الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 105 ] قال ( ومن حلف لا يسكن هذه الدار فخرج بنفسه ومتاعه وأهله فيها ولم يرد الرجوع إليها حنث ) لأنه يعد ساكنها ببقاء أهله ومتاعه فيها عرفا ، فإن السوقي عامة نهاره في السوق ويقول أسكن سكة كذا ، والبيت والمحلة [ ص: 106 ] بمنزلة الدار . ولو كان اليمين على المصر لا يتوقف البر على نقل المتاع والأهل فيما روي عن أبي يوسف رحمه الله لأنه لا يعد ساكنا في الذي انتقل عنه عرفا . بخلاف الأول والقرية بمنزلة المصر في الصحيح من الجواب . ثم قال أبو حنيفة رحمه الله : لا بد من نقل كل المتاع ، حتى لو بقي وتد يحنث لأن السكنى قد ثبت بالكل فيبقى ما بقي شيء منه . وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى عليه . يعتبر نقل الأكثر لأن نقل الكل قد يتعذر . وقال محمد رحمة الله تعالى عليه : يعتبر نقل ما يقوم به كدخدائيته لأن ما وراء ذلك ليس من السكنى . قالوا : هذا أحسن وأرفق بالناس [ ص: 107 ] وينبغي أن ينتقل إلى منزل آخر بلا تأخير حتى يبر ، فإن انتقل إلى السكة أو إلى المسجد قالوا لا يبر ، دليله في الزيادات أن من خرج بعياله من مصره فما لم يتخذ وطنا آخر يبقى وطنه الأول في حق الصلاة كذا هذا . والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


( قوله ومن حلف لا يسكن هذه الدار فخرج هو وترك متاعه وأهله فيها ولم يرد الرجوع حنث ) وهذه المسألة فرع التي قبلها ، لما كان بالأخذ في النقلة من ساعته يبر ذكر معنى النقلة التي بها يتحقق البر ، فبين أنه لا بد في كونه منتقلا من الدار من نقل الأهل والمال ، وكذا الحلف على أن لا يسكن في هذه المحلة أو السكة لو خرج بنفسه عازما على عدم العود أبدا حنث ، وإن خرج على عزم أن يرسل من ينقلهم لأنه يعد المتأهل ساكنا بمحل سكنى أهله وماله عرفا .

واستشهد للعرف بأن السوقي عامة نهاره في السوق بحيث لا يخرج عنه إلا ليلا أو بعض الليل أيضا ويقول أنا ساكن في محلة كذا وذلك لقرار أهله وماله بها ، وبهذا القول قال أحمد ومالك ، وعند الشافعي لا يحنث إذا خرج بنية التحويل . قيل وهذا الخلاف بيننا وبينه مبني على أن العبرة عنده لحقيقة اللفظ ، ولا تعتبر العادة بخلافها وهو إذا خرج بنية عدم العود فقد انتقل ، إذ لا شك في أنه بنفسه انتقل . وعندنا العبرة للعادة لطروها على الحقيقة .

والحالف يريد ذلك ظاهرا فيحمل كلامه عليه . والعادة أن من كان أهله بمكان ببلدة هو بها فهو ساكن فيه عملا بالعرف فبنى اللفظ عليه ، وهذا إذا كان الحالف مستقلا بسكناه قائما على عياله ، فإن كان سكناه تبعا كابن كبير ساكن مع أبيه أو امرأة مع زوجها . فلو حلف أحدهما لا يسكن هذه فخرج بنفسه وترك أهله وماله وهي زوجها ومالها لا يحنث ، وقيده الفقيه أبو الليث أيضا بأن يكون حلفه بالعربية ، فلو عقد بالفارسية لا يحنث إذا خرج بنفسه وترك أهله وماله وإن كان مستقلا بسكناه .

نعم لقائل أن ينظر فيما استشهد به للعرف وذلك أن السوقي إنما يقول أنا ساكن في محلة كذا وهو على نية العود فلا يكون دليلا على ثبوت السكنى فيما إذا خرج عازما على عدم العود كما هي صورة المسألة ، فالوجه ترك خصوص هذا الشاهد ويدعي أن العرف على أنه ساكن ما لم ينقل أهله وماله حتى إنه يقال بعد خروجه كذلك فلان يريد أن ينتقل عن [ ص: 106 ] مسكنه ولكن لم ينتقل بعد ( قوله ولو كان اليمين على المصر إلى آخره ) ما تقدم كان فيما إذا حلف لا يسكن هذه الدار ومثله البيت والسكة والمحلة وهي تسمى في عرفنا الجارة . فلو كان حلف لا يسكن هذا المصر أو هذه المدينة قال : لا يتوقف البر على نقل المتاع والأهل فيما روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى ، نقله الفقيه أبو الليث عن أمالي أبي يوسف رحمه الله لأنه لا يعد ساكنا في المصر الذي انتقل عنه بنفسه وإن ترك أهله وماله عرفا فلا يقال لمن أهله بالبصرة وماله وهو بنفسه قاطن بالكوفة هو ساكن بالبصرة ( والقرية بمنزلة المصر في الصحيح من الجواب ) فلو حلف لا يسكن هذه القرية أو البلدة وهي قرية فانتقل إلى قرية أخرى وترك أهله وماله في الأولى لا يحنث ، وقوله في الصحيح احتراز عمن قال هي كما لو حلف لا يسكن الدار فيحنث .

( قوله ثم قال أبو حنيفة لا بد ) في كونه انتقل من الدار وما شاكلها مما ذكرنا ( من نقل كل المتاع ، حتى لو بقي وتد ونحوه يحنث لأن السكنى من الحالف تثبت بالكل فتبقى ما بقي منه شيء ) في المبسوط : وهذا أصل لأبي حنيفة حتى جعل صفة السكون في العصير مانعا من أن يكون خمرا ، وبقاء مسلم واحد منا في بلدة ارتد أهلها مانعا من أن تصير دار حرب إلا أن مشايخنا قالوا هذا إذا كان الباقي يتأتى به السكنى ، وأما بقاء مكنسة أو وتد أو قطعة حصير لا يبقى فيها ساكنا فلا يحنث . وحقيقة وجه دفعه أن قوله السكنى تثبت بالكل إن أراد أن مجموع الكل هو العلة في سكناه مع انقطاع نفسه إلى القرار في المكان منعناه ، وإلا لزم أنه لو سرق بعض تلك الأمتعة انتفت السكنى فعلم أن السكنى تثبت مع الكل باتفاق الحال فإنما هي منوطة في العرف بقراره على وجه الانقطاع إليه مع ما يتأتى به دفع الحاجات الكائنة في السكنى فكانت السكنى ثابتة مع الكل وبدون الكل ، على أن الكلام هنا باعتبار العرف والعرف يعد من خرج لا يريد العود ونقل أهله وبعض ماله يريد أن ينقله بعد ذلك أو تركه لتفاهته وعدم الالتفات إليه تاركا لسكنى ذلك المكان ( وقال أبو يوسف : يعتبر في البر نقل الأكثر لأن نقل الكل قد يتعذر ) بأن يغفل عن شيء كإبرة في شق حائط أو يتعسر ( وقال محمد : يعتبر في البر نقل ما يقوم به كدخدائيته ) أي سكناه فيما انتقل إليه ( لأن ما وراء ذلك ليس من السكنى ) إذ ليس من حاجتها .

قال المصنف رحمه الله ( قالوا : هذا أحسن وأرفق بالناس في نفي الحنث ) عنهم ، ومنهم من صرح بأن الفتوى عليه . وكثير منهم كصاحب المحيط والفوائد الظهيرية والكافي على أن الفتوى [ ص: 107 ] على قول أبي يوسف ، ولا شك أن المدار هنا ليس على نقل الكل ليقوم الأكثر مقامه بل على العرف في أنه ساكن أو لا . والحق أن من خرج على نية ترك المكان وعدم العود إليه ونقل من أمتعته فيه ما يقوم به أمر سكناه وهو على نية قفل الباقي يقال ليس ساكنا في هذا المكان بل انتقل عنه وسكن في المكان الفلاني ، وهذا الخلاف في نقل الأمتعة أما الأهل فلا بد في البر من نقلهم كلهم اتفاقا ( قوله وينبغي أن ينتقل إلى منزل آخر حتى يبر ) بالاتفاق ، فإنه لو انتقل إلى السكة أو المسجد لم يبر بالاتفاق فإنهم اختلفوا قيل يحنث وعليه اقتصر نقل المصنف استدلالا بما في الزيادات .

كوفي نقل عياله إلى مكة ليتوطن فلما توطن بمكة بدا له أن يرجع إلى خراسان فمر بالكوفة يصلي بها ركعتين لأن وطنه بالكوفة انتقض بوطنه بمكة ، وإن بدا له في الطريق قبل أن يدخل إلى مكة صلى بالكوفة مارا عليها أربعا لأن وطنه الأول بالكوفة قائم ما لم يتخذ وطنا آخر ، فكذا هنا يبقى وطنه الأول ما لم يتخذ وطنا آخر . وقيل لا يحنث لأنه لم يبق ساكنا .

وقال أبو الليث : إن سلم داره بإجارة أو رد المستأجرة إلى المؤاجر لا يحنث وإن لم يتخذ دارا أخرى ، وإطلاق عدم الحنث أوجه ، وكون وطنه باقيا في حق إتمام الصلاة ما لم يستوطن غيره لا يستلزم تسميته ساكنا عرفا بذلك المكان بل يقطع من العرف فيمن نقل أهله وأمتعته وخرج مسافرا أن لا يقال فيه إنه ساكن في تلك الحال بل يقال فيه حال السفر انتقل عن سكنى هذا المكان وهو قاصد سكنى كذا . وإذا لم يتحرر له قصد مكان معين قيل هو الآن غير ساكن في مكان حتى ينظر أين يسكن ، وإذا ثبت نفي تلك السكنى ثبت البر . والله تعالى أعلم .




الخدمات العلمية