الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4371 باب في قول إبراهيم عليه السلام. إني سقيم، وبل فعله كبيرهم هذا، وفي سارة: هي أختي

                                                                                                                              وهو في النووي، في (باب فضائل إبراهيم الخليل، عليه السلام).

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي، ص 123، 125 جـ 15، المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني [ ص: 190 ] عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي؛ فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك؛ فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار أتاه؛ فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها فأتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة، فقال لها ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك، ففعلت، فعاد فقبضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد فقبضت أشد من القبضتين الأوليين، فقال: ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا أضرك ففعلت وأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان؛ فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف، فقال لها: مهيم؟ قالت: خيرا، كف الله يد الفاجر وأخدم خادما قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، قال: لم يكذب إبراهيم النبي، عليه السلام، قط: إلا ثلاث كذبات. بسكون الذال وبفتحها.

                                                                                                                              [ ص: 191 ] قال في الفتح "عن أبي البقاء": إنه - أي الفتح - الجيد لأنه جمع "كذبة" بسكون الذال، وهو اسم لا صفة. تقول: "كذب كذبة". كما تقول: "ركع ركعة". ولو كان صفة لسكن في الجمع.

                                                                                                                              وليس هذا من الكذب الحقيقي، الذي يذم فاعله. حاشا وكلا. وإنما أطلق عليه الكذب تجوزا، وهو من باب المعاريض المحتملة للأمرين: لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث عند البخاري، في "الأدب المفرد"، عن عمران بن الحصين: "إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب". وهو عند "ابن السني" مرفوع.

                                                                                                                              وقال البيهقي: الموقوف هو الصحيح. وروي عن علي مرفوعا، لكن سنده ضعيف جدا.

                                                                                                                              وعن أبي سعيد - عند ابن أبي حاتم - قال رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: "في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال - ما منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله. أي: جادل ودافع.

                                                                                                                              [ ص: 192 ] وفي حديث "ابن مسعود" عند أحمد: "والله إن جادل بهن إلا عن دين الله".

                                                                                                                              وقال ابن عقيل: دلالة العقل، تصرف ظاهر إطلاق الكذب: عن إبراهيم. وإنما أطلق عليه ذلك: لكونه بصورة الكذب، عند السامع.

                                                                                                                              وقول الإمام الرازي: "لا ينبغي أن ينقل هذا الحديث؛ لأن فيه نسبة الكذب إلى إبراهيم": ليس بشيء. إذ الحديث صحيح، ثابت في الصحيحين. وليس فيه نسبة محض الكذب إلى الخليل.

                                                                                                                              وقال المازري: أما الكذب فيما طريقة البلاغ عن الله تعالى: فالأنبياء معصومون منه، سواء كثيره وقليله. وأما ما لا يتعلق بالبلاغ، ويعد من الصفات: كالكذبة الواحدة، في حقير من أمور الدنيا، ففي إمكان وقوعه منهم وعصمتهم منه: القولان المشهوران، للسلف والخلف.

                                                                                                                              قال عياض: الصحيح: أن الكذب فيما يتعلق بالبلاغ: لا يتصور وقوعه منهم، سواء جوزنا الصغائر منهم وعصمتهم منها، أم لا. وسواء قل الكذب أم كثر؛ لأن منصب النبوة يرتفع عنه. وتجويزه: يرفع الوثوق بأقوالهم.

                                                                                                                              وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: [ثنتين في ذات الله تعالى، وواحدة في شأن سارة]. فمعناه: أن الكذبات المذكورة، إنما هي [ ص: 193 ] بالنسبة إلى فهم المخاطب والسامع. وأما في نفس الأمر، فليست كذبا مذموما، لوجهين. وذكرهما. انتهى. وهذا كالأول.

                                                                                                                              قال المازري: وقد تأول بعضهم هذه الكلمات، وأخرجها عن كونها كذبا. قال: ولا معنى للامتناع من إطلاق لفظ أطلقه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.

                                                                                                                              قال النووي: أما إطلاق لفظ "الكذب" عليها: فلا يمتنع، لورود الحديث به. وأما تأويلها فصحيح، لا مانع منه.

                                                                                                                              (ثنتين في ذات الله): أي لأجله من غير حظ لنفسه. بخلاف الثالثة، وهي قصة "سارة"، فإنها تضمنت حظا.

                                                                                                                              فالأولى (قوله: إني سقيم): مريض القلب، بسبب إطباقكم على الكفر والشرك. أو سقيم بالنسبة إلى ما يستقبل؛ لأن الإنسان عرضة للأسقام. يعني: مرض الموت. واسم الفاعل يستعمل بمعنى المستقبل كثيرا.

                                                                                                                              [ ص: 194 ] وأراد بذلك: الاعتذار عن الخروج معهم، إلى عيدهم، وشهود باطلهم وكفرهم.

                                                                                                                              وما أحسن قول الشاعر الفارسي:

                                                                                                                              اكرترايتما شأى عيد خود طلبند خليل وارجوابي بكوكبه بيمارم

                                                                                                                              .

                                                                                                                              أو أنه: خارج المزاج عن الاعتدال، خروجا قل من يخلو منه.

                                                                                                                              وقال سفيان: "سقيم" أي: "طعين". وكانوا يفرون من المطعون.

                                                                                                                              وعن ابن عباس: قالوا له، وهو في بيت آلهتهم: اخرج. فقال: إني مطعون. فتركوه مخافة الطاعون. فإنه كان غالب أسقامهم: الطاعون. وكانوا يخافون العدوى.

                                                                                                                              قال القسطلاني: وأما قول بعضهم: إنه كان تأتيه الحمى في ذلك الوقت، فبعيد؛ لأنه لو كان كذلك: لم يكن كذبا، لا تصريحا ولا تلويحا. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 195 ] قلت: ولا حجة في احتمال "الطاعون" أيضا؛ لأن الله تعالى لم يفصل. ولا حجة في قول الأصحاب، حتى يثبت رفعا. وخروج "المزاج" عن العدل، لو صح لم يكن كذبا.

                                                                                                                              فالأولى: القصر على لفظ الكتاب، من دون تنقير لمعناه.

                                                                                                                              والثانية (قوله: بل فعله كبيرهم هذا)) قال ابن قتيبة، وطائفة: جعل النطق شرطا لفعل كبيرهم. أي: فعله كبيرهم، إن كانوا ينطقون. فأراهم عجزهم. وفي ضمنه: "أنا فعلت ذلك".

                                                                                                                              وقال الكسائي: يوقف عند قوله "بل فعله". أي: فعله فاعله. فأضمر. ثم يبتدئ فيقول: "كبيرهم هذا"، فاسألوهم عن ذلك الفاعل.

                                                                                                                              قال النووي: وذهب الأكثرون إلى أنها على ظاهرها.

                                                                                                                              [ ص: 196 ] قال القسطلاني: هذا الإضراب عن جملة محذوفة. أي: لم أفعله، إنما الفاعل حقيقة هو الله. وإسناد الفعل إلى كبيرهم: من أبلغ المعاريض. قال: وكانت. فيما قيل -: "اثنين وسبعين صنما". وكان الكبير: من الذهب مرصعا بالجواهر. وجعل الفأس في عنقه). لعلهم إليه يرجعون.

                                                                                                                              (وواحدة في شأن سارة) قال العلماء: هي أيضا في ذات الله تعالى؛ لأنها سبب دفع كافر ظالم. عن مواقعة فاحشة عظيمة. وقد جاء ذلك مفسرا في غير مسلم، فقال: ما فيها كذبة، إلا يماحل بها عن الإسلام.

                                                                                                                              (فإنه قدم أرض جبار) من الجبابرة، اسمه: "صادوق" فيما ذكره "ابن قتيبة". وهو ملك الأردن. أو "سنان". أو "سفيان بن علوان" فيما ذكره الطبري. أو "عمرو بن امرئ القيس بن سبأ". وكان على مصر. ذكره السهيلي.

                                                                                                                              [ ص: 197 ] (ومعه "سارة". وكانت من أحسن الناس. فقال لها: إن هذا الجبار، إن يعلم أنك امرأتي: يغلبني عليك. فإن سألك، فأخبريه أنك أختي. فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك.

                                                                                                                              أي: في الأرض التي وقع فيها هذا الأمر. وبهذا: يدفع اعتراض من قال: إن لوط كان مؤمنا له، كما قال تعالى: فآمن له لوط .

                                                                                                                              (فلما دخل أرضه، رآها بعض أهل الجبار). فيه: دلالة على أنه لم يكن الحجاب للنساء، في ذلك الزمان.

                                                                                                                              (أتاه فقال: لقد قدم أرضك امرأة، لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها فأتي بها. وقام إبراهيم، عليه السلام: إلى الصلاة. فيه: أن الصلاة يستعان بها عند الشدائد والحادثات. وهذا موافق لقوله سبحانه وتعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون .

                                                                                                                              وكان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة. وكذلك يفعل السلف الصالح. وهكذا ينبغي لكل مسلم، يؤمن بالله واليوم الآخر. ومن استعان بها، وصبر: فقد فاز فوزا عظيما.

                                                                                                                              [ ص: 198 ] (فلما دخلت عليه: لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت يده قبضة شديدة، فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، ولا أضرك. ففعلت. فعاد، فقبضت أشد من القبضة الأولى. فقال لها مثل ذلك، ففعلت. فعاد، فقبضت أشد من القبضتين الأوليين. فقال: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله) أي: شاهدا وضامنا (أن لا أضرك، ففعلت وأطلقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان) أي: متمرد من الجن. (ولم تأتني بإنسان. فأخرجها من أرضي، وأعطها هاجر لتخدمها؛ لأنه أعظمها أن تخدم نفسها. وكان أبو "هاجر" من ملوك القبط.

                                                                                                                              (قال: فأقبلت تمشي. فلما رآها إبراهيم عليه السلام: انصرف. فقال لها: "مهيم"؟) بفتح الميم والياء، وإسكان الهاء بينهما. أي: ما شأنك؟ وما خبرك؟

                                                                                                                              وفي البخاري لأكثر الرواة: "مهيما" بالألف. والأول أفصح وأشهر. وقال هنا: "انصرف". وفي البخاري: "وهو قائم يصلي فأومأ بيده". (قالت: خير، كف الله يد الفاجر).

                                                                                                                              [ ص: 199 ] وفي البخاري: "رد الله كيد الكافر والفاجر في نحره). (وأخدم خادما) أي: وهبني خادما. وهي "هاجر" ويقال: "آجر" بمد الألف. و"الخادم" يقع على الذكر والأنثى. ولم يعد قوله: "هذا ربي" مع تلك الكذبات، كما زعم بعضهم. فتكون الكذبات "أربعة"؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نفى هذا بقوله: "إلا ثلاث كذبات"، ولأنه قال ذلك، حكاية لقول الخصم. ثم ذكر عقبه ما يدل على فساده. وهو قوله: لا أحب الآفلين ويؤيد هذا: أنه تعالى مدحه في آخر هذه الآية، على هذه المناظرة، بقوله: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه . والله أعلم.

                                                                                                                              (قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء!).

                                                                                                                              قال كثيرون: المراد: العرب كلهم، لخلوص نسبهم وصفائه. وقيل: لأن أكثرهم أصحاب مواش، وعيشهم من المرعى، والخصب، وما ينبت بماء السماء.

                                                                                                                              [ ص: 200 ] قال عياض: الأظهر عندي: أن المراد بذلك: الأنصار خاصة، ونسبتهم إلى جدهم: "عامر بن حارثة" بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأدد. وكان يعرف بماء السماء. وهو المشهور بذلك. والأنصار كلهم من ولد "حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور". والله أعلم.

                                                                                                                              قال الخطابي: وقيل: إنما أراد "زمزم" أنبعها الله لهاجر، فعاشوا بها، فصاروا كأنهم أولادها.

                                                                                                                              وذكر ابن حبان، في صحيحه: أن كل من كان من ولد "هاجر"، يقال له: "ولد ماء السماء"؛ لأن إسماعيل ولد "هاجر"، وقد ربي بماء زمزم، وهي من ماء السماء، الذي أكرم الله به إسماعيل، حين ولدته "هاجر"، فأولادها: أولاد ماء السماء.

                                                                                                                              وقيل: ماء السماء، هو "عامر" جد الأوس والخزرج. سمي بذلك؛ لأنه كان إذا قحط الناس: أقام لهم ماله مقام المطر. انتهى.

                                                                                                                              قال النووي: وفي هذا الحديث: معجزة ظاهرة لإبراهيم، صلى الله عليه وسلم. انتهى.

                                                                                                                              [ ص: 201 ] قلت: ولزوجته عليه السلام "سارة" أيضا.




                                                                                                                              الخدمات العلمية