم أقدر على الفساد والتحيل والمكر لرئاستهم وسعة أرزاقهم واستتباعهم الضعفاء والمحاويج . قال البغوي : سنة الله أنه جعل أتباع الرسل الضعفاء كما قال : ( واتبعك الأرذلون ) ، وجعل فساقهم أكابرهم ، وكان قد جلس على طريق مكة أربعة ليصرفوا الناس عن الأيمان بالرسول ، يقولون لكل من يقدم : إياك وهذا الرجل فإنه ساحر كاهن كذاب ، وهذه الآية تسلية للرسول ، إذ حاله في أن كان رؤساء قومه يعادونه ، كما كان في قرية من يعاند الأنبياء ، وقرأ ابن مسلم : أكبر مجرميها ، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة وكان لمثنى أو مجموع أو مؤنث جاز أن يطابق وجاز أن يفرد ، كقوله : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) ، وتحرير هذا وتفصيله وخلافه مذكور في علم النحو . ولام ( ليمكروا ) لام كي . وقيل : لام العاقبة والصيرورة .

( وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ) أي : وباله يحيق بهم ، كما قال : " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ، ( وما يشعرون ) يحيق ذلك بهم ، ولا يعني شعورهم على الإطلاق ، وهو مبالغة في نفي العلم إذ نفى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم .

( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) [ ص: 216 ] قال مقاتل : روي أن الوليد بن المغيرة قال : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك ; لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا . روي أن أبا جهل قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يوحى إليه ، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت ، ونحوه " بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة " ، والآية العلامة على صدق الرسول ، والضمير في ( جاءتهم ) عائد على الأكابر ، قاله الزجاج . وقال غيره : يعود على المجادلين في أكل الميتة ، وتغيية إيمانهم بقوله : ( حتى نؤتى ) دليل على تمحلهم في دعواهم واستبعاد منهم أن الإيمان لا يقع منهم البتة إذ علقوه بمستحيل عندهم ، وقولهم : ( رسل الله ) ليس فيه إقرار بالرسل من الله ، وإنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء ، ولو كانوا موقنين وغير معاندين لاتبعوا رسل الله ، والمثلية كونهم يجرى على أيديهم المعجزات ، فتحيى لهم الأموات ويفلق لهم البحر ونحو ذلك ، كما جرت على أيدي الرسل أو النبوة أو جبريل والملائكة أو انشقاق القمر أو الدخان أو آية من القرآن تأمرهم بالإيمان ، أقوال ، آخرها للحسن وابن عباس ، وفيه : تأمرهم باتباع الرسول ، وأولاها النبوة والرسالة لقوله : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ، فظاهره يدل على أنه المثلية هي في الرسالة . وقال الماتريدي : أخبر عن غاية سفههم وأنهم ينكرون رسالته عن علم بها ، ولولا ذلك ما تمنوا أن يؤتوا مثل ما أوتي . انتهى . ولم يتمنوا ذلك إنما أخبروا أنهم لا يؤمنون حتى يؤتوا مثل ما أوتي الرسل ، فعلقوا ذلك على ممتنع ، وقصدوا بذلك أنهم لا يؤمنون البتة .

( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) هذا استئناف إنكار عليهم ، وأنه تعالى لا يصطفي للرسالة إلا من علم أنه يصلح لها ، وهو أعلم بالجهة التي يضعها فيها ، وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - دون أكابر مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة ونحوهما . وقيل : الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل البعث مطاعين في قومهم ; لأنهم إن كانوا مطاعين قبل اتبعوا لأجل الطاعة السابقة ، وقالوا : ( حيث ) لا يمكن إقرارها على الظرفية هنا . قال الحوفي : لأنه تعالى لا يكون في مكان أعلم منه في مكان ، فإذا لم تكن ظرفا كانت مفعولا على السعة ، والمفعول على السعة لا يعمل فيه أعلم ; لأنه لا يعمل في المفعولات فيكون العامل فيه فعل دل عليه أعلم . وقال أبو البقاء : والتقدير يعلم موضع رسالاته ، وليس ظرفا لأنه يصير التقدير يعلم في هذا المكان كذا ، وليس المعنى عليه ، وكذا قدره ابن عطية . وقال التبريزي : ( حيث ) هنا اسم لا ظرف ، انتصب انتصاب المفعول ، كما في قول الشماخ :


وحلأها عن ذي الأراكة عامر     أخو الخضر يرمي حيث تكوى النواحر



فجعل مفعولا به لأنه ليس يريد أنه يرمي شيئا حيث تكوى النواحر ، إنما يريد أنه يرمي ذلك الموضع . انتهى . وما قاله من أنه مفعول به على السعة أو مفعول به على غير السعة ، تأباه قواعد النحو ; لأن النحاة نصوا على أن حيث من الظروف التي لا تتصرف ، وشذ إضافة لدى إليها وجرها بالياء ، ونصوا على أن الظرف الذي يتوسع فيه لا يكون إلا متصرفا ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع نصب ( حيث ) على المفعول به لا على السعة ولا على غيرها ، والذي يظهر لي إقرار ( حيث ) على الظرفية المجازية ، على أن تضمن ( أعلم ) معنى ما يتعدى إلى الظرف ، فيكون التقدير : الله أنفذ علما ( حيث يجعل رسالته ) ، أي : هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالته ، والظرفية هنا مجاز كما قلنا ، وروي ( حيث ) بالفتح ، فقيل : حركة بناء ، وقيل : حركة إعراب ، ويكون ذلك على لغة بني فقعس ، فإنهم يعربون ( حيث ) ، حكاها الكسائي . [ ص: 217 ] وقرأ ابن كثير وحفص : رسالته بالتوحيد ، وباقي السبعة على الجمع .

( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) هذا وعيد شديد ، وعلق الإصابة بمن أجرم ليعم الأكابر وغيرهم ، والصغار : الذل والهوان ، يقال منه صغر يصغر وصغر يصغر صغرا وصغارا ، واسم الفاعل صاغر وصغير ، وأرض مصغر لم يطل نبتها ، عن ابن السكيت : وقابل الأكبرية بالصغار ، والعذاب الشديد من الأسر والقتل في الدنيا ، والنار في الآخرة ، وإصابة ذلك لهم بسبب مكرهم في قوله : ( ليمكروا فيها ) وقوله : ( وما يمكرون إلا بأنفسهم ) ، وقدم الصغار على العذاب لأنهم تمردوا عن اتباع الرسول وتكبروا طلبا للعز والكرامة ، فقوبلوا أولا بالهوان والذل ، ولما كانت الطاعة ينشأ عنها التعظيم ثم الثواب عليها نشأ عن المعصية الإهانة ثم العقاب عليها ، ومعنى ( عند الله ) قال الزجاج : في عرصة قضاء الآخرة . وقال الفراء : في حكم الله ، كما يقول عند الشافعي أي : في حكمه . وقيل : في سابق علمه . وقيل : إن الجزية توضع عليهم لا محالة ، وأن حكم الله بذلك مثبت عنده بأنه سيكون ذلك فيهم . وقال إسماعيل الضرير : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : صغار ( وعذاب شديد ) عند الله في الآخرة ، وانتصب عند ( سيصيب ) ، أو بلفظ ( صغار ) لأنه مصدر فيعمل ، أو على أنه صفة ل صغار فيتعلق بمحذوف ، وقدره الزجاج : ثابت عند الله ، و ( ما ) الظاهر أنها مصدرية ، أي : بكونهم ( يمكرون ) . وقيل : موصولة بمعنى الذي .

التالي السابق


الخدمات العلمية