الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 326 ] وأنظره لها باجتهاده ، [ ص: 327 ] ثم حكم : كنفيها ، وليجب عن المجرح ، ويعجزه

التالي السابق


( و ) إذا قال القاضي للمشهود عليه أبقيت لك حجة فقال نعم ( أنظره ) أي أمهل القاضي المشهود عليه ( لها ) أي لإثبات الحجة التي ادعاها وضرب له أجلا ( باجتهاده ) ما لم يتبين له لدده . تت ظاهر كلامه أن التلوم باجتهاد الحاكم من غير تحديد ، والذي في معين الحكام أنه موكول إلى اجتهاد خمسة عشر يوما ثم ثمانية ثم ثلاثة تلوما ، هذا في الأموال ، وفي غيرها ثمانية أيام ثم ستة ثم أربعة ثم ثلاثة . ا هـ . وفي وثائق أبي القاسم في الأصول الشهرين والثلاثة ، وفي الديون ثلاثة أيام ، وفي البينات وحل العقود ثلاثون يوما ، وفي غير الأصول ثمانية أيام ثم ستة ثم ستة ثم أربعة ثم ثلاثة فهي سبعة وعشرون يوما ، وللقاضي جمعها وتفريقها جرى به العمل . طفي عبارة ابن القاسم في وثائقه وفي إثبات الديون ثلاثة أيام ونحوها ، وفي الإعذار في البينات وحل العقود ثلاثون يوما ، وللقاضي جمعها وبتفريقها جرى العمل ا هـ . [ ص: 327 ] ثم حكم ) أي يحكم القاضي بعد مضي الأجل ولم يثبت الحجة التي ادعاها بما شهدت به عليه البينة ، وشبه في الحكم فقال ( كنفيها ) أي للحجة بأن قال في جواب قول القاضي له أبقيت لك حجة لا حجة لي فيحكم عليه بلا إنظار . ابن رشد ضرب الأجل للمحكوم عليه فيما يدعيه من بينته مصروف لاجتهاد الحاكم بحسب ما يظهر له .

( و ) إن أقام المدعي بينة وأعذر فيها للمشهود عليه وأتى ببينة تجرحها وسئل القاضي عمن جرحها ف ( ليجب ) بضم التحتية وكسر الجيم ، القاضي من سأله عمن جرح بينته ، وصلة يجب ( عن المجرح ) بضم الميم وفتح الجيم وكسر الراء مثقلة . اللخمي يستحب كون التجريح سرا لأن في إعلانه أذى للشاهد ، ومن حق الشاهد والمشهود له أن يعلما بالمجرح ، إذ قد يكون بينه وبين المشهود عليه قرابة أو غير ذلك مما يمنع التجريح ، واختلف إن كان الشاهد والمشهود له ممن يتقى شره ( ويعجزه ) بضم التحتية وفتح العين وكسر الجيم مثقلة ، أي القاضي المشهود عليه إذا مضى الأجل ولم يثبت حجته . طفي أي يحكم عليه بمقتضى الشهادة فليس التعجيز شيئا زائدا على الحكم عليه بمقتضى الشهادة ، فلا يشترط تلفظه بمادة التعجيز ، وإنما يكتب التعجيز لمن يسأل تأكيدا للحكم ، لا لأن عدم سماع الحجة يتوقف عليه ، ففي التوضيح في قول ابن الحاجب فإن قال نعم انتظره ما لم يتبين لدده ما ذكره من أنه إذا ذكر أن له حجة وتبين لدده يقضي القاضي عليه هو التعجيز ، وتقدم في كلام عياض أنه استدل بقوله فحكم عليه على تعجيز الطالب ، وجوابه عن ذلك ، وقد عزا ابن رشد للمدونة أنه تقبل منه البينة التي أتى بها بعد التعجيز طالبا كان أو مطلوبا إذا كان لذلك وجه قائلا هو ظاهر ما في المدونة ، إذ لم يفرق بين تعجيز الطالب والمطلوب ، وهو الذي عنى المصنف بقوله في فصل تنازع الزوجين ، وظاهرها القبول إلخ .

والمدونة لم تصرح بعنوان التعجيز كما علمت نصها آنفا من قولها حكم بينهما ثم لا يقبل من المطلوب حجة إلخ ، فقد ظهر لك أن مجرد الحكم هو التعجيز ، وقول أبي القاسم [ ص: 328 ] الجزيري في وثائقه ، وتبعه ابن فرحون إن كان الحاكم قد قضى على القائم بإسقاط دعواه حين لم يجد بينته من غير صدور تعجيز ، ثم وجد بينته فله القيام بها ، ويجب القضاء له يقتضي أن التعجيز غير القضاء ، وأن عدم سماع الحجة إنما هو بعد التعجيز لا بعد القضاء ، وليس كذلك لما علمت ، إلا أن يكون مراده قضى عليه قبل إثبات عجزه بدليل قوله من غير صدور تعجيز إذا تمهد هذا فقوله إلا في دم إلخ ، لا يأتي على ما درج عليه في قوله إلا لعذر كنسيان إلخ من قبول ما أتى به بعد التعجيز إن كان له وجه من نسيان وعدم علم ، وهو مذهب المدونة ، ولا فرق بين الطالب والمطلوب ، وأنه يقبل منهما في كل شيء لا خصوصية لهذه المستثنيات ، وإنما يأتي على قول ابن القاسم لا يقبل منه ما أتى به بعد التعجيز ، وإن كان له وجه .

ابن رشد اختلف فيمن أتى ببينة بعد الحكم عليه بالتعجيز هل تقبل منه أم لا على ثلاثة أقوال :

أحدها : لا تقبل منه كان الطالب أو المطلوب ، وهو قول ابن القاسم في تعجيز الطالب ، وإذا قاله في الطالب فأحرى أن يقوله في المطلوب .

الثاني : قبولها منه كان الطالب أو المطلوب إذا كان لذلك وجه وهو ظاهر ما في المدونة ، إذ لم يفرق بين تعجيز الطالب والمطلوب .

الثالث : تقبل من الطالب ولا تقبل من المطلوب وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع أصبغ لأنه إنما قاله في الطالب والمطلوب بخلافه ، إذ المشهور فيه أنه إذا عجز وقضى عليه مضى الحكم ولا يسمع منه ما أتى به بعد ذلك ، ثم قال وهذا الخلاف إذا عجزه القاضي بإقراره على نفسه بالعجز ، أما إذا عجزه بعد التلوم والإعذار وهو يدعي حجة فلا يقبل منه ما أتى به بعد ذلك ا هـ . وسماع أصبغ في كتاب النكاح هو قوله سمع أصبغ ابن القاسم من ادعى على نكاح امرأة أنكرته ببينة بعيدة فلا ينتظر إلا في بينة قريبة ولا يضر ذلك بالمرأة ، ويرى الإمام لما ادعاه وجها ، فإن عجزه ثم أتى ببينة فقد مضى الحكم عليه نكحت المرأة أم لا ابن رشد قوله لا تقبل منه بينته بعد التعجيز خلاف سماع أصبغ من كتاب [ ص: 329 ] الصدقات ، وظاهر المدونة إذ لم يفرق فيها بين تعجيز الطالب والمطلوب . ا هـ . وسماع أصبغ من كتاب الصدقات .

سئل ابن القاسم عن ورثة قام رجل منهم فادعى صدقة عليه من أبيهم فسئل البينة على الحوز فأتى بشاهد واحد وأوقف القاضي له صدقته زمنا حتى يأتي بشاهد آخر فلم يأت به ، ثم أمر القاضي بقسمها على الورثة وكانت رقيقا ومنازل وأرضا فقسمت واتخذت أمهات أولاد وأعتق ما أعتق وغرست الأرض شجرا ، ثم ظفر مدعي الصدقة بشاهد آخر كان صبيا فبلغ أو غائبا فقدم ، فقال ابن القاسم أما ما اتخذت منها أمهات أولاد وما أعتق منهم فلا سبيل له إليهم ويتبع الورثة بالثمن ، وأما ما لم يحمل ولم يعتق فيأخذه وأطال في تفصيل ذلك .

ابن رشد قوله في هذه الرواية أنه يقضي له بالشاهد الذي أتى به مع الشاهد الأول بعد أن كان قد عجزه وقضى بقسمة الميراث فقسم وفوت خلاف ما في سماع أصبغ من كتاب النكاح ، ومثل ما في المدونة ، إذ لم يفرق فيها بين تعجيز الطالب والمطلوب ، وسمع يحيى ابن القاسم في كتاب الشهادات إذا قضى القاضي لرجل على آخر وسجل له وأشهد له عليه ثم أقام المحكوم عليه بينة بتجريح بعض من حكم به قبل منه إن رأى له وجها ، كقوله جهلت سوء حالهم حتى ذكر لي وظهر أنه غير ملد ومن ولي بعد القاضي مثله في ذلك .

ابن رشد تمكينه من التجريح بعد التسجيل عليه إن كان له وجه كقولها ، فقد ظهر لك من هذه الأسمعة وغيرها ما قلناه إن التلفظ بالتعجيز غير مشترط ، وأن مذهب المدونة للقيام بعده للطالب والمطلوب إن كان لذلك وجه وهو ما درج المصنف عليه بقوله إلا لعذر . وفي تنازع الزوجين بقوله وظاهرها القبول فلا وجه لاستثناء هذه الخمسة ، إذ القبول فيها وفي غيرها وإنما يأتي على قول من قال لا يقبل منه ما أتى به ، ولذا قال اللخمي من ادعى شيئا وأقام بينة عليه وعجز عن تزكية بينته وطلب من القاضي [ ص: 330 ] المدعى عليه تعجيزه لئلا يقوم عليه بها مرة أخرى ، فقال مطرف عليه ذلك واختلف إذا أتى بعد ذلك بمن يزكيها أو بينة عادلة ، فأصل مالك وابن القاسم رضي الله عنه أنها تقبل . وقال مطرف لا تقبل إلا في العتق والطلاق والنسب ا هـ .

وإنما أطلنا بذكر النقول المتداخلة إيضاحا للحق ، إذ لم أر من شفى الغليل في المسألة من شراحه مع وقوع الاضطراب في كلامه من جريه مرة على مذهب المدونة ومرة على غيره وقد نبهنا على شيء من ذلك في فصل تنازع الزوجين والله الموفق . عب يعجزه أي يحكم بعدم قبول بينته التي يأتي بها بعد ذلك زيادة على الحكم بالحق ، ويكتب ذلك في سجل بأن يقول ادعى فلان أن له بينة ولم يأت بها وقد عجزته كما يأتي خوفا من أن يدعي بعد ذلك عدم التعجيز ، وأنه باق على حجته وإن كان لا يقبل منه ذلك على المذهب دفعا للنزاع لأن هناك من قال بالقبول وليس المراد بالتعجيز الحكم بعد تبين اللدد لأن هذا لا يمنع من بقائه على حجته ، فالمراد الأول ثم إذا عجزه بالمعنى الأول فله إقامة بينة لم يعلمها أو ادعى نسيانها وحلف عليه إن عجزه مع إقراره على نفسه بالعجز على المشهور لا مع ادعائه حجة فلا يقيمها ولو مع ادعاء نسيانها وحلفه عليه .

البناني ما ذكره " ز " من أن التعجيز هو الحكم بعدم قبول بينته التي يأتي بها وأنه زائد على الحكم بالحق هو الذي يفيده الجزيري في وثائقه وابن فرحون في تبصرته ، وهو ظاهر قول المصنف ويعجزه إلا في دم لأنه لو أن مراده بالتعجيز مجرد الحكم لم يفترق الدم وما معه من غيره قاله اللقاني ، ثم قال البناني الظاهر أن يحمل قوله ويعجزه على صورة الاتفاق عند ابن رشد وهي إذا عجزه مدعيا أن له حجة وعليها يتنزل الاستثناء فلا يكون مخالفا لما جرى عليه فيما تقدم من مذهب المدونة ، وبهذا يسلم من الاضطراب الذي ادعاه طفي ، ويسقط به أيضا قول اللقاني ما نصه قوله ويعجزه إلا في دم إلخ ، هذا موافق لابن رشد في البيان ، ومخالف لما في المدونة على ما في التوضيح . ا هـ . نقله عنه الشيخ أحمد ، وقال بعده التقرير حسن والله أعلم .




الخدمات العلمية