الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 635 ] آ. (66) قوله : ادارك : قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع "أدرك" كأكرم. والباقون من السبعة "ادارك" بهمزة وصل، وتشديد الدال المفتوحة، بعدها ألف. والأصل: تدارك وبه قرأ أبي ، فأريد إدغام التاء في الدال فأبدلت دالا، وسكنت فتعذر الابتداء بها لسكونها، فاجتلبت همزة الوصل فصار ادارك كما ترى، وتحقيق هذه قد تقدم في رأس الحزب من البقرة: "فادارأتم فيها". وقراءة ابن كثير قيل: تحتمل أن يكون أفعل فيها بمعنى تفاعل فتتحد القراءتان. وقيل: أدرك بمعنى بلغ وانتهى. وقرأ سليمان وعطاء ابنا يسار "بل ادرك" بفتح لام "بل" وتشديد الدال دون ألف بعدها. وتخريجها: أن الأصل ادرك على وزن افتعل فأبدلت تاء الافتعال دالا لوقوعها بعد الدال. قال الشيخ: "فصار فيه قلب الثاني للأول كقولهم: اثرد، وأصله اثترد من الثرد". انتهى. قلت: ليس هذا مما قلب فيه الثاني للأول لأجل الإدغام كـ اثرد في اثترد; لأن تاء الافتعال تبدل دالا بعد أحرف منها الدال نحو: ادان في افتعل من الدين فالإبدال لأجل كون الدال [ ص: 636 ] فاء لا للإدغام، فليس مثل اثرد في شيء فتأمله فإنه حسن. فلما أدغمت الدال في الدال أدخلت همزة الاستفهام فسقطت همزة الوصل فصار اللفظ "أدرك" بهمزة قطع مفتوحة، ثم نقلت حركة هذه الهمزة إلى لام "بل" فصار اللفظ: "بل درك".

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج وابن عباس، وتروى عن عاصم كذلك، إلا أنه بكسر لام "بل" على أصل التقاء الساكنين، فإنهم لم يأتوا بهمزة استفهام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عبد الله وابن عباس والحسن وابن محيصن "أادرك" بهمزة ثم ألف بعدها. وأصلها همزتان أبدلت ثانيتهما ألفا تخفيفا. وأنكرها أبو عمرو. قلت: وقد تقدم أول البقرة أنه قرئ "أانذرتهم" بألف صريحة فلهذه بها أسوة. وقال أبو حاتم: "لا يجوز الاستفهام بعد "بل" لأن "بل" إيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى: لم يكن، كقوله تعالى "أشهدوا خلقهم" أي: لم يشهدوا، فلا يصح وقوعهما معا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار". قلت: وفي منع هذا نظر; لأن "بل" لإضراب الانتقال، فقد أضرب عن الكلام الأول، وأخذ في استفهام ثان. وكيف ينكر هذا والنحويون يقدرون "أم" المنقطعة بـ بل والهمزة؟ وعجبت من الشيخ كيف قال هنا: "وقد أجاز بعض المتأخرين الاستفهام بعد "بل" وشبهه؟ يقول القائل: "أخبزا أكلت، بل أماء شربت" على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني". انتهى. [ ص: 637 ] فتخصيصه ببعض المتأخرين يؤذن أن المتقدمين وبعض المتأخرين يمنعونه، وليس كذلك لما حكيت عنهم في "أم" المنقطعة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن مسعود "بل أأدرك" بتحقيق الهمزتين. وقرأ ورش في رواية "بل ادرك" بالنقل. وقرأ ابن عباس أيضا "بلى ادرك" بحرف الإيجاب أخت نعم. و "بلى آأدرك" بألف بين الهمزتين. وقرأ أبي ومجاهد "أم" بدل "بل" وهي مخالفة للسواد.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "في الآخرة" فيه وجهان، أحدهما: أن "في" على بابها و "أدرك" وإن كان ماضيا لفظا فهو مستقبل معنى; لأنه كائن قطعا كقوله: "أتى أمر الله" وعلى هذا فـ "في" متعلق بـ "ادارك". والثاني: أن "في" بمعنى الباء أي بالآخرة. وعلى هذا فيتعلق بنفس علمهم كقولك: "علمي بزيد كذا". وأما قراءة من قرأ "بلى" فقال الزمخشري: "لما جاء بـ "بلى" بعد قوله: "وما يشعرون" كان معناه: "بلى يشعرون" ثم فسر الشعور بقوله "أدرك علمهم في الآخرة" على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم" ثم قال: و "أما قراءة "بلى أأدرك" على الاستفهام فمعناه: بلى يشعرون متى يبعثون. ثم أنكر علمهم بكونها، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها; لأن العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن" ثم قال: "فإن قلت ما معنى هذه الإضرابات الثلاثة؟ قلت: ما هي إلا تنزيل [ ص: 638 ] لأحوالهم، وصفهم أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية". انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل: "عمي" يتعدى بـ "عن" تقول: عمي فلان عن كذا فلم عدي بـ "من" في قوله: "منها عمون" ؟ فالجواب: أنه جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية