الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك نفصل الآيات ، أي : مثل هذا التفصيل الذي فصلنا فيه الآيات السابقة نفصل الآيات اللاحقة ، فالكل على نمط واحد في التفصيل والتوضيح لأدلة التوحيد [ ص: 422 ] وبراهينه .

ولعلهم يرجعون عن شركهم وعبادة غير الله إلى توحيده وعبادته بذلك التفصيل والتوضيح ، وقرأت فرقة : يفصل ، بالياء ، أي : يفصل هو ، أي : الله تعالى .

واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، أي : واتل على من كان حاضرا من كفار اليهود وغيرهم ، ولما كان تعالى قد ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته ، وذكر إقرارهم بذلك وإشهادهم على أنفسهم ذكر حال من آمن به ثم بعد ذلك كفر ، كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اطلعوا عليه من كتب الله المنزلة وتبشيرها به وذكر صفاته ، فلما بعث كفروا به ، فذكروا أن ما صدر منهم هو طريقة لأسلافهم اتبعوها ، واختلف المفسرون في هذا الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ، فقال عكرمة : هو كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء ، وقال عبادة بن الصامت : هم قريش أتتهم أوامر الله ونواهيه والمعجزات فانسلخوا من الآيات ولم يقبلوها ، فعلى هذين القولين يكون الذي مفردا أريد به الجمع ، وقال الجمهور : هو شخص معين ، فقيل : هو بلعم ; وقيل : هو بلعام ، وهو رجل من الكنعانيين أوتي بعض كتب الله ; وقيل : كان يعلم اسم الله الأعظم ، واختلف في اسم أبيه . وقال ابن مسعود : هو أبره . وقال ابن عباس : باعوراء ، وقال مجاهد والسدي : باعرويه ، روي أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى ، وقال : كيف أدعو على من معه الملائكة ، فألحوا عليه حتى فعل ، وقد طول المفسرون في قصته وذكروا ما الله أعلم به ; وقيل : هو رجل من علماء بني إسرائيل ، وقال ابن مسعود : بعثه موسى - عليه السلام - نحو مدين داعيا إلى الله وإلى شريعته وعلم من آيات الله ما يدعونه ، فكان مجاب الدعوة ، فلما فارق دين موسى سلخ الله منه الآيات ; وقيل : اسمه ناعم كان في زمن موسى وكان بحبت - اسم بلد - كان إذا نظر رأى العرش ، وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين يكتبون عنه ، وهو أول من صنف كتابا أنه ليس للعالم صانع ; وقيل : هو رجل من بني إسرائيل أعطي ثلاث دعوات مستجابة يدعو بها في مصالح العباد ، فجعلها كلها لامرأته وكانت قبيحة ، فسألته فدعا الله فجعلها جميلة فمالت إلى غيره ، فدعا الله عليها فصارت كلبة نباحة وكان له منها بنون فتضرعوا إليه ، فدعا الله فصارت إلى حالتها الأولى ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وابن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق : هو أمية بن أبي الصلت الثقفي قرأ الكتب وعلم أنه سيبعث نبي من العرب ورجا أن يكون إياه ، وكان ينظم الشعر في الحكم والأمثال ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حسده ووفد على بعض الملوك ، وروي أنه جاء يريد الإسلام فوصل إلى بدر بعد الوقعة بيوم أو نحوه ، فقال : من قتل هؤلاء ؟ فقيل : محمد ، فقال : لا حاجة لي بدين من قتل هؤلاء ، فارتد ورجع ، وقال : الآن حلت لي الخمر ، وكان قد حرم الخمر على نفسه فلحق بقوم من ملوك حمير فنادمهم حتى مات ، وقدمت أخته فارعة على رسول الله واستنشدها من شعره فأنشدته عدة قصائد ، فقال : آمن شعره وكفر قلبه ، وهو الذي قال فيه تعالى : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، وقال سعيد بن المسيب أيضا : هو أبو عامر بن النعمان بن صيفي الراهب ، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم : الفاسق ، وكان ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، وهو الذي بنى له المنافقون مسجد الضرار جرت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم محاورة ، فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بالقوة والسلاح ، ثم أتى قيصر واستجاشه ليخرج محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة ، فمات بالشام طريدا شريدا وحيدا ; وقيل غير هذا ، والأولى في مثل هذا إذا ورد عن المفسرين [ ص: 423 ] أن تحمل أقاويلهم على التمثيل لا على الحصر في معين ، فإنه يؤدي إلى الاضطراب والتناقض والخلاف في آتيناه آياتنا مترتب على من عنى الذي آتيناه أذلك اسم الله الأعظم ، أو الآيات من كتب الله ، أو حجج التوحيد ، أو من آيات موسى ، أو العلم بمجيء الرسول ؟ والانسلاخ من الآيات مبالغة في التبري منها والبعد ، أي : لم يعمل بما اقتضته نعمتنا عليه من إتيانه آياتنا ، جعل كأنه كان ملتبسا بها كالثوب فانسلخ منها ، وهذا من إجراء المعنى مجرى الجزم ، وقول من قال : إنه من المقلوب ، أي : إلا انسلخت الآيات عنه لا ضرورة تدعو إليه ، وقال سفيان : إن الرجل ليذنب ذنبا فينسى بابا من العلم ، وقرأ الجمهور : فأتبعه الشيطان ، من أتبع رباعيا ، أي : لحقه وصار معه ، وهي مبالغة في حقه ; إذ جعل كأنه هو إمام للشيطان يتبعه ، وكذلك فأتبعه شهاب ثاقب ، أي : عدا وراءه ، قال القتبي : تبعه من خلفه ، وأتبعه : أدركه ولحقه ، كقوله : فأتبعوهم مشرقين ، أي : أدركوهم ، فعلى هذا يكون متعديا إلى واحد ، وقد يكون أتبع متعديا إلى اثنين ، كما قال تعالى : واتبعتهم ذريتهم بإيمان فيقدر هذا : فأتبعه الشيطان خطواته ، أي : جعله الشيطان يتبع خطواته فتكون الهمزة فيه للتعدي ; إذ أصله تبع هو خطوات الشيطان ، وقرأ طلحة بخلاف ، والحسن فيما روى عنه هارون : فاتبعه ، مشددا بمعنى تبعه ، قال صاحب كتاب اللوامح : بينهما فرق ، وهو أن تبعه إذا مشى في أثره ، واتبعه إذا واراه مشيا ، فأما فأتبعه بقطع الهمزة فمما يتعدى إلى مفعولين ; لأنه منقول من تبعه ، وقد حذف في العامة أحد المفعولين ; وقيل : فأتبعه بمعنى استتبعه ، أي : جعله له تابعا فصار له مطيعا سامعا ; وقيل : معناه : تبعه شياطين الإنس أهل الكفر والضلال ، فكان من الغاوين ، يحتمل أن تكون كان باقية الدلالة على مضمون الجملة واقعا في الزمان الماضي ، ويحتمل أن تكون كان بمعنى صار ، أي : صار من الضالين الكافرين ، قال مقاتل : من الضالين ، وقال الزجاج : من الهالكين الفاسدين .

ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، أي : ولو أردنا أن نشرفه ونرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا ، ولكنه أخلد إلى الأرض ، أي : ترامى إلى شهوات الدنيا ورغب فيها ، واتبع ما هو ناشئ عن الهوى ، وجاء الاستدراك هنا تنبيها على السبب الذي لأجله لم يرفع ولم يشرف ، كما فعل بغيره ممن أوتي الهدى فآثره وأتبعه ، وأخلد معناه : رمى بنفسه إلى الأرض ، أي : إلى ما فيها من الملاذ والشهوات ، قال معناه ابن عباس ومجاهد والسدي ، ويحتمل أن يريد بقوله : أخلد إلى الأرض ، أي : مال إلى السفاهة والرذالة ، كما يقال : فلان في الحضيض عبارة عن انحطاط قدره بانسلاخه من الآيات ، قال معناه الكرماني . قال أبو روق : غلب على عقله هواه فاختار دنياه على آخرته ، وقال قوم : معناه لرفعناه بها لأخذناه ، كما تقول : رفع الظالم إذا هلك ، والضمير في بها عائد على المعصية في الانسلاخ ، وابتدئ وصف حاله بقوله : ولكنه أخلد ، وقال ابن أبي نجيح لرفعناه لتوفيناه قبل أن يقع في المعصية ورفعناه عنها ، والضمير للآيات ، ثم ابتدئ وصف حاله ، والتفسير الأول أظهر ، وهو مروي عن ابن عباس وجماعة ولم يذكر الزمخشري غيره ، وهو الذي يقتضيه الاستدراك ; لأنه على قول الإهلاك بالمعصية أو التوفي قبل الوقوع فيها لا يصح معنى الاستدراك ، والضمير في لرفعناه في هذه الأقوال عائد على الذي أوتي الآيات ، وإن اختلفوا في الضمير في بها على ما يعود ، وقال قوم : الضمير في لرفعناه على الكفر المفهوم مما سبق ، وفي بها عائد على الآيات ، أي : ولو شئنا لرفعنا الكفر بالآيات ، وهذا المعنى روي عن مجاهد ، وفيه [ ص: 424 ] بعد وتكلف ، قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع ؟ ( قلت ) : المعنى ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها ، وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات ، فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه ، كأنه قيل : ولو لزمها لرفعناه بها ، ألا ترى إلى قوله : ولكنه أخلد إلى الأرض فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله ، فوجب أن يكون ولو شئنا في معنى ما هو فعله ، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال : ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ ، انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .

فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، أي : فصفته إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يحملها ، كصفة الكلب إن كان مطرودا لهث وإن كان رابضا لهث ، قاله ابن عباس ; وقيل : شبه المتهالك على الدنيا في قلقه واضطرابه على تحصيلها ولزومه ذلك بالكلب في حالته هذه التي هي ملازمة له حالة تهييجه وتركه ، وهي كونه لا يزال لاهثا وهي أخس أحواله وأرذلها ، كما أن المتهالك على الدنيا لا يزال تعبا قلقا في تحصيلها قال الحسن : هو مثل المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع ، أعطي أو لم يعط ، كالكلب يلهث طردا وتركا ، انتهى ، وفي كتاب الحيوان دلت الآية على أن الكلب أخس الحيوان وأذله لضرب الخسة في المثل به في أخس أحواله ، ولو كان في جنس الحيوان ما هو أخس من الكلب ما ضرب المثل إلا به ، قال ابن عطية : وقال الجمهور : إنما شبه في أنه كان ضالا قبل أن يؤتى الآيات ، ثم أوتيها أيضا ضالا لم تنفعه ، فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل المشقة عليه ، أو تركه دون حمل عليه ، وقال السدي وغيره : هذا الرجل خرج لسانه على صدره وجعل يلهث ، كما يلهث الكلب ، وقال الزمخشري : وكان حق الكلام أن يقال : ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته ، فوقع قوله : فمثله كمثل الكلب موقع فحططناه أبلغ حط ; لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأرذلها في معنى ذلك ، انتهى ، وفي قوله : وكان حق الكلام إلى آخره سوء أدب على كلام الله تعالى ، وأما قوله : فوقع قوله :فمثله إلى آخره ، فليس واقعا موقع ما ذكر ، لكن قوله : ولكنه أخلد إلى الأرض وقع موقع فحططناه إلا أنه لما ذكر الإحسان إليه أسند ذلك إلى ذاته الشريفة ، فقال : آتيناه آياتنا ولو شئنا لرفعناه بها ، ولما ذكر ما هو في حق الشخص إساءة أسنده إليه فقال : فانسلخ منها ، وقال : ولكنه أخلد إلى الأرض ، والله تعالى في الحقيقة هو الذي سلخه من الآيات وأخلده إلى الأرض ، فجاء على حد قوله : فأردت أن أعيبها ، وقوله : فأراد ربك أن يبلغا في نسبة ما كان حسنا إلى الله ونسبة ما كان بخلافه إلى الشخص ، وهذه الجملة الشرطية في موضع الحال ، أي : لاهثا في الحالتين ، قاله الزمخشري وأبو البقاء ، وقال بعض شراح كتاب المصباح : وأما الشرطية فلا تكاد تقع بتمامها موضع الحال ، فلا يقال : جاءني زيد إن يسأل يعط ، على الحال ، بل لو أريد ذلك لجعلت الجملة الشرطية خبرا عن ضمير ما أريد الحال عنه ، نحو : جاء زيد هو وإن يسأل يعط ، فيكون الواقع موقع الحال هو الجملة الاسمية لا الشرطية ، نعم قد أوقعوا الجمل المصدرة بحرف الشرط موقع الحال ولكن بعد ما أخرجوها عن حقيقة الشرط ، وتلك الجملة لم تخل من أن يعطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف ، والأول ترك الواو مستمر فيه ، نحو : أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني ; إذ لا يخفى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط ، بل يتحولان إلى معنى التسوية كالاستفهامين المتناقضين في قوله : أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، وأما الثاني فلا بد من الواو ، نحو : أتيتك وإن لم تأتني ، ولو [ ص: 425 ] ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة ، انتهى ، فقوله : إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث من قبيل الأول ; لأن الحمل عليه والترك نقيضان .

ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ، أي : ذلك الوصف وصف الذين كذبوا بآياتنا ، صفته كصفة الكلب لاهثا في الحالتين ، فكما شبه وصف المؤتى الآيات المنسلخ منها بالكلب في أخس حالاته كذلك شبه به المكذبون بالآيات ; حيث أوتوها وجاءتهم واضحات تقتضي التصديق بها فقابلوها بالتكذيب وانسلخوا منها ، واحتمل ذلك أن يكون إشارة لمثل المنسلخ وأن يكون إشارة لوصف الكلب ، واحتمل أن تكون أداة التشبيه محذوفة من ذلك ، أي : صفة ذلك صفة الذين كذبوا ، واحتمل أن تكون محذوفة من مثل القوم ، أي : ذلك الوصف وصف المنسلخ ، أو وصف الكلب كمثل الذين كذبوا بآياتنا ، ويكون أبلغ في ذم المكذبين ; حيث جعلوا أصلا وشبه بهم ، قال ابن عطية : أي : هذا المثل يا محمد ، مثل هؤلاء القوم الذين كانوا ضالين قبل أن تأتيهم بالهدى والرسالة ، ثم جئتهم بذلك فبقوا على ضلالهم ولم ينتفعوا بذلك ، فمثلهم كمثل الكلب ، وقال الزمخشري : كذبوا بآياتنا من اليهود بعدما قرأوا بعثة رسول الله في التوراة ، وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به ، وقال ابن عباس : يريد كفار مكة لأنهم كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله ، ثم جاءهم من لا يشك في صدقه وديانته ونبوته فكذبوه ، فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ; لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال ، مثل الكلب الذي يلهث على كل حال ، انتهى وتلخص ، أهؤلاء القوم المكذبون بالآيات عام أم خاص باليهود أم بكفار مكة ؟ أقوال ثلاثة ، والأظهر : العموم .

التالي السابق


الخدمات العلمية