الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
2793 - "أوصيك بتقوى الله (تعالى)؛ فإنه رأس الأمر كله ؛ وعليك بتلاوة القرآن؛ وذكر الله (تعالى)؛ فإنه ذكر لك في السماء؛ ونور لك في الأرض؛ عليك بطول الصمت؛ إلا في خير؛ فإنه مطردة للشيطان عنك؛ وعون لك على أمر دينك؛ إياك وكثرة الضحك؛ فإنه يميت القلب؛ ويذهب بنور الوجه؛ عليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية أمتي؛ أحب المساكين؛ وجالسهم؛ انظر إلى من تحتك؛ ولا تنظر إلى من فوقك؛ فإنه أجدر ألا تزدري نعمة الله عندك؛ صل قرابتك؛ وإن قطعوك؛ قل الحق؛ وإن كان مرا؛ لا تخف في الله لومة لائم؛ ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك؛ ولا تجد عليهم فيما تأتي؛ وكفى بالمرء عيبا أن يكون فيه ثلاث خصال: أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه؛ ويستحي لهم مما هو فيه؛ ويؤذي جليسه؛ يا أبا ذر ؛ لا عقل كالتدبير؛ ولا ورع كالكف؛ ولا حسب كحسن الخلق"؛ عبد بن حميد ؛ في تفسيره؛ (طب)؛ عن أبي ذر ؛ (ح) .

التالي السابق


(أوصيك بتقوى الله؛ فإنه رأس الأمر كله؛ وعليك بتلاوة القرآن؛ وذكر الله؛ فإنه ذكر لك في السماء) ؛ يعني: يذكرك الملأ الأعلى بسببه بخير؛ (ونور لك في الأرض) ؛ أي: بهاء وضياء؛ يعلو بين أهل الأرض؛ وهذا كالمشاهد المحسوس؛ فيمن لازم تلاوته بشرطها؛ من الخشوع؛ والتدبر؛ والإخلاص ؛ قال الزمخشري : فعلى كل ذي علم ألا يغفل عن هذه المنة؛ والقيام بشكرها؛ (وعليك بطول الصمت) ؛ أي: الزم السكوت؛ (إلا في خير) ؛ كتلاوة؛ وعلم؛ وإنذار مشرف على هلاك ؛ وإصلاح بين الناس؛ ونصيحة؛ وغير ذلك؛ (فإنه مطردة للشيطان) ؛ أي: مبعدة له؛ (عنك) ؛ يقال: "طردته"؛ أبعدته؛ كما في الصحاح وغيره؛ و"هو مطرود"؛ و"طريد"؛ و"أطرده السلطان"؛ بالألف: أمر بإخراجه عن البلد؛ وقال الزمخشري : "طرده"؛ أبعده ونحاه؛ و"هو شريد طريد"؛ و"مشرد مطرد"؛ قال ابن السكيت : "طرده"؛ نفاه؛ وقال له: اذهب عنا؛ (وعون لك على أمر دينك) ؛ أي: ظهير ومساعد لك عليه؛ (إياك وكثرة الضحك؛ فإنه يميت القلب ) ؛ أي: يغمسه في الظلمات؛ فيصيره كالأموات؛ قال الطيبي : والضمير في "إنه"؛ وفي "فإنه يميت"؛ واقع موقع الإشارة؛ أي: كثرة الضحك تورث قسوة القلب؛ وهي مفضية إلى الغفلة؛ وليس موت القلب إلا الغفلة؛ (ويذهب بنور الوجه) ؛ أي: بإشراقه وضيائه وبهائه؛ قال الماوردي : واعتياد الضحك شاغل عن النظر في الأمور المهمة؛ مذهل عن الفكر في النوائب المسلمة؛ وليس لمن أكثر منه هيبة؛ ولا وقار؛ ولا لمن وسم به خطر؛ ولا مقدار؛ وقال حجة الإسلام : كثرة الضحك والفرح بالدنيا؛ سم قاتل؛ يسري إلى العروق؛ فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال القيامة؛ وهذا هو موت القلب؛ وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ؛ (عليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية أمتي) ؛ كما تقرر وجهه فيما قبله؛ (أحب المساكين) ؛ المراد بهم ما يشمل الفقراء؛ كما سبق في أمثاله؛ (وجالسهم) ؛ فإن مجالستهم ترق القلب؛ وتزيد في التواضع؛ وتدفع الكبر ؛ (انظر إلى من) ؛ هو؛ (تحتك) ؛ أي: دونك؛ في الأمور الدنيوية؛ (ولا تنظر إلى من هو فوقك) ؛ فيها؛ (فإنه أجدر) ؛ أي: أحق؛ وأخلق؛ يقال: هو جدير بكذا؛ أي: خليق وحقيق؛ (ألا تزدري نعمة الله عندك) ؛ كما سبق بتوجيهه؛ أما في الأمور الأخروية فينظر إلى من فوقه ؛ (صل قرابتك) ؛ بالإحسان إليهم؛ (وإن قطعوك) ؛ فإن قطيعتهم ليست عذرا لك في قطيعتهم؛ (قل الحق) ؛ أي: الصدق؛ يعني: مر بالمعروف؛ وانه عن المنكر ؛ (وإن كان مرا) ؛ أي: وإن كان في قوله مرارة؛ أي: مشقة على القائل؛ فإنه واجد؛ أي: ما لم يخف على نفسه؛ أو ماله؛ أو عرضه؛ مفسدة فوق مفسدة المنكر الواقع؛ قال الطيبي : شبه الأمر بالمعروف؛ والنهي عن المنكر؛ لمن يأباه؛ بالصبر؛ فإنه مر المذاق؛ لكن عاقبته محمودة؛ قال بعض العارفين: من أمراض النفس التي يجب التداوي منها أن يقول الإنسان: أنا أقول؛ ولا أبالي؛ وإن كره المقول له؛ من غير نظر إلى الفضول؛ ومواطنه؛ ثم تقول: أعلنت الحق؛ وعز عليه؛ ويزكي نفسه؛ ويجرح غيره؛ ومن لم يجعل القول في موضعه؛ أدى إلى التنافر والتقاطع والتدابر؛ ثم إن بعد هذا كله [ ص: 77 ] لا يكون ذلك إلا ممن يعلم ما يرضي الله؛ من جميع وجوهه المتعلقة بذلك المقام؛ لقوله - سبحانه وتعالى -: لا خير في كثير من نجواهم ؛ الآية؛ ثم قال: ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله ؛ ثم زاد في التأكيد في قول الحق قوله: (لا تخف في الله لومة لائم) ؛ أي: كن صلبا في دينك؛ إذا شرعت في إنكار منكر؛ وأمر بمعروف ؛ وامض فيه كالمسامير المحماة؛ لا يرعك قول قائل؛ ولا اعتراض معترض؛ (ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك) ؛ أي: ليمنعك عن التكلم في أعراض الناس؛ والوقيعة فيهم؛ ما تعلم من نفسك من العيوب ؛ فقلما تخلو أنت من عيب يماثله؛ أو أقبح منه؛ وأنت تشعر أو لا تشعر؛ (ولا تجد عليهم فيما يأتون) ؛ أي: ولا تغضب عليهم فيما يفعلونه معك؛ يقال: "وجد عليه موجدة"؛ غضب؛ (وكفى بالمرء عيبا أن يكون فيه ثلاث خصال؛ أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه) ؛ أي: يعرف من عيوبهم ما يجهله من نفسه؛ (ويستحي مما هو فيه) ؛ أي: ويستحي منهم أن يذكروه مما هو فيه من النقائص؛ مع إصراره عليها؛ وعدم إقلاعه عنها؛ (ويؤذي جليسه) ؛ بقول؛ أو فعل؛ ولهذا روي أن أبا حنيفة كان يحيي نصف الليل؛ فمر يوما في طريق؛ فسمع إنسانا يقول: هذا الرجل يحيي الليل كله؛ فقال: أرى الناس يذكرونني بما ليس في؛ فلم يزل بعد ذلك يحيي الليل كله؛ وقال: أنا أستحي من الله أن أوصف بما ليس في من عبادته؛ (يا أبا ذر ؛ لا عقل كالتدبير) ؛ أي: في المعيشة وغيرها؛ والتدبير نصف المعيشة؛ (ولا ورع كالكف) ؛ أي: كف اليد عن تناول ما يضطرب القلب في تحليله؛ وتحريمه ؛ فإنه أسلم من أنواع ذكرها المتورعون من التأمل في أصول المشتبه؛ والرجوع إلى دقيق النظر عما حرمه الله؛ (ولا حسب) ؛ أي: ولا مجد؛ ولا شرف؛ (كحسن الخلق) ؛ بالضم؛ إذ به صلاح الدنيا؛ والآخرة؛ وناهيك بهذه الوصايا العظيمة القدر؛ الجامعة من الأحكام والحكم والمعارف ما يفوق الحصر؛ فأعظم به من حديث؛ ما أفيده!

( عبد بن حميد ؛ في تفسيره) ؛ أي: تفسيره للقرآن؛ (طب؛ عن أبي ذر ) ؛ ورواه عنه أيضا ابن لال ؛ والديلمي ؛ في مسند الفردوس.




الخدمات العلمية