الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 458 ] وبيع ما يفسد ، ووقف ثمنه معهما ، بخلاف العدل فيحلف ، ويبقى بيده .

[ ص: 458 ]

التالي السابق


[ ص: 458 ] ( وبيع ) بكسر الموحدة قبل المثناة التحتية ( ما ) أي المدعى به الذي ( يفسد ) بتأخيره إلى تمام الشهادة كطري لحم وفاكهة ومطبوخ ( ووقف ) بضم الواو وكسر القاف ( ثمنه ) بيد عدل ( مع ) الشهادة من ( هما ) أي الشاهدين المحتاجين للتزكية ( بخلاف ) شهادة ( العدل ف ) لا يباع المدعى به بسببها و ( يحلف ) المدعى عليه أن المدعي لا يستحق شيئا منه ( ويبقى ) بضم ففتح مثقلا المدعى به ( بيده ) أي المدعى عليه . الحط يعني أن من ادعى شيئا يفسد بالتأخير كاللحم ورطب الفواكه ، وأقام شاهدين واحتيج إلى تزكيتهما ، فإن ذلك الشيء يباع ويوقف ثمنه ، بخلاف ما إذا أقام عدلا واحدا فإن المدعى عليه يحلف ويترك الشيء بيده ، هكذا قال ابن الحاجب متبرئا منه بقوله قالوا وقبله في التوضيح . وقال تبرأ منه لإشكاله ، وذلك لأن الحكم كما يتوقف على الشاهد الثاني ، كذلك يتوقف على عدالة الشاهدين . فإما أن يباع ويوقف ثمنه فيهما أو يخلى بيده فيهما . وأجاب صاحب النكت بأن مقيم العدل قادر على إثبات حقه بيمينه فلما ترك ذلك اختيارا صار كأنه مكنه منه ، بخلاف من أقام شاهدين أو شاهدا أو وقف ذلك القاضي لينظر في تعديلهم لا حجة عليه في ذلك ، لعدم قدرته على إثبات حقه بغير عدالتهم .

وأشار المازري إلى فرق آخر ، وهو أن الشاهدين المجهولين أقوى من الواحد ; لأن الواحد يعلم قطعا أنه غير مستقل والشهيدان المجهولان إذا عدلا فإنما أفاد تعديلهما بعد الكشف عن وصف كانا عليه حين شهادتهما ، ويحتمل أن يكون وجه الإشكال ما ذكره ابن عبد السلام مقتصرا عليه ، فإنه قال إنما تبرأ منه ; لأنهم مكنوا من الطعام من هو بيده بعد شاهد ولم يمكنوه منه إن قام عليه شاهدان ، بل قالوا يباع ويوقف ثمنه والشاهدان أضعف . قال فإن قلت ولأجل أن الشاهد أضعف من الشاهدين أبقي الطعام بيد المدعي ; لأنه إذا أضعفت الدعوى لضعف الحجة ضعف بسبب ذلك أثرها ، فإبقاء الطعام بيده ليس هو [ ص: 459 ] لما توهم من تقديم الأضعف على الأقوى ، بل هو عين ترجيح الأقوى . فأجاب عن ذلك لو كان صحيحا للزم مثله فيما لا يخشى فساده أن يحلف من هو بيده ويترك له يفعل فيه ما أحب . قال ويجاب عن أصل المذهب بأن ما يخشى فساده قد تعذر القضاء بعينه للمدعي لخشية فساده قبل ثبوت دعواه . فلم يبق إلا النزاع في ثمنه ، فهو كدين على من هو بيده فمكن منه بعد أن يحلف ليسقط حق المنازع في تعجيله له ، ولا يلزم مثل ذلك فيما قام عليه شاهدان ; لأن حق المدعي فيه أقوى من حق المدعى عليه . ا هـ . كلام التوضيح .

ابن عرفة حاصل كلامه أن المذهب عنده هو ما نقله ابن الحاجب ، وأشار إلى التبري منه وهو أن الشاهد الواحد فيما يخشى فساده يوجب عدم تمامه حين خوف المدعي فيه تسليمه للمدعى عليه دون بيعه ، وإن عدم عدالة الشاهدين حينئذ لا يوجب ذلك ، بل يوجب بيعه ووقف ثمنه ، ومن تأمل كلام عياض وأبي حفص العطار مراعيا أصول المذهب علم أن ما فهمه الشيخ عن المذهب ، وفسر به كلام ابن الحاجب غير صحيح فيها إن كانت الدعوى فيما يفسد من اللحم ورطب الفواكه وأقام شاهدا واحدا وأثبت لطخا وقال لي بينة حاضرة أجله القاضي لإحضار شاهد إن قال لي شاهد ولا أحلف ، أو بينة ما لم يخف الفساد على ذلك الذي ادعى واستؤني ، فإن أحضر ما ينتفع به وإلا خلى بين المدعى عليه وبين متاعه إن كان هو البائع ، ونهى المشتري أن يعرض له ، وإن كان أقام شاهدين فكان القاضي ينظر في تعديلهما وخاف عليه الفساد أمر ببيعه ووضع ثمنه على يد عدل ، فإن زكيت البينة قضى للمشتري بالثمن إن كان هو المدعي وأخذ من المشتري الثمن الذي شهدت به البينة فدفع للبائع كان أقل أو أكثر ، ويقال للبائع أنت أعلم بما زاد ثمن المشتري الذي جحدت البيع به على ثمن سلعتك وإن لم تزل البينة على الشراء دفع القاضي الثمن للبائع ، فإن ضاع الثمن قبل القضاء به لأحدهما فضمانه ممن يقضى له به .

عياض قوله في توقيف ما يسرع له الفساد إذا قال المدعي عندي شاهد واحد ولا أحلف معه أنه يؤجله ما لم يخف عليه الفساد ، وإلا خلى بين المدعى عليه وبين متاعه . معنى [ ص: 460 ] قوله ولا أحلف معه أي ألبتة ولو أراد لا أحلف معه الآن لأني أرجو شاهدا ، فإن وجدته وإلا حلفت مع شاهدي بيع حينئذ ووقف ثمنه إن خشي فساده وليس هذا بأضعف من شاهدين يطلب تعديلهما ، فقد جعله ببيعه هنا ونحن على شك من تعديلهما ، وهو إن لم يثبت بطل الحق وشاهد واحد في الأول ثابت بكل حال والحلف معه ممكن إن لم يجد آخر ويثبت الحق ، فحاصلها إن لم يقم المدعي إلا لطخا قاصرا عن شاهد عدل وعن شهيدين ممكن تعديلهما وقف المدعي فيه ما لم يخش فساده ، فإن خشي فساده خلى بينه وبين المدعى عليه ، وكذا إن أقام شاهدا عدلا وقال لا أحلف معه بوجه وإن قال أحلف معه أو أتى بشاهدين ينظر في تعديلهما بيع ووقف ثمنه حسبما ذكره في الأم ، ومثل ما ذكره عياض عن المذهب ذكر أبو حفص العطار ، وزاد إن كان أتى الطالب بشاهد واحد ولم يزكه وهو قابل للتزكية فهو كقيام شهيدين ينظر في تزكيتهما يباع المدعى به لخوف فساده . ونقل أبو إبراهيم قول عياض ولم يتعقبه . ثم قال ابن عرفة وقول ابن عبد السلام في سؤاله وجوابه .

قلت لو كان هذا صحيحا لزم فيما لا يخشى فساده واضح رده بأن الحكم المذكور وهو تسليمه للمدعى عليه أو بيعه ووقف ثمنه علل في كل الروايات بخوف فساده حين عدم حجة المدعي عدما لا يوجب تعجيزه ، وهذه العلة مفقودة فيما لا يخشى فساده . وقوله غير أنه يمكن الجواب إلخ مبني على فهمه أن المذهب التفرقة بين الشاهد الواحد والشاهدين ، وتقدم رده وعلى تسليمه يرد جوابه بأن اللازم حينئذ كونه كدين على من هو بيده ، وهذا إنما يوجب عدم بيعه عليه لا الزيادة الثابتة في رواية المدونة ، وهي قوله ونهى المشتري عن التعرض له ; لأن ظاهرها أنه لا يعرض له مطلقا لا في عين المدعى به ولا في تعلقه بذمته ولو بقيت دعواه في ثمنه لوقف ثمنه ، ولا سيما إن كان المدعى عليه غير مليء بثمنه ، وموجب كلام الشيخ عدم وقوفه على كلام عياض والله أعلم بمن اهتدى .

الحط والحاصل أن قوله بخلاف العدل فيحلف معه ويبقى بيده يقيد ذلك بما إذا قال [ ص: 461 ] المدعي أنا لا أحلف ألبتة مع شاهدي العدل ، وإنما أطلب شاهدا ثانيا ، فإن وجدته وإلا حلفت ، فإن المدعى فيه يباع ويوقف ثمنه كما يباع ثمنه مع الشاهدين على ما قاله عياض وأبو حفص العطار ، وقبله ابن عرفة والله أعلم .




الخدمات العلمية