الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 156 - 157 ] ( ولو حلف لا يكلمه أياما فهو على ثلاثة أيام ) لأنه اسم جمع ذكر منكرا فيتناول أقل الجمع وهو الثلاث . ولو حلف لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيام عند أبي حنيفة ، وقالا : على أيام الأسبوع . ولو حلف لا يكلمه الشهور فهو على عشرة أشهر عنده . وعندهما على اثني عشر شهرا لأن اللام للمعهود وهو ما ذكرنا ، لأنه يدور عليها . وله أنه جمع معرف فينصرف إلى أقصى ما يذكر بلفظ الجمع وذلك عشرة [ ص: 158 - 159 ] ( وكذا الجواب عنده في الجمع والسنين ) وعندهما ينصرف إلى العمر لأنه لا معهود دونه

التالي السابق


( قوله ولو حلف لا يكلمه أياما فهو على ثلاثة أيام ) ذكره في الجامع الكبير ، وذكر فيه أنه بالاتفاق ، فإنه قال وأجمعوا فيمن قال إن كلمتك دهورا أو أزمنة أو شهورا أو سنين أو جمعا أو أياما يقع على ثلاثة من هذه المذكورات لأنها أدنى الجمع المتفق عليه ، وذكر في كتاب الأيمان أنها على عشرة أيام عنده كالمعرف .

قال الإسبيجابي : والمذكور في الجامع أصح . ووجهه المصنف بقوله لأنه اسم جمع منكر فيتناول أقل الجمع وهو الثلاث كما يتناول أكثر منه ، لكن لا معين للزائد فلزم المتيقن ، كما لو حلف لا يشتري عبيدا ولا يتزوج نساء يقع على ثلاثة . وأورد أن حكاية الاتفاق في المثل المذكورة توجب عدم توقف أبي حنيفة في معنى الدهر لأن من لا يدري معنى المفرد لا يدري معنى الجمع ، وهذا ليس بشيء إذ قوله الدهور لثلاثة مما يراد به ليس فيه تعيين معناه أنه ما هو ، نعم يلزم لكل عاقل نفي أن يراد به الله سبحانه وتعالى لمكان الجمع .

ومن فروع المنكر حلف لا يكلمه يوما إن حلف قبل الطلوع فهو على ما من الطلوع إلى الغروب ، وإن حلف بعده فهو على ما من وقت حلفه إلى مثله من اليوم الثاني ويدخل الليل فإن كلمه ليلا حنث ، ولو قال اليوم وقع على بقية يومه ، ولو حلف لا يكلمه يومين دخل الليل سواء حلف بعد الطلوع أو قبله ، والجواب في الليل مثله في اليوم ( قوله ولو حلف لا يكلمه الأيام فهو على عشرة أيام عند أبي حنيفة ) وكذلك الجمع والشهور والسنين والدهور والأزمنة للتعريف ينصرف إلى عشرة من تلك [ ص: 158 ] المعدودات ، ففي غير الأزمنة ظاهر ، وفي الأزمنة يلزمه خمس سنين لأن كل زمان ستة أشهر عند عدم النية .

وقالا : في الأيام ينصرف إلى أيام الأسبوع ، وفي الشهور إلى اثني عشر شهرا ، وفي الجمع والسنين والدهور والأزمنة ينصرف إلى جميع العمر وهو الأبد . وجه قولهما أن اللام للعهد إذا أمكن ، وإذا لم يمكن صرفت إلى الاستغراق والعهد ثابت في الأيام السبعة فانصرفت الأيام إليها ، وفي الشهور شهور السنة فينصرف التعريف إليها ، ولا عهد في خصوص فيما سواهما فينصرف إلى استغراق الجمع والسنين والدهور والأزمنة وذلك هو جميع العمر أو هي للعهد فيها أيضا ، فإن المعهود بعدما ذكرنا ليس إلا العمر وهو قول المصنف لأنه لا معهود دونه : أي دون العمر ، وحاصله استغراق سني العمر وجمعه . وله أنه جمع معرف باللام فينصرف إلى أقصى ما عهد مستعملا فيه لفظ الجمع على اليقين وذلك عشرة ، وعهديته كذلك فيما إذا وقع مميز العدد قبله فإنه يقال ثلاثة أيام فيكون لفظ أيام مرادا بها الثلاثة بيقين ، وكذا أربعة أيام وخمسة أيام إلى عشرة ، فكانت العشرة منتهى ما قطع بإرادته بلفظ الجمع فيما لا يحصى من الاستعمالات فكان معهودا من لفظ الجمع ، بخلاف قوله تعالى { وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما } و { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } فإن الجمع هنا وإن أريد به يقينا ما يزيد على العشرة لكنه بوجود ذلك مرادا مرة لا يصير معهودا من اللفظ بحيث يصرف إليه متى ذكر بلا معين وكان المعهود مما يستعمل فيه لفظ الجمع يقينا مستمرا ليس إلا العشرة فيما دونها ، والعشرة منتهى ما عهد شائعا إرادته به قطعا فيجب الحمل عليه ، وبخلاف ما إذا لم يقع مميزا لعدد نحو وتلك الأيام نداولها بين الناس حيث أريد به جميع الأيام فإن اللام فيه للجنس على سبيل الاستغراق ، ولا ينكر أن يراد باللام ذلك ، لكن المقرر أنه حيث أمكن العهد حمل عليه دون الجنس والاستغراق ، والعهد ثابت فيما يراد بالجمع عند عدم قرينة .

والفرض أن الحالف لم يرد شيئا بعينه فالواجب أن يصرف إلى المعهود المستمر ، وإنما اعتبر أقصى المعهود وإن كان ما دونه معهودا أيضا لأنه كما عهد استعماله مميزا في العشرة عهد فيما دونها لاستغراق اللام ، ولما كان الاستغراق الذي حكم به عند عدم العهد إنما يثبت لأن مدخول اللام لما لم يكن عهد ولا قرينة تعين غير الاستغراق من المراتب حتى صرف إلى الجنس الصالح للقليل والكثير كان للاستغراق وهنا أيضا كذلك لما انصرف إلى المعهود ، والمعهود كل مرتبة من المراتب التي أولها ثلاثة وأقصاها عشرة ولا معين كانت لاستغراق المعهود ، وبهذا التقرير يندفع ما أورده ابن العز من قوله : وهذا أي كون أقصى ما يراد به العشرة إنما يكون عند ذكر العدد ، وإذا لم يذكر يسمى الزائد عليه بالجمع بلا ريب ، وذكر شاهد ذلك قوله تعالى { وتلك الأيام نداولها } .

و { إن عدة الشهور } قال : وليس في قول الحالف لا أكلمه الشهور اسم العدد ، فلا يصح أن يقال إنه أقصى ما يذكر بلفظ الجمع وكذلك الأيام ، وإنما قلنا : إنه اندفع لأنك علمت أن القصد تعيين ما عهد مرادا بلفظ الجمع على وجه الاستمرار ليحمل عليه لفظ الجمع الخاص عند عدم إرادة شيء بعينه ، فكون لفظ أريد به غير ما عهد مستمرا كثيرا لا يوجب نفي عهديته في غيره ، وأما مشاحته الخبازي حيث قال الخبازي اسم الجمع للعشرة وما دونها إلى الثلاثة حقيقة حالتي الإطلاق واقترانه بالعدد ، ولما زاد على العشرة عند الإطلاق عن العدد والاسم متى كان للشيء في جميع الأحوال كان أثبت مما هو اسم له في حال دون حال فليست بشيء فإنه دفع كلامه هذا بقوله كأنه لم يبلغ الفرق بين الجمع واسم الجمع فلهذا قال إنه للعشرة وما [ ص: 159 ] دونها حقيقة في حالين ولما فوقها في حالة واحدة ، وإنما قالوا هذا في بعض أسماء الجموع أنه يطلق من الثلاثة إلى العشرة كما في رهط وذود ونفر إلى آخر ما ذكره ولم يعلم أن الإضافة في قول الخبازي اسم الجمع بيانية ، والمعنى الاسم الذي هو الجمع ، ومثل هذا في عبارات جميع أهل الفنون أكثر وأشهر من أن يخفى على ناظر في العلم ، فحاصل كلام الخبازي أن الجمع في العشرة فما دونها أثبت منه فيما زاد عليه لأن الأول يراد به في حالتين والثاني في حالة ، يعني فكان الحمل على ما عهد له في الحالتين عند عدم المعين لازما ، وحقيقة ما ذكرناه في مبدإ التقرير شرح له ، والله الموفق .

نعم لقائل أن يرجح قولهما في الأيام والشهور بأن عهدهما أعهد وذلك لأن عهدية العشرة إنما هو للجمع مطلقا من غير نظر إلى مادة خاصة : يعني الجمع مطلقا عهد للعشرة ، فإذا عرض في خصوص مادة من الجمع كالأيام عهدية عدد غيره كان اعتبار هذا المعهود أولى ، وقد عهد في الأيام السبعة وفي الشهور الاثني عشر فيكون صرف خصوص هذين الجمعين إليهما أولى ، بخلاف غيرهما من الجموع كالسنين والأزمنة ، فإنه لم يعهد في مادتيهما عدد آخر فيصرف إلى ما استقر للجمع مطلقا من إرادة العشرة فما دونها .

فإن قيل : هذه مغالطة فإن السبعة المعهودة نفس الأزمنة الخاصة المسماة بيوم السبت ويوم الأحد إلى آخره ، والكلام في لفظ أيام إذا أطلق على عهد منه تلك الأزمنة الخاصة للسبعة لا شك في عدم ثبوته في الاستعمال إذ لم يثبت كثرة إطلاق لفظ أيام وشهور ويراد به يوم السبت والأحد إلى الجمعة والمحرم وصفر إلى آخرها على الخصوص ، بل الأزمنة الخاصة المسميات متكررة وغير متكررة وغير بالغة السبعة بحسب المرادات للمتكلمين ، فالجواب منع توقف انصراف اللام إلى العهد على تقدم العهد عن لفظ النكرة بل أعم من ذلك ، بل لا فرق بين تقدم العهد بالمعنى عن اللفظ أو لا عنه فإنه إذا صار المعنى معهودا بأي طريق فرض ثم أطلق اللفظ الصالح له معرفا باللام انصرف إليه .

وقد قسم المحققون العهد إلى ذكري وعلمي ومثل للثاني بقوله تعالى { إذ هما في الغار } فإن ذات الغار هي المعهودة لا من لفظ سبق ذكره بل من وجود فيه ، وعلى هذا فيجب جعل ما سماه طائفة من المتأخرين بالعهد الخارجي أعم مما تقدم ذكره أو عهد بغيره كما ذكرنا . ونظير هذا قولنا العام يخص بدلالة العادة ، فإن العهد ليست إلا عملا عهد مستمرا ثم يطلق اللفظ الذي يعمها وغيرها فيقيد بها لعهديتها عملا لا لفظا ولا قوة إلا بالله




الخدمات العلمية