الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 374 ] ( ولا قطع على النباش ) وهذا عند أبي حنيفة ومحمد . وقال أبو يوسف والشافعي : عليه القطع لقوله عليه الصلاة والسلام { من نبش قطعناه } ولأنه مال متقوم محرز بحرز مثله فيقطع فيه . ولهما قوله عليه الصلاة والسلام [ ص: 375 ] { لا قطع على المختفي } وهو النباش بلغة أهل المدينة ، ولأن الشبهة تمكنت في الملك لأنه لا ملك للميت حقيقة ولا للوارث لتقدم حاجة الميت ، وقد تمكن الخلل في المقصود وهو الانزجار لأن الجناية في نفسها نادرة الوجود وما رواه غير مرفوع أو هو محمول على السياسة ، وإن كان القبر في بيت مقفل فهو على الخلاف في الصحيح لما قلنا [ ص: 376 ] وكذا إذا سرق من تابوت في القافلة وفيه الميت لما بيناه .

التالي السابق


( قوله ولا قطع على النباش ) وهو الذي يسرق أكفان الموتى بعد الدفن ( وهذا عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف ) وباقي الأئمة الثلاثة ( عليه القطع ) وهو مذهب عمر وابن مسعود وعائشة ، ومن العلماء أبو ثور والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وحماد وعمر بن عبد العزيز . وقول أبي حنيفة قول ابن عباس والثوري والأوزاعي ومكحول والزهري . ثم الكفن الذي يقطع به ما كان مشروعا فلا يقطع في الزائد على كفن السنة وكذا ما ترك معه من طيب أو مال ذهب وغيره لأنه تضييع وسفه فليس محرزا . وفي الوجيز في الزائد على العدد الشرعي وجهان ، ثم الكفن للوارث عندهم فهو الخصم في القطع ، وإن كفنه أجنبي فهو الخصم لأنه له ( لهم قوله عليه الصلاة والسلام { من نبش قطعناه } ) وهو حديث منكر .

وإنما أخرجه البيهقي وصرح بضعفه عن عمران بن يزيد بن البراء بن عازب عن [ ص: 375 ] أبيه عن جده ، وفي سنده من يجهل حاله كبشر بن حازم وغيره ، ومثله الحديث الذي ذكره المصنف ( { لا قطع على المختفي } قال : وهو النباش بلغة أهل المدينة ) أي بعرفهم .

وأما الآثار فقال ابن المنذر : روي عن الزبير أنه قطع نباشا . وهو ضعيف ذكره البخاري في تاريخه ، ثم أعله بسهيل بن ذكوان المكي . قال عطاء : كنا نتهمه بالكذب . ويماثله أثر عن ابن عباس رواه ابن أبي شيبة وفيه مجهول قال : حدثنا شيخ لقيته بمنى عن روح بن قاسم عن مطرف عن عكرمة عن ابن عباس قال : ليس على النباش قطع . وأما ما رواه عبد الرزاق : أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي قال : أخبرني عبد الله بن عامر عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه وجد قوما يختفون القبور باليمن على عهد عمر بن الخطاب ، فكتب فيهم إلى عمر ، فكتب عمر رضي الله عنه أن اقطع أيديهم . فأحسن منه بلا شك ما رواه ابن أبي شيبة : حدثنا عيسى بن يونس عن معمر عن الزهري قال : أتي مروان بقوم يختفون : أي ينبشون القبور فضربهم ونفاهم والصحابة متوافرون ا هـ .

وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا معمر به ، وزاد : وطوف بهم . وكذا أحسن منه بلا شك ما روى ابن أبي شيبة : حدثنا حفص عن أشعث عن الزهري قال : أخذ نباش في زمن معاوية وكان مروان على المدينة فسأل من بحضرته من الصحابة والفقهاء فأجمع رأيهم على أن يضرب ويطاف به ا هـ . وحينئذ لا شك في ترجيح مذهبنا من جهة الآثار ، وأما من جهة المعنى فلهم ما ذكره المصنف بقوله : ولأنه مال متقوم محرز بحرز مثله فيقطع فيه .

أما المالية فظاهر ، وأما الحرز فلأن القبر حرز للميت وثيابه تبع له فيكون حرزا لها أيضا ، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم القبر بيتا في حديث أبي ذر حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم { كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف ؟ يعني القبر ، وقلت : الله ورسوله أعلم ، أو ما خار الله لي ورسوله ، قال صلى الله عليه وسلم : عليك بالصبر } وقد بوب أبو داود عليه فقال : باب قطع النباش . قال ابن المنذر : واستدل به أبو داود لأنه سمى القبر بيتا والبيت حرز والسارق من الحرز يقطع ولأنه حرز مثله لأن حرز كل شيء ما يليق به . فحرز الدواب بالإصطبل والدرة بالحق والصندوق والشاة [ ص: 376 ] بالحظيرة ، فلو سرق شيء منها من شيء منها قطع ، ولو سرق الدرة من إصطبل أو من حظيرة لا يقطع ; ألا ترى أن الوصي إذا كفن صبيا من ماله لا يضمن لورثته شيئا فلو لم يكن محرزا كان تضييعا موجبا للضمان فكان أخذ الكفن من القبر عين السرقة .

والجواب أولا منع الحرز لأنه حفرة في الصحراء مأذون للعموم في المرور به ليلا ونهارا ولا غلق عليه ولا حارس متصد لحفظه فلم يبق إلا مجرد دعوى أنه حرز تسمية ادعائية بلا معنى وهو ممنوع . ولزوم التضييع لو لم يكن حرزا ممنوع بل لو لم يكن مصروفا إلى حاجة الميت والصرف إلى الحاجة ليس تضييعا فلذا لا يضمن ، ولو سلم فلا ينزل عن أن يكون في حرزيته شبهة وبه ينتفي القطع ويبقى ثبوت الشبهة في كونه مملوكا . وفي ثبوت الخلل في المقصود من شرعية الحد وهو ما اقتصر عليه المصنف زيادة فكل منهما يوجب الدرء . أما الأول فلأن الكفن غير مملوك لأحد ، لا للميت لأنه ليس أهلا للملك ولا للوارث لأنه لا يملك من التركة إلا ما يفضل عن حاجة الميت ولذا يقطع بسرقة التركة المستغرقة لأنها ملك للغريم حتى كان له أن يأخذها بحقه . فإن صح ما قلنا من أنه لا ملك فيه لأحد لم يقطع . وإلا فتحققت شبهة في مملوكيته بقولنا فلا يقطع به أيضا . بل نقول : تحقق قصور في نفس مالية الكفن ، وذلك لأن المال ما يجري فيه الرغبة والضنة والكفن ينفر عنه كل من علم أنه كفن به ميت إلا نادرا من الناس . وأما الثاني فلأن شرع الحد للانزجار والحاجة إليه لما يكثر وجوده .

فأما ما يندر فلا يشرع فيه لوقوعه في غير محل الحاجة لأن الانزجار حاصل طبعا كما قلنا في عدم الحد بوطء البهيمة . وأما الاستدلال بتسميته بيتا فأبعد لأن إطلاقه إما مجاز فإن البيت ما يحوطه أربع حوائط توضع للبيت وليس في القبر كذلك ، على أن حقيقة البيت لا يستلزم الحرز فقد يصدق مع عدم الحرز أصلا كالمسجد . ومع الحرز مع نقصان وهو كثير ، ومع الحرز التام ، فمجرد تسميته بيتا لا يستلزم القطع خصوصا في مقام وجوب درئه ما أمكن ، بل يجب حمله على بعض الماصدقات التي لا حد معها ، والله سبحانه أعلم .

وهذا في القبر الكائن في الصحراء بلا خلاف عندنا ، أما لو كان القبر في بيت مقفل فقيل يقطع به لوجود الحرز . والصحيح أنه على الخلاف فلا يقطع عندنا وإن وجد الحرز للموانع الأخر من نقصان المالية وعدم المملوكية والمقصود من شرعه ( وكذا إذا سرق من تابوت في القافلة وفيه الميت لما بينا ) من تحقق الخلل في المالية وما بعدها . هذا ولو اعتاد لص ذلك للإمام أن يقطعه سياسة لا حدا ، وهو محمل ما رواه لو صح .




الخدمات العلمية