الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وجازت على خط مقر بلا يمين ، [ ص: 463 - 464 ] وخط شاهد مات ، أو غاب ببعد ، وإن بغير مال فيهما

التالي السابق


( وجازت ) الشهادة ( على خط ) شخص ( مقر ) بضم فكسر وشد الراء ، أي بحسب دلالة خطه بأن كتب بخطه لفلان عندي دينار من قرض أو قبضت من فلان الدين من الذي كان لي عليه أو زوجته فلانة طالق أو عبده فلان حر أو عفوت عن قاذفي فلان أو قاطع طرفي أو قاتل وليي ، وإن كان منكرا الآن وإلا فلا حاجة للشهادة على خطه ويعمل بها اتفاقا عند ابن المواز ، وعلى المشهور من روايتين حكاهما في الجلاب ( بلا يمين ) على المشهود له المقر له ، وصححه ابن الحاجب ، وظاهره سواء كتب شهادته على نفسه في ذكر الحق أو كتب ذكر الحق ولم يكتب شهادته على نفسه ، ففي رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الشهادات ، وسئل مالك " رضي الله عنه " عن رجل كتب على رجل ذكر حق وأشهد فيه رجلين فكتب الذي عليه الحق شهادة على نفسه بيده في ذكر الحق وهلك الشاهدان ثم جحد المكتوب الشاهد على نفسه فأتى رجلان فقالا إنه كتابه بيده ، فقال مالك رضي الله تعالى عنه إذا شهد عليه شاهدان أنها كتابته بيده رأيت أن يؤخذ منه الحق ولا ينفعه إنكاره ، وذلك بمنزلة لو أقر ثم جحد وشهد عليه شاهدان بإقراره فأرى أن يغرم ا هـ .

[ ص: 463 ] ابن رشد هذا بين على ما قاله ; لأن شهادة الرجل على نفسه إقرار عليها وإقراره على نفسه شهادة عليها ونقله ابن عرفة شب لا فرق بين كون الوثيقة كلها بخطه أو المكتوب بخطه صيغة الإقرار والباقي بخط غيره أو كونها كلها بخط غيره ، وكتب بخطه على طرفها المنسوب إلي فيها صحيح أو أشهد على نفسي بما كتب علي في هذه الوثيقة والراجح أنه لا يكفي في الشهادة على خط المقر إلا عدلان ، وإن كان الحق مما يثبت بشاهد وامرأتين أو أحدهما ويمين ; لأنها على خط الواحد كالنقل عنه ، ولا ينقل عنه إلا اثنان ولو في المال ، وصوبه البرزلي وصححه في الجلاب ولا يمين على المقر له ، زاد عب ولا بد من حضور الخط ، وينتزع بها من يد حائز فهي أقوى من شهادة السماع .

البناني أما حضور الخط فقال ابن عرفة فتوى شيخنا ابن عبد السلام بأن شرط الشهادة على الخط حضوره ، ولا تصح في غيبته صواب ، وهو ظاهر تسجيلات الموثقين . المتيطي وغيره ونقل في المعيار عن أبي الحسن الصغير أنه سئل عن شاهدين نظرا وثيقة بيد رجل وحفظا وتحققا ما فيها وعرفا شهودها ، وأنهم ماتوا بوسم العدالة ثم ضاعت الوثيقة فأجاب بأن القاضي يعمل على ذلك ، إذ لا فرق عنده بين حضورها وغيبتها ، ثم قال صاحب المعيار وانظر ما يناقض هذه الفتوى في المتيطي وابن عرفة وهو الصحيح الذي لا يلتفت إلى غيره ا هـ .

وأما كون الخط لا يثبت إلا بعدلين على المعتمد دون الشاهد واليمين ففيه نظر ، بل المعتمد ثبوته بالشاهد واليمين ، إذ هو الذي يفهم من ضيح ، ونصه فرع إذا أقام صاحب الحق شاهدا واحدا على الخط فروايتان حكاهما ابن الحاجب ، وهما مبنيان على أنه إذا شهد له اثنان هل يحتاج إلى يمين أم لا ؟ فمن قال لا يحتاج إليها أعمل الشهادة هنا ومن قال يحتاج أبطلها هنا ، وإذا قلنا يحكم له به فيحتاج إلى يمينين يمين مع شاهده ويمين أخرى ليكمل السبب المشار إليه مساحي في شرح الجلاب ، وصح أن يحلف يمينين في حق واحد ; لأنهما على جهتين مختلفين . ا هـ . فيفهم من بنائه الحكم بشاهد ويمين في الخط على عدم [ ص: 464 ] الاحتياج مع الاثنين إلى يمين للذي هو المعتمد كما في المتن أن المعتمد ثبوته بشاهد ويمين ، وعليه اقتصر " ق " ، والله أعلم . ( و ) جازت على ( خط شاهد ) كتبه في وثيقة و ( مات ) الشاهد ( أو غاب ) الشاهد ( ببعد ) بضم الموحدة أي بمحل بعيد . ابن عبد السلام هو ما ينال الشاهد في حضوره منه لأداء الشهادة مشقة ، وجرت العادة عندنا أن اختلاف عمل القضاة ينزل منزلة البعد وإن كان ما بين العملين قريبا ، وحده ابن الماجشون بمسافة القصر وأصبغ بما بين مكة والعراق أو إفريقية من مصر ، فلا تصح الشهادة على خط الحي الحاضر أو قريب الغيبة ، وتجوز على خط المقر والشاهد إن كانت بمال ، بل ( وإن ) كانت ( بغير مال فيهما ) أي المقر والشاهد . الحط هذا الذي اختاره رحمه الله تعالى أن الشهادة على الخط جائزة في الطلاق والإعتاق ونحوهما ، وكأنه رحمه الله اعتمد فيه على ما ذكره في توضيحه عن أحكام ابن سهل ، ونصه في أحكام ابن سهل عن محمد بن الفرج مولى ابن الطلاع أنه قال الأصل في الشهادة على الخطوط من قول الإمام مالك وأكثر أصحابه رضي الله تعالى عنهم أنها تجوز في الحقوق والطلاق والأحباس وغيرها . ا هـ . وهو خلاف ما نقله البرزلي عن السيوري أنه قال لا تجوز الشهادة على الخط في طلاق ولا إعتاق ولا حد من الحدود على ما في الواضحة وغيرها ا هـ .

وفي نوازل ابن رشد فيمن قيم عليه بعقد تضمن إشهاده على نفسه أنه متى تزوج فلانة فهي طالق ثلاثا ، وتزوجها وأنكر العقد فشهد شهود أن العقد خط يده ، فقال إن كان العقد الذي قيم به على الرجل المذكور ثبت بشهادة الشهود الذين أشهدهم على نفسه بما تضمنه وعجز عن الدفع ، فالذي أراه وأتقلده أن يفرق بينهما وهو الصحيح عندي من الأقوال المشهورة في المذهب ، ولا يكون ذلك جرحة تسقط شهادته إلا أن يقر على نفسه أنه تزوجها بعد حلفه بطلاقها ألبتة أن لا يتزوجها وهو يعتقد أنه لا يحل له جرأة على الله تعالى ، إذ لو أقر بطلاقها على ما تضمنه العقد وقال إنما تزوجها لاعتقاده أنه يسوغ له [ ص: 465 ] لاختلاف أهل العلم فيه لعذر فيما فعله ، ولم يكن جرحة لا سيما إن كان ممن ينظر في العلم وسمع الأحاديث . وأما إن لم يثبت العقد الذي قيم به عليه إلا بالشهادة على الخط ، فلا يحكم به عليه إن أنكره ، ولا يفرق بينهما وإن عجز عن الدفع في شهادة من شهد عليه أنه خط يده ; لأن الشهادة على الخط لا تجوز في طلاق ولا إعتاق ولا نكاح ولا حد من الحدود على ما نص عليه ابن حبيب في واضحته وغيره ، ولو أقر أنه خطه كتبه بيده وزعم أنه لم يكتبه عازما على إنفاذه ، وإنما كتبه على أن يستشير وينظر لصدق في ذلك على ما قاله في المدونة ، والله أعلم .

ونقل ابن حبيب فيها عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ أنها لا تجوز في طلاق ولا إعتاق ولا حد من الحدود ولا كتاب قاض ، وإنما تجوز في الأموال فقط وحيث لا تجوز شهادة النساء ولا الشاهد مع اليمين فلا تجوز على الخط ، وحيث يجوز هذا يجوز هذا . وفي رسم القضاء من سماع أشهب من كتاب الشهادات في امرأة كتب لها زوجها بطلاقها مع من لا تجوز شهادته إن وجدت من يشهد لها على خطه نفعها ذلك أن يكون لها شبهة توجب لها اليمين على الزوج أنه ما طلق . ابن رشد كان يمضي لنا عند من أدركنا من الشيوخ أن ما ذكره ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ هو مذهب مالك لا خلاف فيه ، وأن معنى قوله في الرواية نفعها أن يكون لها شبهة توجب لها اليمين على الزوج أنه ما طلق ، والذي أقول به أن معنى ما حكاه ابن حبيب إنما هو أن الشهادة لا تجوز على خط الشاهد في طلاق ولا إعتاق ولا نكاح لا أنها لا تجوز على خطه أنه طلق أو أعتق أو نكح ، بل هي جائزة على خطه بذلك كما تجوز على خطه بالإقرار بالمال وهو بين من قوله فالصواب أن يحمل قول الإمام مالك رضي الله تعالى عنه نفعها على ظاهره من الحكم لها بالطلاق عليه إذا شهد على خطه شاهدان عدلان ، وذلك إذا كان خطه بإقراره على نفسه أنه طلق زوجته مثل أن يكتب إلى رجل يعلمه بأنه طلق زوجته أو إليها يعلمها بذلك .

وأما إن كان الكتاب إنما هو بطلاقه إياها ابتداء فلا يحكم عليه إلا أن يقر أنه كتبه مجمعا على [ ص: 466 ] الطلاق . وفي قبول قوله إنه كتبه غير مجمع على الطلاق بعد أن أنكر أنه كتبه اختلاف . ا هـ . فاختيار ابن رشد ثالث فرق فيه بين الشهادة على خط الشاهد فلا تجوز إلا في الأموال والشهادة على خط المقر ، فتجوز في الأموال وغيرها إذا كان الخط بإقراره على نفسه أنه طلق أو أعتق أو نحو ذلك . وأما إذا كان الخط إنما هو بطلاقه إياها ابتداء فلا ، وذكر ابن عرفة عن ابن سهل والباجي نحو اختيار ابن رشد ، وظاهر ما تقدم عن ابن رشد أن قول مطرف وابن الماجشون على ظاهره ، وقاله في نوازله ظاهر ما حكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ أن الشهادة على الخط لا تجوز فيما عدا الأموال لا على خط الشاهد ولا على خط المطلق أو المعتق وسائر ما ليس بمال ، وعلى ذلك كان الشيوخ يحملونه ، ومعناه إذا وجد الكتاب بالعتق عنده بعد موته أو بيده في حياته ; لأنه لو أقر أنه خطه وقال كتبته على أن أستخير في تنفيذه ولم أنفذه بعد لصدق في ذلك . وما إذا كان دفعه إلى العبد أو كان قد نص فيه على أنه أنفذه على نفسه فالشهادة عليه عاملة كالشهادة على خطه بالإقرار بالمال ، وهو ظاهر رواية أشهب عن الإمام مالك رضي الله تعالى عنهما في العتبية ، وما في مختصر ابن عبد الحكم . ا هـ . ابن فرحون بعد نقل قول مطرف وابن الماجشون وأصبغ . ابن راشد هذه التفرقة لا معنى لها إلا أن يريد أن الأموال أخف والصواب الجواز في الجميع . ابن الهندي يلزم من أجازها في الأحباس القديمة إجازتها في غيرها ; لأن الحقوق عند الله تعالى سواء .




الخدمات العلمية