الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 325 ] قال ( ومن اشترى ثوبين على أن يأخذ أيهما شاء بعشرة وهو بالخيار ثلاثة أيام فهو جائز ، وكذا الثلاثة ، فإن كانت أربعة أثواب فالبيع فاسد ) والقياس أن يفسد البيع في الكل لجهالة المبيع ، وهو قول زفر والشافعي . وجه الاستحسان أن شرع الخيار للحاجة إلى دفع الغبن ليختار ما هو الأرفق والأوفق ، والحاجة إلى هذا النوع من البيع متحققة ; لأنه يحتاج إلى اختيار من يثق به أو اختيار من يشتريه لأجله ، [ ص: 326 ] ولا يمكنه البائع من الحمل إليه إلا بالبيع فكان في معنى ما ورد به الشرع ، غير أن هذه الحاجة تندفع بالثلاث لوجود الجيد والوسط والرديء فيها ، والجهالة لا تفضي إلى المنازعة في الثلاث لتعيين من له الخيار ، وكذا في الأربع ، إلا أن الحاجة إليها غير متحققة والرخصة ثبوتها بالحاجة وكون الجهالة غير مفضية إلى المنازعة فلا تثبت بأحدهما . ثم قيل : يشترط أن يكون في هذا العقد خيار الشرط مع خيار التعيين ، وهو المذكور في الجامع الصغير .

( وقيل لا يشترط وهو المذكور في الجامع الكبير ) ، فيكون ذكره على هذا الاعتبار وفاقا لا شرطا ; وإذا لم يذكر خيار الشرط لا بد من توقيت خيار التعيين بالثلاث عنده وبمدة معلومة أيتها كانت عندهما . [ ص: 327 ] ثم ذكر في بعض النسخ : اشترى ثوبين وفي بعضها اشترى أحد الثوبين وهو الصحيح ; لأن المبيع في الحقيقة أحدهما والآخر أمانة ، والأول تجوز واستعارة . [ ص: 328 ] ولو هلك أحدهما أو تعيب لزمه البيع فيه بثمنه وتعين الآخر للأمانة لامتناع الرد بالتعيب ، ولو هلكا جميعا معا يلزمه نصف ثمن كل واحد منهما لشيوع البيع والأمانة فيهما . [ ص: 329 ] ولو كان فيه خيار الشرط له أن يرهما جميعا .

ولو مات من له الخيار فلوارثه أن يرد أحدهما ; لأن الباقي خيار التعيين للاختلاط ، ولهذا لا يتوقف في حق الوارث . وأما خيار الشرط لا يورث وقد ذكرناه من قبل .

التالي السابق


( قوله ومن اشترى ثوبين على أن يأخذ إلخ ) المراد أن يشتري أحد ثوبين أو ثلاثة غير معين على أن يأخذ أيهما شاء ، وهذا خيار التعيين : يعني أي الثوبين أو الثلاثة شاء على أنه بالخيار ثلاثة أيام فيما يعينه بعد تعيينه للمبيع . أما إذا قال بعتك عبدا من هذين بمائة ولم يذكر قوله على أنك بالخيار في أيهما شئت لا يجوز اتفاقا كقوله بعتك عبدا من عبيدي وإن اشترى أحد أربعة لا يجوز ( والقياس أن يفسد البيع في الكل ) في أحد الاثنين والثلاثة كما يفسد في الأربعة ( وهو ) أي القياس ( قول زفر والشافعي رحمهما الله . وجه الاستحسان أن شرع الخيار في خيار الشرط للحاجة إلى رفع الغبن ليختار ما هو الأرفق والأوفق ، والحاجة إلى هذا النوع من البيع متحققة ; لأن الإنسان ) قد ( يحتاج إلى رأي غيره ) في اختيار المبيعات وهو ليس بحاضر وليس يحضر لعلوه أو لتحجبها خصوصا إذا كانت أهله لا ينبغي له أن يتركها تلج [ ص: 326 ] الأسواق وتمارس الرجال لشراء حاجتها فيحتاج أن يدفع إليه العدد من ذلك النوع ليختار الأوفق ( ولا يمكنه البائع من حمله إليه إلا مبيعا فكان في معنى ما ورد به النص ) فيجوز ( غير أن الحاجة تندفع بالثلاث لتحقق الجيد والرديء والوسط فيها ) فيندفع بحمل واحد من كل نوع من الثلاثة فلا تشرع الرخصة في الزائد ; لأن شرع الرخصة للحاجة ، وقول المصنف ( والجهالة لا تفضي إلى المنازعة ) جواب عن تعليل زفر والشافعي بها ، وإذا ظهر أن جواز هذا البيع للحاجة إلى اختيار ما هو الأرفق والأوفق لمن يقع الشراء له حاضرا أو غائبا ظهر أنه لا يجوز للبائع بل يختص خيار التعيين بالمشتري ; لأن البائع لا حاجة له إلى اختيار الأوفق والأرفق ; لأن المبيع كان معه قبل البيع وهو أدرى بما لاءمه منه فيرد جانب البائع إلى القياس ; فلهذا نص في المجرد على أنه لا يجوز في جانب البائع . وذكر الكرخي أنه يجوز استحسانا ; لأنه بيع يجوز مع خيار المشتري فيجوز مع خيار البائع قياسا على الشرط ، وأنت عرفت الفرق . ثم اختلف المشايخ في أنه هل من شرط جواز هذا البيع أعني البيع الذي فيه خيار التعيين أن يكون فيه خيار الشرط كما قدمناه في الصورة . قيل نعم كما ( هو المذكور في الجامع الصغير ) تصويرا على ما ذكرناه ، ونسبه قاضي خان إلى أكثر المشايخ .

وقال شمس الأئمة : في جامعه هو الصحيح ( وقيل لا يشترط وهو المذكور في الجامع الكبير ) وغيره ، والمذكور في الجامع الصغير من الصورة وقع اتفاقا لا قيدا ، وصححه [ ص: 327 ] فخر الإسلام فقال : الصحيح عندنا أنه ليس بشرط ، وهو قول ابن شجاع . وجه الاشتراط وهو قول الكرخي أن القياس يأبى جواز هذا العقد لجهالة وقت المبيع وقت لزوم العقد ، وإنما جاز استحسانا بموضع السنة وهو شرط الخيار فلا يصح بدونه ، ولا يخفى ضعف هذا الكلام فإنه يقتضي أن شرط الإلحاق بالدلالة أن يكون في محل الصورة الملحقة الصورة الثابتة بالعبارة ، وكان يلزم أن لا يصح البيع بخيار النقد إلا في بيع خيار الشرط ; لأن صحة البيع على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع مما أثبت بدلالة نص خيار الشرط ، ولا يعلم اشتراط ذلك غير أنهما إن تراضيا على خيار الشرط مع خيار التعيين ثبت حكمه ، وهو جواز أن يرد كلا من الثوبين إلى ثلاثة أيام ولو بعد تعيين الثوب الذي فيه البيع ; لأن حاصل التعيين في هذا البيع الذي فيه شرط الخيار أنه عين المبيع الذي فيه الخيار لا أنه يسقط خياره ، ولو رد أحدهما كان بخيار التعيين ويثبت البيع في الآخر بشرط الخيار ، ولو مضت الثلاثة قبل رد شيء وتعيينه بطل خيار الشرط وانبرم البيع في أحدهما ، وعليه أن يعين

ولو مات المشتري قبل الثلاثة تم بيع أحدهما وعلى الوارث التعيين ; لأن خيار الشرط لا يورث والتعيين ينتقل إلى الوارث ليميز ملكه من ملك غيره على ما ذكرنا ; ولهذا لا يتوقف في حق الوارث كما ذكره المصنف ; لأنه صار بمنزلة الشريك المختلط ماله بمال غيره ، فما لم يطلب شريكه القسمة لم يتعين عليه ولا يفوت وقته ، وإن لم يتراضيا على خيار الشرط معه لا بد من توقيت خيار التعيين بالثلاثة عند أبي حنيفة كما في خيار الشرط ; لأنه أصله ، وعندهما أي مدة تراضيا عليها بعد كونها معلومة ، وعلى هذا يجب أنه إذا كان فيه خيار الشرط فمضت المدة حتى انبرم في أحدهما ولزم التعيين أن يتقيد التعيين بثلاثة من ذلك الوقت ، وحينئذ فإطلاق الطحاوي قوله خيار الشرط مؤقت بالثلاث في قوله غير مؤقت بها عندهما وخيار التمييز غير مؤقت فيه نظر ، وقد طولب بالفرق على قول أبي يوسف حيث قصر المدة [ ص: 328 ] على الثلاث في خيار النقد أخذا بالقياس ولم يقصر في خيار التعيين عليها . وأجيب بأن في خيار النقد تعلقا صريحا بأداة الشرط فلا يكون الوارد في خيار الشرط واردا فيه بخلاف خيار التعيين ليس في صريح التعليق فكان في معناه ، وهذا يوجب أن أخذه في خيار النقد في الثلاثة بأثر لابن عمر فيه ، ونفي الزائد بالقياس ، وأثر ابن عمر نقله الفقيه أبو الليث في شرح الجامع عن محمد بن الحسن عن عبد الله بن المبارك عن جريج عن سليمان مولى ابن البرصاء قال : بعت من عبد الله بن عمر جارية على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بيننا ، فأجاز ابن عمر هذا البيع .

ولم يرو عن أحد من الصحابة خلافه إلا أنه لا يطابق قول المصنف في مسألة خيار النقد فيما تقدم ; فأبو يوسف رحمه الله في الأصل بالأثر ، وفي هذا بالقياس ( قوله ولو هلك أحدهما أو تعيب لزمه البيع فيه بثمنه وتعين الآخر للأمانة لامتناع الرد بالتعيب ) علله المصنف بامتناع الرد بالتعييب فيعرف منه أن هذا إذا كان بعد أن قبضهما لامتناع رده بسبب العيب الذي حدث فيه عنده وتقدم أن الهلاك لا يعرى عن مقدمة عيب ، فلو هلك الآخر بعده هلك بغير شيء ; لأنه تعين أنه أمانة ، أما لو هلك أحدهما قبل القبض أو تعيب فلا يبطل البيع ، والمشتري بالخيار إن شاء أخذ الباقي بثمنه وإن شاء ترك ، ولو هلك الكل قبل القبض بطل البيع ( ولو هلكا معا ) بعد القبض ( لزمه نصف ثمن كل واحد منهما لشيوع البيع والأمانة ) فليس أحدهما أولى بكونه المبيع من الآخر ، وكذا إذا هلكا على التعاقب ولم يدر السابق منهما . وأثر هذا إنما يظهر إذا كان ثمنهما متفاوت الكمية ، فإن كانا متفقين فلا ، وكذا إذا هلكا على التعاقب فاختلفا في الهالك أولا فادعى البائع أنه أكثرهما ثمنا وقال المشتري الأقل فإن القول قول المشتري مع يمينه على ما استقر عليه قول أبي يوسف ومحمد .

وكان أبو يوسف يقول أولا يتحالفان فأيهما نكل لزمه دعوى الآخر ، وإن حلفا يجعل كأنهما هلكا معا ، ثم رجع إلى ما ذكرنا من قول محمد وأيهما بين قبل ، فإن أقاماها قضي ببينة البائع لإثباتها الزيادة ، ولو تعيبا معا بطل خيار الشرط وامتنع عليه ردهما وخيار التعيين على حاله فيمسك أيهما شاء بثمنه ويرد الآخر ، ولا يغرم من قيمة عيب المردود شيئا استحسانا [ ص: 329 ] لأن المعيب محل لابتداء البيع أيضا ، بخلاف الهالك ليس محلا لابتدائه فليس محلا لتعيينه ، ولو كان البيع فاسدا فقبضهما فأحدهما مضمون عليه بالقيمة والآخر أمانة ، ولو ماتا جميعا ضمن نصف قيمة كل منهما ، بخلاف البيع الصحيح فإنه يضمن نصف ثمن كل . فإن قيل : من أين يتعين المعيب للبيع دون الأمانة وأحدهما لا على التعيين مبيع كما أن أحدهما لا على التعيين أمانة وامتناع الرد للعيب المعلل به فرع اعتبار أنه هو المبيع وفيه التحكم . إذ اعتبار أنه المبيع ليس بأولى من اعتباره الأمانة . وأجيب بأن اعتباره المبيع عمل بالدليل الحادث وهو البيع فإنه سبب لإيجاب الضمان ، ذكره القاضي عبد الغني في مختلفاته . وأما عدم الضمان على الأمين فباستصحاب الحال . فإن قيل : لم لم يضمن الآخر إذا هلك ثانيا باعتبار أنه مقبوض على سوم الشراء ؟ الجواب بمنع أنه كتلك بل المقبوض كل منهما على حقيقة الشراء لأحدهما ، وليس هنا شيء على سوم الشراء ; لأن ما على سوم الشراء لا ينجز فيه عقد بل تعين الثمن فقط وهنا تنجز تمام العقد فلزم بالضرورة أن قبض العينين على أن أحدهما غير عين مبيعا وأحدهما غير عين أمانة ، فإذا فرض وجود ما يعين المبيع منهما من الأسباب تعين الآخر للأمانة . فإن قيل : لأي شيء انعكس حكم طلاق إحدى الزوجتين وعتق أحد العبدين هنا حيث يتعين للطلاق والعتاق الباقي لا الهالك وهنا يتعين الهالك للبيع ؟ أجاب علي القمي بأنه لا فرق في الحاصل ; لأن الهالك يهلك على ملكه في المسائل كلها ، غير أنه إذا هلك كل من الزوجة والعبد على ملكه تعين الباقي بالضرورة للطلاق والعتاق ، فإذا هلك العبد هنا على ملكه تعين الباقي للأمانة ، وأنت تعلم أن حقيقة السؤال أنه لأي شيء جعل الهالك هنا هو المحل للتصرف دون الباقي ، وهناك جعل المحل للتصرف الباقي دون الهالك مع التصرف في الكل في الأحد الدائر بين المعينات ، فلا بد من الفرق ، وهو أن العبد هنا لما أشرف على الهلاك خرج من أن يكون محلا للرد بالوجه الذي قلناه من المختلفات فتعين العقد فيه بتعين الباقي للضرورة ، وحين أشرفت الزوجة والعبد على الهلاك لم يخرجا عن كونهما محلا للطلاق والعتاق ، هو التصرف فتعين الباقي لهما ضرورة ، وهذا بخلاف ما إذا اشترى كل واحد منهما بعشرة على أنه بالخيار ثلاثة أيام . [ ص: 330 ] فهلك أحدهما فإنه يمتنع عليه رد الآخر ; لأن العقد تناولهما جميعا حتى ملك إتمام العقد فيهما ، فإذا تعذر عليه رد أحدهما لا يتمكن من رد الآخر لما فيه من تفريق الصفقة على البائع قبل التمام ، وهنا العقد إنما يتناول أحدهما حتى لا يملك إتمام العقد فيهما .




الخدمات العلمية