الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 103 ] قال ( ومن حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها لم يحنث بالقعود حتى يخرج ثم يدخل ) استحسانا . والقياس أن يحنث لأن الدوام له حكم الابتداء . وجه الاستحسان أن الدخول لا دوام له لأنه انفصال من الخارج إلى الداخل .

التالي السابق


( قوله ومن حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها لم يحنث ) بالمكث فيها أياما وهو المراد بالقعود المذكور في الكتاب حتى يدخل بعد خروجه منها استحسانا . والقياس أن يحنث بالمكث وإن قصر لأن الدوام له حكم ابتداء الدخول حتى صحت إرادته به : أعني لو حلف لا يدخل هذه الدار ونوى به المكث والقرار فيها صح ، حتى لو دخل ابتداء لا يحنث فيما بينه وبين الله تعالى ( وجه الاستحسان أن الدخول ) حقيقة لغة وعرفا في الانفصال من الخارج إلى الداخل ولا دوام لذلك ، فليس الدوام مفهومه ولا جزء مفهومه ، وكونه مما يصح أن يراد باللفظ مجازا لأنه لازم للدخول عادة وإن قل إذ كان الدخول يراد للمكث لا يقتضي الحنث به لأن اليمين لا تنعقد على المعنى المجازي للفظ بل الحقيقي .

وكذا لو كان حلف ليدخلنها غدا وهو فيها فمكث حتى مضى الغد حنث لأنه لم يدخلها فيه إذ لم يخرج ، ولو نوى بالدخول الإقامة فيه لم يحنث . وعلى هذا قد يقال ليس هنا قياس في مقابلة الاستحسان فإن القياس الكائن في مقابلته هو ما يتبادر ويتسارع إلى الذهن ، ولا يتسارع لأحد من لفظ أدخل معنى أستمر مقيما فيقضى العجب من زفر بقوله بالحنث .

وهذه المسألة عليها الأئمة الأربعة إلا في وجه عند الشافعي كقول زفر . ونظير المسألة حلف لا يخرج وهو خارج لا يحنث حتى يدخل ثم يخرج ، وكذا لا يتزوج وهو متزوج ولا يتطهر وهو متطهر فاستدام النكاح والطهارة لا يحنث . بخلاف المسائل التي ذكرها بقوله لو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه ، وكذا لا يركب هذه الدابة وهو راكبها أو لا يسكن هذه الدار وهو ساكنها فمكث قليلا حنث ، فلو نزع الثوب من ساعته أو نزل أو أخذ في النقلة لم يحنث خلافا لزفر .

أما الأول وهو الحنث بمكثه فلأن هذه الأفاعيل لها دوام بحدوث أمثالها ، ولهذا لو قال لها كلما ركبت دابة فأنت طالق وهي راكبة فمكثت ساعة يمكنها النزول فيها طلقت ، فإن مكثت ساعة أخرى كذلك طلقت أخرى ، بخلاف ما لو قال كلما ركبت دابة فركب لزمه طلقة واحدة وإن طال مكثه ، لأن لفظ ركبت لذا لم يكن الحالف راكبا يراد به إنشاء الركوب فلا يحنث بالاستمرار وإن كان له حكم الابتداء ، بخلاف حلف الراكب لا يركب فإنه يراد به الأعم من ابتداء الفعل وما في حكمه عرفا ، واستوضح على أن هذه الأفعال لها دوام بتجدد أمثالها بقوله ألا يرى أنه يضرب لها مدة فيقال ركبت يوما ولبست يوما وسكنت شهرا .

بخلاف الدخول فإنه لا يقال دخلت يوما بمعنى ضرب المدة والتوقيت لنفس الدخول ، بل يقال في مجاري الكلام دخلت عليه يوما مرادا به إما مجرد بيان الظرفية لا التقدير ، وإما مطلق [ ص: 104 ] الوقت إذا كان لا يمتد فيراد به ما يعم النهار والليل . وذلك أعني عدم ضرب المدة تقديرا للدخول دليل أنه ليس فيه تجدد أمثال يصير به متكررا ليحنث بحدوث المتكررات فلا يحنث إلا بابتداء الفعل إلا أن ينوي به البقاء .

وهذه على عكسه ينعقد بمقتضى مطلق اللفظ على الأعم من الابتداء والبقاء . وأما الابتداء فقط فمحتمله حتى لو أراد بقوله لا أسكن وأركب وألبس ابتداء الفعل فقط صدق لأنه محتمل كلامه فلا يحنث باستمراره ساكنا وراكبا .

وفرع بعض أهل العلم على كون هذه لها تجدد أمثال يصير بها في معنى الابتداء أنه لو حلف وهو لابس ليلبس هذا الثوب غدا واستمر لابسه حتى مضى الغد لا يحنث بمنزلة ما لو نزعه ثم لبسه في الغد . ثم إنه إنما يحنث بتأخير ساعة إذا أمكنه النقل فيها . فأما إذا لم يقدر بأن كان بعذر الليل وخوف اللص أو منع ذي السلطان أو عدم موضع ينتقل إليه حينئذ أو أغلق عليه الباب فلم يستطع فتحه أو كان شريفا أو ضعيفا لا يقدر على حمل المتاع بنفسه ولم يجد من ينقلها لا يحنث ويلحق ذلك الوقت بالعدم للعذر ، وأورد ما ذكر الفضلي فيمن قال إن لم أخرج من هذا المنزل اليوم فهي طالق فقيد أو منع من الخروج حنث .

وكذا إذا قال لامرأته وفي منزل أبيها إن لم تحضري الليلة منزلي فطالق فمنعها أبوها حنث . أجيب بالفرق بين كون المحلوف عليه عدما فيحنث بتحققه كيفما كان لأن العدم [ ص: 105 ] لا يتوقف على الاختيار وكونه فعلا فيتوقف عليه كالسكنى لأن المعقود عليه الاختياري وينعدم بعدمه فيصير مسكنا لا ساكنا فلم يتحقق شرط الحنث ، وسنذكره في فروع ونوضح الوجه بأتم إن شاء الله ، وكذا لو بقي أياما في طلب مسكن وترك الأمتعة والأهل في هذه الأيام لا يحنث في الصحيح لأن طلب المنزل من عمل النقل وصار مدة الطلب مستثناة إذا لم يفرط في الطلب ، وهذا إذا خرج من ساعته في طلب المنزل .

ولو أخذ في النقلة شيئا فشيئا ، فإن كانت النقلات لا تفتر لا يحنث ، ولو أمكنه أن يستأجر من ينقل متاعه في يوم ليس عليه ذلك ولا يلزمه النقل بأسرع الوجوه بل بقدر ما يسمى ناقلا في العرف . وأما الثاني فوجه قول زفر رحمه الله إن الحنث قد وجد بما وجد من القدر اليسير من السكنى والركوب واللبس . ولنا أن اليمين تعقد للبر لا للحنث ابتداء وإن وجب الحنث في بعض الأوقات ، وإذا كان المقصود من اليمين وضعا البر وجب استثناء مقدار ما يحققه من الزمان وهو قدر ما يمكنه فيه النزول والنقلة والنزع .




الخدمات العلمية