الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 70 ] ( وقد يضمر الحرف فيكون حالفا كقوله الله لا أفعل كذا ) لأن حذف الحرف من عادة العرب إيجازا ، ثم قيل ينصب لانتزاع الحرف الخافض ، وقيل يخفض فتكون الكسرة دالة على المحذوف ، وكذا إذا قال لله في المختار لأن الباء تبدل بها ، قال الله تعالى { آمنتم له } . أي آمنتم به [ ص: 71 ] وقال أبو حنيفة رحمه الله : إذا قال وحق الله فليس بحالف ، وهو قول محمد رحمه الله تعالى وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى .

وعنه رواية أخرى أنه يكون يمينا لأن الحق من صفات الله تعالى وهو حقيته فصار كأنه قال والله الحق والحلف به متعارف . ولهما أنه يراد به طاعة الله تعالى ، إذ الطاعات حقوقه فيكون حلفا بغير الله ، قالوا : ولو قال والحق يكون يمينا ، ولو قال حقا لا يكون يمينا ; لأن الحق من أسماء الله تعالى ، والمنكر يراد به تحقيق الوعد .

التالي السابق


( قوله : وقد يضمر الحرف فيكون حالفا كقوله الله لا أفعل كذا ; لأن حذف الحرف من عادة العرب ) يريد بالحذف الإضمار ، والفرق أن الإضمار يبقى أثره بخلاف الحذف ، وعلى هذا فينبغي أن يكون في حالة النصب الحرف محذوفا ; لأنه لم يظهر أثره . وفي حالة الجر مضمرا لظهور أثره وهو الجر في الاسم . وقوله ثم قيل ينصب لانتزاع الخافض ، وقيل يخفض فتكون الكسرة دالة على المحذوف ظاهر في نقل الخلاف في ذلك وهو تبع للمبسوط حيث قال : النصب مذهب أهل البصرة والخفض مذهب أهل الكوفة ، ونظر فيه بأنهما وجهان سائغان للعرب ليس أحد ينكر أحدهما ليتأتى الخلاف . وحكي الرفع أيضا نحو الله لا أفعلن على إضمار مبتدإ ، والأولى كونه على إضمار خبر ; لأن الاسم الكريم أعرف المعارف فهو أولى بأن يكون مبتدأ والتقدير الله قسمي أو قسمي الله لأفعلن ، غير أن النصب أكثر في الاستعمال .

وقوله في النصب ; لانتزاع الخافض خلاف أهل العربية بل هو عندهم بفعل القسم لما حذف الحرف اتصل الفعل به إلا أن يراد عند انتزاع الخافض : أي بالفعل عنده . وأما الجر فلا شك أنه بالحرف المضمر . وهو قليل شاذ في غير القسم كقوله :

إذا قيل أي الناس شر قبيلة أشارت كليب بالأكف الأصابع

أي إلى كليب ( قوله وكذلك إذا قيل لله ; لأن الباء تبدل بها ) أي باللام قال تعالى { آمنتم له } { آمنتم به } والقصة [ ص: 71 ] واحدة .

أورد عليه أنها لا تبدل بها بمعنى أن توضع مكانها دالة على عين مدلولها ، وفي الآيتين المعنى مختلف ، فإن قوله تعالى { آمنتم له } أي صدقتموه وانقدتم إليه طاعة { آمنتم به } لا يفيد تلك الزيادة ، ولو سلم فكونها وقعت صلة فعل خاص كذلك وهو آمنتم لا يلزم في كل فعل ; لجواز كون معنى ذلك الفعل يتأتى معناهما فيه بخلافه في القسم ، ولا تستعمل اللام إلا في قسم متضمن معنى التعجب كقول ابن عباس : دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج . وكقولهم : لله لا يؤخر الأجل ، فاستعمالها قسما مجردا عنه لا يصح في اللغة إلا أن يتعارف كذلك . وقوله في المختار احتراز عما عن أبي حنيفة أنه إذا قال لله علي أن لا أكلم فلانا أنها ليست بيمين إلا أن ينوي ; لأن الصيغة للنذر وتحتمل معنى اليمين ، ولم يذكر في كثير من الشروح فائدة هذا الاحتراز ; لأن لفظا في المختار في بعض النسخ لا كلها فكان الواقع لهم ما ليس هو فيه .

هذا ولا فرق في ثبوت اليمين بين أن يعرب المقسم به خطأ أو صوابا أو يسكنه خلافا لما في المحيط فيما إذا أسكن من أنه لا يكون يمينا إلا بالنية ; لأن معنى اليمين ، وهو ذكر اسم الله تعالى للمنع أو الحمل معقودا بما أريد منعه أو فعله ثابت فلا يتوقف على خصوصية في اللفظ . ( قوله : وقال أبو حنيفة رحمه الله : إذا قال وحق الله فليس بحالف وهو قول محمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف ) وعنه أي عن أبي يوسف ( رواية أخرى أن يكون يمينا ) يعني إذا أطلق ; لأن الحق من صفات الله تعالى وقد عد في أسمائه الحسنى ، قال تعالى { ولو اتبع الحق أهواءهم } ( وهو حقيته ) أي كونه تعالى ثابت الذات موجودها فكأنه قال : والله الحق ( والحلف به متعارف ) فوجب كونه يمينا ، وهذا قول الأئمة الثلاثة حتى قال أحمد : لا يقبل قوله : يعني في عدم اليمين ; لأنه انصرف بعرف الاستعمال إلى اليمين فانصرف الحق إلى ما يستحقه لنفسه من العظمة والكبرياء فصار كقدرة الله تعالى ( قوله : ولهما أنه ) أي حق الله ( يراد به طاعة الله إذ الطاعات حقوقه ) وصار ذلك متبادرا شرعا وعرفا حتى كأنه حقيقة حيث لا يتبادر سواه إذ يعلم أنه لا يخطر من ذكره وجوده وثبوت ذاته ، والحلف بالطاعات حلف بغيره وغير صفته فلا يكون يمينا ، والمعدود من الأسماء الحسنى هو الحق المقرون باللام ، وبهذا الوجه من التقرير اندفع ترجيح بعضهم القول بأنه يمين بأنه تقدم أن ما كان من صفات الله يعبر به عن غيرها يعتبر فيه العرف ، وبه حصل الفرق بين علم الله وقدرته .

وإذا كان الحلف بقدرة الله يمينا للتعارف فبحق الله كذلك للتعارف . فإن التعارف يعتبر بعد كون الصفة مشتركة في الاستعمال بين صفة الله تعالى وصفة غيره ، وقد بينا أن لفظ حق لا يتبادر منه ما هو صفة الله بل ما هو من حقوقه فصار نفس وجوده ونحوه كالحقيقة المهجورة .

، وأما الاستدلال على أنه يراد به الطاعات بقول السائل للنبي عليه الصلاة والسلام { ما حق الله تعالى على العباد ؟ فقال : أن لا يشركوا به شيئا } إلى آخره كما وقع لبعض الشارحين فليس بشيء ; لأن صلته بلفظ على العباد يبين المراد بالحق أنه غير وجوده وصفته . والكلام في لفظ حق غير مقرون بما يدل على أحد المعنيين بخصوصه ، فليس الوجه إلا ما ذكرنا ( قوله : ولو قال والحق يكون يمينا ) أي بالإجماع . كذا ذكره غير واحد . واعترضه [ ص: 72 ] شارح بأن الحق بالتعريف يطلق على غيره تعالى كقوله تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال } { فلما جاءهم الحق من عندنا } فكيف يكون يمينا بلا خلاف ، لكن جوابه أنه إن نوى اليمين باسم الله تعالى يكون يمينا وإلا فلا . انتهى .

وأنت علمت أنه إذا ثبت كونه اسما له تعالى لا تعتبر فيه النية وإن أطلق على غيره ، وإنما ذلك القول المقابل للمختار . وأما على القول المفصل بين أن يريد به اليمين وأن لا يريد فالحق يتبادر منه ذاته تعالى ، فصار غيره مهجورا لا بدليل ، وبه يندفع قول أبي نصر إن نوى بالحق اليمين كان يمينا وإلا فلا ، ولا يلزم بطلان قول من حكى الإجماع من الشارحين ; لأنه يريد إجماع علمائنا الثلاثة فإنه لا عبرة بخلاف غير المجتهدين في انعقاد الإجماع . ولو قال حقا بأن قال حقا علي أن أعطيك كذا ونحوه لا تكون يمينا ; لأن الحق من أسمائه تعالى فينعقد به اليمين ، والمنكر يراد به تحقيق الوعد ، وما نقل عن الشيخ إسماعيل الزاهد ، والحسن بن أبي مطيع أنه يمين ; لأنه لم يضفه إلى الله تعالى فصار كالحق مردود بأن المنكر ليس اسما لله تعالى ، ومن الأقوال الضعيفة ما قال البلخي : إن قوله بحق الله يمين ; لأن الناس يحلفون به ، وضعفه لما علمت أنه مثل وحق الله بالإضافة وعلمت المغايرة فيه وأنه ليس يمينا فكذا بحق الله .




الخدمات العلمية