الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (13) قوله : يدعو لمن ضره أقرب من نفعه : فيه عشرة أوجه، وذلك أنه: إما بجعل "يدعو" متسلطا على الجملة من قوله: "لمن ضره أقرب من نفعه" أو لا. فإن جعلناه متسلطا عليها كان في سبعة أوجه، أحدها: أن "يدعو" بمعنى يقول، واللام للابتداء، و "من" موصولة في محل رفع بالابتداء. و "ضره" مبتدأ ثان و "أقرب" خبره. وهذه الجملة صلة للموصول، وخبر الموصول محذوف تقديره: يقول للذي ضره أقرب من نفعه إله أو إلهي أو نحو ذلك. والجملة كلها في محل نصب بـ "يدعو" لأنه بمعنى [ ص: 239 ] يقول، فهي محكية به. وهذا قول أبي الحسن. وعلى هذا فيكون قوله: "لبئس المولى" مستأنفا ليس داخلا في المحكي قبله; لأن الكفار لا يقولون في أصنامهم ذلك. وقد رد بعضهم هذا القول بأنه فاسد المعنى، والكافر لا يعتقد في الأصنام أن ضرها أقرب من نفعها البتة.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن "يدعو" مشبه بأفعال القلوب; لأن الدعاء لا يصدر إلا عن اعتقاد، وأفعال القلوب تعلق، فـ "يدعو" معلق أيضا باللام. و "من" مبتدأ موصول. والجملة بعده صلة، وخبره محذوف على ما مر في الوجه قبله.

                                                                                                                                                                                                                                      والجملة في محل نصب، كما تكون كذلك بعد أفعال القلوب. الثالث: أن يضمن يدعو معنى يزعم، فيعلق كما يعلق، والكلام فيه كالكلام في الوجه الذي قبله. الرابع: أن الأفعال كلها يجوز أن تعلق قلبية كانت أو غيرها فاللام معلقة لـ "يدعو"، وهو مذهب يونس. فالجملة بعده الكلام فيها كما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس: أن "يدعو" بمعنى يسمي، فتكون اللام مزيدة في المفعول الأول وهو الموصول وصلته، ويكون المفعول الثاني محذوفا تقديره: يسمي الذي ضره أقرب من نفعه إلها ومعبودا ونحو ذلك. السادس: أن اللام مزالة [641/ب] من موضعها. والأصل: يدعو من لضره أقرب. فقدمت من تأخير. وهذا قول الفراء. وقد ردوا هذا بأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول. السابع: أن اللام زائدة في المفعول به وهو "من". والتقدير: يدعو من ضره أقرب. فـ "من" موصول، والجملة بعدها صلتها، والموصول هو المفعول [ ص: 240 ] بـ "يدعو" زيدت فيه اللام كزيادتها في قوله "ردف لكم" في أحد القولين. وقد رد هذا بأن زيادة اللام إنما تكون إذا كان العامل فرعا، أو بتقديم المعمول. وقرأ عبد الله "يدعو من ضره" بغير لام ابتداء، وهي مؤيدة لهذا الوجه.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن لم تجعله متسلطا على الجملة بعده كان فيه ثلاثة أوجه، أظهرها: أن "يدعو" الثاني توكيد لـ "يدعو" الأول فلا معمول له، كأنه قيل: يدعو يدعو من دون الله الذي لا يضره ولا ينفعه. وعلى هذا فتكون الجملة من قوله "ذلك هو الضلال" معترضة بين المؤكد والتوكيد; لأن فيها تسديدا وتأكيدا للكلام، ويكون قوله "لمن ضره" كلاما مستأنفا. فتكون اللام للابتداء و "من" موصولة، و "ضره" مبتدأ و "أقرب" خبره. والجملة صلة، و "لبئس" جواب قسم مقدر. وهذا القسم المقدر وجوابه خبر المبتدأ الذي هو الموصول.

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني: أن يجعل "ذلك" موصولا بمعنى الذي. و "هو" مبتدأ، و "الضلال" خبره والجملة صلة. وهذا الموصول مع صلته في محل نصب مفعولا بـ "يدعو" أي: يدعو الذي هو الضلال. وهذا منقول عن أبي علي [ ص: 241 ] الفارسي، وليس هذا بماش على رأي البصريين; إذ لا يكون عندهم من أسماء الإشارة موصول إلا "ذا" بشروط ذكرتها فيما تقدم. وأما الكوفيون فيجيزون في أسماء الإشارة مطلقا أن تكون موصولة، وعلى هذا فيكون "لمن ضره أقرب" مستأنفا، على ما تقدم تقريره.

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أن يجعل "ذلك" مبتدأ. و "هو": جوزوا فيه أن يكون بدلا أو فصلا أو مبتدأ، و "الضلال" خبر "ذلك" أو خبر "هو" على حسب الخلاف في "هو" و "يدعو" حال، والعائد منه محذوف تقديره: يدعوه، وقدروا هذا الفعل الواقع موقع الحال بـ "مدعوا" قال أبو البقاء: "وهو ضعيف"، ولم يبين وجه ضعفه. وكأن وجهه أن "يدعو" مبني للفاعل فلا يناسب أن تقدر الحال الواقعة موقعه اسم مفعول، بل المناسب أن تقدر اسم فاعل، فكان ينبغي أن يقدروه: داعيا ولو كان التركيب "يدعى" مبنيا للمفعول لحسن تقديرهم مدعوا. ألا ترى أنك إذا قلت: "جاء زيد يضرب" كيف تقدره بـ "ضارب" لا بـ مضروب.

                                                                                                                                                                                                                                      والمخصوص بالذم محذوف، وتقديره: لبئس المولى ولبئس العشير ذلك المدعو.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية