الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[من خطب سيدنا أبي بكر رضي الله عنه]

وأخرج ابن عساكر عن موسى بن عقبة : أن أبا بكر الصديق كان يخطب فيقول: (الحمد لله رب العالمين، أحمده وأستعينه، ونسأله الكرامة فيما بعد الموت ; فإنه قد دنا أجلي وأجلكم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا، وسراجا منيرا ; لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، ومن يطع الله ورسوله.. فقد رشد، ومن يعصهما.. فقد ضل ضلالا مبينا.

أوصيكم بتقوى الله، والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم وهداكم به، ; فإن [ ص: 197 ] جوامع هدى الإسلام بعد كلمة الإخلاص: السمع والطاعة لمن ولاه الله أمركم ; فإنه من يطع والي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. فقد أفلح، وأدى الذي عليه من الحق.

وإياكم واتباع الهوى ; فقد أفلح من حفظ من الهوى والطمع والغضب. وإياكم والفخر، وما فخر من خلق من تراب ثم إلى التراب يعود، ثم يأكله الدود، ثم هو اليوم حي وغدا ميت؟ !

فاعملوا يوما بيوم، وساعة بساعة، وتوقوا دعاء المظلوم، وعدوا أنفسكم في الموتى، واصبروا فإن العمل كله بالصبر، واحذروا والحذر ينفع، واعملوا والعمل يقبل، واحذروا ما حذركم الله من عذابه، وسارعوا فيما وعدكم الله من رحمته.

وافهموا وتفهموا، واتقوا وتوقوا، فإن الله قد بين لكم ما أهلك به من كان قبلكم، وما نجى به من نجى قبلكم، قد بين لكم في كتابه حلاله وحرامه، وما يحب من الأعمال، وما يكره ; فإني لا آلوكم ونفسي، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

واعلموا: أنكم ما أخلصتم لله من أعمالكم.. فربكم أطعتم، وحظكم حفظتم واغتبطتم، وما تطوعتم به لربكم.. فاجعلوه نوافل بين أيديكم، تستوفوا لسلفكم، وتعطوا جزاءكم حين فقركم وحاجتكم إليها.

ثم تفكروا عباد الله في إخوانكم وصحابتكم الذين مضوا ; قد وردوا على ما قدموا فأقاموا عليه، وحلوا في الشقاء والسعادة فيما بعد الموت.

إن الله ليس له شريك، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيرا، ولا يصرف عنه سوءا إلا بطاعته واتباع أمره ; فإنه لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلوا على نبيكم - صلى الله [ ص: 198 ] عليه وسلم -، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته).

وأخرج الحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عكيم قال: خطبنا أبو بكر الصديق، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: (أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، فإن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين .

ثم اعلموا عباد الله: أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا يطفأ نوره، ولا تنقضي عجائبه، فاستضيئوا بنوره، وانتصحوا كتابه، واستضيئوا منه ليوم الظلمة ; فإنه إنما خلقكم لعبادته، ووكل بكم كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون.

ثم اعلموا عباد الله: أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه ; فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل الله.. فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، سابقوا في آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم فيردكم إلى أسوأ أعمالكم ; فإن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم ونسوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم ; فالوحا الوحا، ثم النجاء النجاء ; فإن وراءكم طالبا حثيثا مره سريع).

وأخرج ابن أبي الدنيا وأحمد في «الزهد» وأبو نعيم في «الحلية» عن يحيى بن أبي كثير : أن أبا بكر كان يقول في خطبته: (أين الوضاء الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم؟ ! أين الملوك الذين بنوا المدائن وحصنوها؟ ! أين الذين كانوا يعطون الغلبة في مواطن الحرب؟ ! قد تضعضع أركانهم حين أخنى بهم الدهر، وأصبحوا في ظلمات القبور، الوحا الوحا، ثم النجاء النجاء).

[ ص: 199 ] وأخرج أحمد في «الزهد» عن سلمان قال: ( أتيت أبا بكر، فقلت: اعهد إلي، فقال: يا سلمان ; اتق الله، واعلم أنه ستكون فتوح، فلا أعرفن ما كان حظك منها ما جعلته في بطنك، أو ألقيته على ظهرك، واعلم أنه من صلى الصلوات الخمس.. فإنه يصبح في ذمة الله، ويمسي في ذمة الله تعالى، فلا تقتل أحدا من أهل ذمة الله فتخفر الله في ذمته، فيكبك الله في النار على وجهك).

وأخرج عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: (يقبض الصالحون الأول فالأول، حتى يبقى من الناس حثالة كحثالة التمر والشعير، لا يبالي الله بهم).

وأخرج سعيد بن منصور في «سننه» عن معاوية بن قرة : أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان يقول في دعائه: (اللهم ; اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم لقائك ).

وأخرج أحمد في «الزهد» عن الحسن، قال: بلغني أن أبا بكر كان يقول في دعائه: (اللهم ; إني أسألك الذي هو خير لي في عاقبة الأمر، اللهم ; اجعل آخر ما تعطيني من الخير رضوانك والدرجات العلى من جنات النعيم ).

وأخرج عن عرفجة قال: قال أبو بكر : (من استطاع أن يبكي.. فليبك، وإلا فليتباك).

وأخرج عن عروة، عن أبي بكر قال: (أهلكهن الأحمران: الذهب، والزعفران ).

وأخرج عن مسلم بن يسار، عن أبي بكر قال: (إن المسلم ليؤجر في كل [ ص: 200 ] شيء ; حتى في النكبة وانقطاع شسعه، والبضاعة تكون في كمه، فيفقدها، فيفزع لها، فيجدها في ضبنه ).

وأخرج عن ميمون بن مهران، قال: أتى أبو بكر بغراب وافر الجناحين، فقلبه ثم قال: (ما صيد من صيد، ولا عضدت من شجرة.. إلا بما ضيعت من التسبيح).

وأخرج البخاري في «الأدب» وعبد الله بن أحمد في زوائد «الزهد» عن الصنابحي : أنه سمع أبا بكر يقول: (إن دعاء الأخ لأخيه في الله يستجاب).

وأخرج عبد الله في زوائد «الزهد» عن عبيد بن عمير، عن لبيد الشاعر: أنه قدم على أبي بكر فقال:


ألا كل شيء ما خلا الله باطل



فقال (صدقت)، فقال:


وكل نعيم لا محالة زائل



فقال: (كذبت ; عند الله نعيم لا يزول)، فلما ولى.. قال أبو بكر: (ربما قال الشاعر الكلمة من الحكمة).

التالي السابق


الخدمات العلمية