الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وللمستودع والغاصب وصاحب الربا أن يقطعوا السارق منهم ) ولرب الوديعة أن يقطعه أيضا ، وكذا المغصوب منه .

وقال زفر والشافعي : لا يقطع بخصومة الغاصب والمستودع ، وعلى هذا الخلاف المستعير والمستأجر والمضارب والمستبضع والقابض على سوم الشراء والمرتهن وكل من له يد حافظة سوى المالك ، ويقطع بخصومة المالك في السرقة من هؤلاء إلا أن الراهن إنما يقطع بخصومته [ ص: 402 ] حال قيام الرهن بعد قضاء الدين لأنه لا حق له في المطالبة بالعين بدونه . والشافعي بناه على أصله أن لا خصومة لهؤلاء في الاسترداد عنده . وزفر يقول : ولاية الخصومة في حق الاسترداد ضرورة الحفظ فلا تظهر في حق القطع لأن فيه تفويت الصيانة . ولنا أن السرقة موجبة للقطع في نفسها ، وقد ظهرت عند القاضي بحجة شرعية وهي شهادة رجلين عقيب خصومة معتبرة مطلقا إذ الاعتبار لحاجتهم إلى الاسترداد فيستوفي القطع . [ ص: 403 ] والمقصود من الخصومة إحياء حقه وسقوط العصمة ضرورة الاستيفاء فلم يعتبر ، ولا معتبر بشبهة موهومة الاعتراض كما إذا حضر المالك وغاب المؤتمن فإنه يقطع بخصومته [ ص: 404 ] في ظاهر الرواية وإن كانت شبهة الإذن في دخول الحرز ثابتة

التالي السابق


( وللمستودع ) بفتح الدال ( والغاصب وصاحب الربا أن يقطعوا السارق منهم ) أي إذا سرق الوديعة أو المال المغصوب ، وأما صاحب الربا فكالمشتري عشرة بخمسة إذا قبض العشرة فسرقها سارق قطع بخصومته لأن هذا المال في يده بمنزلة المغصوب .

إذ المشتري شراء فاسدا في يد المشتري كالمغصوب ( ولرب الوديعة أن ) يخاصمه و ( يقطعه أيضا ) كما للمودع ( وكذا المغصوب منه . وقال زفر والشافعي : لا يقطع بخصومة الغاصب والمستودع ، وعلى هذا الخلاف المستعير والمستأجر والمضارب والمستبضع والقابض على سوم الشراء والمرتهن وكل من له يد حافظة ) كمتولي الوقف والأب والوصي يقطع السارق لما في أيديهم من مال الوقف واليتيم بخصومتهم ( ويقطع أيضا السارق من هؤلاء بخصومة المالك ) بما في أيديهم ( إلا أن الراهن إنما يقطع بخصومته حال قيام الرهن قبل قضاء الدين أو بعده ) والصحيح من نسخ الهداية بعد قضاء الدين ، [ ص: 402 ] ويدل عليه تعليله بقوله ( لأنه لا حق له في المطالبة بالعين بدونه ) أي بدون قضاء الدين فليس له أن يخاصم في ردها ، وكذا نقل عن ابن المصنف أنه قال : كان في نسخة المصنف بعد القضاء .

وقيل يمكن أن يكون هذا جواب القياس : يعني أن للمالك أن يسترد الرهن كالمودع يسترده للحفظ فلا يكون أدنى حالا منه ، وقيد بقوله حال قيام الرهن لأنه إذا كان مستهلكا لا يقطع إلا بخصومة المرتهن لأن الدين سقط عن الراهن فلم يبق له حق في مطالبته بالعين لا لنفسه ولا للحفظ . وفي غاية البيان : وينبغي أن يكون للراهن ولاية القطع إذا كانت قيمة الرهن أزيد من الدين بقدر عشرة ، لأن الزائد أمانة في يد المرتهن فكان المرتهن بالنسبة إلى ذلك القدر كالمودع والراهن كالمودع فيقطع بخصومته ( قوله فالشافعي رحمه الله بناه ) أي بنى عدم القطع بخصومة هؤلاء ( على أصله وهو أن لا خصومة لهم في الاسترداد ) عند جحود من في يده المال المودع كأبناء غير المودع ، إلا أن يحضر المالك لأنهم لا يملكون الخصومة في الدعوى عليهم لإبقاء اليد ، فلأن لا يملكوها لإعادة اليد أولى .

قيل لكن المذكور في كتبهم يقطع بالسرقة من يد المودع والوكيل والمرتهن ، وكذا يقول مالك ويزيد المستعير أيضا ( وزفر يقول : ولاية الخصومة في حق الاسترداد ضرورة الحفظ فلا تظهر في حق القطع لأن فيه ) أي في القطع ( تفويت الصيانة ) لسقوط الضمان به فيفوت الحفظ فيعود الأمر على موضوعه بالنقض إذ تصير خصومته لإثبات الحفظ سببا لنفيه ( ولنا أن السرقة موجبة للقطع في نفسها ، وقد ظهرت عند القاضي بحجة شرعية وهي شهادة رجلين عقيب خصومة معتبرة مطلقا ) وهذه النكتة هي مبنى الخلاف : أعني كون خصومتهم معتبرة فأثبتها بقوله ( إذ الاعتبار لحاجتهم إلى الاسترداد ) [ ص: 403 ] والأحسن أن يقال لهم ولاية الحفظ وهو باليد فكان استعادتها حقا لهم ، كما أن ذلك للمالك بل الملك في الحقيقة لم يرد إلا لليد ، وهذا لأن ذا اليد إن كان أمينا لا يقدر على أداء الأمانة إلا بها ، وإن كان غاصبا لا يقدر على إسقاط الضمان عن نفسه إلا بذلك فكان خصومة في حق لهم ثم تظهر به السرقة فيجب بها القطع ، ولذا لا يحتاج إلى إضافة المال إلى المالك بل يقول سرق مني وقصده إحياء حق المالك وحق نفسه ، بخلاف خصومته في القصاص لا تعتبر فلا يقتص بخصومته لأنه ليس فيه حقه في إعادة يده .

وأورد أن في صورة الإقرار لا يقطع إلا بحضور المالك وهو إحدى الحجتين ، وكذا لو أقام وكيل المالك بينة على السرقة لا يقطع بخصومته عندنا خلافا للشافعي مع ظهور السرقة بحجة شرعية فيهما ، وما ذاك إلا لتوهم الشبهة حال غيبة المالك على ما ذكرنا قبل والتوهم موجود في هذه الصورة مع أنه يقطع . أجيب بأن المستعير ومن ذكر معه أصحاب يد صحيحة ، وبينا أن لهم حق الاسترداد فخصومة كل منهم باعتبار حقه ، بخلاف الوكيل ، ألا ترى أنه لا يستغنى عن إضافة الخصومة إلى غيره . وفي فصل الإقرار شبهة زائدة هي جواز أن يرد المالك إقراره فيبقى المال مملوكا للسارق فاستيفاء الحد مع ذلك استيفاء مع الشبهة . ثم أجاب عن قول زفر بقوله ( وسقوط العصمة ضرورة الاستيفاء ) حقا لله وإن لزم غير مقصود ولا دائمي ، لأنه إنما يثبت إذا كان المال مستهلكا فليس لازما للقطع مطلقا مع أنه مهدر في اعتبار الشرع بدليل الإجماع على أن يقطع بخصومة الأب والوصي بسرقة مال اليتيم وإن لزمه سقوط الضمان فكان تعليله لذلك مردودا بدلالة الإجماع .

وقوله ( ولا معتبر بشبهة موهومة ) جواب عن مقدر هو أن يقال احتمال إقرار المالك له : أي اعترافه بأنها له وإذنه إذا حضر ثابت فلا يقطع مع هذه الشبهة فقال هذه شبهة يتوهم اعتراضها عند حضوره ، ولا عبرة بمثلها بل المعتبر شبهة ثابت توهمها في الحال لا على تقدير منتف في الحال ; ألا يرى أن القطع يستوفى بالإقرار وإن توهم اعتراض رجوعه ، وكذا لو حضر المالك وغاب المستودع يقطع ، وإن كان لو حضر المستودع قال كان ضيفي أو أذنت له في الدخول في بيتي ، ولا يخفى أن لا فرق بين هذه الشبهة والشبهة التي ذكرها بعضهم في اشتراط حضور المسروق منه للخصومة من احتمال إباحة المالك المسروق للمسلمين ونحوه ، فإنه جاز أنه إذا حضر قال كنت أبحته للمسلمين [ ص: 404 ] أو لطائفة السارق منهم كما جاز أن يقر له به سرا ، فإذا كانت هذه شبهة موهومة لا تعتبر فكذلك تلك ، وإن اعتبرت تلك بسبب قيام احتمالها في نفس الأمر لا على تقدير حضوره المنتفي في الحال فهذه كذلك ، لأن احتمال كون المالك كان أذن له أو أنه مقر له به قائم في الحال .

وقوله ( في ظاهر الرواية ) احتراز عما روى ابن سماعة عن محمد أنه قال : ليس للمالك أن يقطعه حال غيبة المستودع




الخدمات العلمية