الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (3) قوله : كم أهلكنا : " كم " مفعول " أهلكنا " ، و " من قرن " تمييز ، و " من قبلهم " لابتداء الغاية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 347 ] قوله : " ولات حين " هذه الجملة في محل نصب على الحال من فاعل " نادوا " أي : استغاثوا ، والحال أنه لا مهرب ولا منجى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ العامة " لات " بفتح التاء و " حين " بالنصب ، وفيها أوجه ، أحدها : - وهو مذهب سيبويه - أن " لا " نافية بمعنى ليس ، والتاء مزيدة فيها كزيادتها في رب وثم ، ولا تعمل إلا في الأزمان خاصة نحو : لات حين ، ولات أوان ، كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      3830 - طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن ليس حين بقاء



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      3831 - ندم البغاة ولات ساعة مندم     والبغي مرتع مبتغيه وخيم



                                                                                                                                                                                                                                      والأكثر حينئذ حذف مرفوعها تقديره : ولات الحين حين مناص . وقد يحذف المنصوب ويبقى المرفوع . وقد قرأ هنا بذلك بعضهم كقوله : [ ص: 348 ]

                                                                                                                                                                                                                                      3832 - من صد عن نيرانها     فأنا ابن قيس لا براح



                                                                                                                                                                                                                                      أي : لا براح لي . ولا تعمل في غير الأحيان على المشهور ، وقد تمسك بإعمالها في غير الأحيان بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      3833 - حنت نوار ولات هنا حنت     وبدا الذي كانت نوار أجنت



                                                                                                                                                                                                                                      فإن " هنا " من ظروف الأمكنة . وفيه شذوذ من ثلاثة أوجه ، أحدها : عملها في اسم الإشارة وهو معرفة ولا تعمل إلا في النكرات . الثاني : كونه لا يتصرف . الثالث : كونه غير زمان . وقد رد بعضهم هذا بأن " هنا " قد خرجت عن المكانية واستعملت في الزمان ، كقوله تعالى : هنالك ابتلي المؤمنون وقول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      3834 - ... ... ... ...     فهناك يعترفون أين المفزع



                                                                                                                                                                                                                                      كما تقدم في سورة الأحزاب ; إلا أن الشذوذين الآخرين باقيان . وتأول بعضهم البيت أيضا بتأويل آخر : وهو أن " لات " هنا مهملة لا عمل لها و " هنا " ظرف خبر مقدم و " حنت " مبتدأ بتأويل حذف " أن " المصدرية تقديره : أن حنت نحو " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " . وفي هذا تكلف وبعد . إلا أن فيه الاستراحة من الشذوذات المذكورات أو الشذوذين .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 349 ] وفي الوقف عليها مذهبان : المشهور عند العرب وجماهير القراء السبعة بالتاء المجبورة إتباعا لمرسوم الخط الشريف . والكسائي وحده من السبعة بالهاء . والأول مذهب الخليل وسيبويه والزجاج والفراء وابن كيسان ، والثاني مذهب المبرد . وأغرب أبو عبيد فقال : الوقف على " لا " والتاء متصلة بـ " حين " فيقولون : قمت تحين قمت ، وتحين كان كذا فعلت كذا . وقال : " رأيتها في الإمام كذا : " ولا تحين " متصلة . وأنشد على ذلك أيضا قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      3835 - العاطفون تحين ما من عاطف     والمطعمون زمان لا من مطعم



                                                                                                                                                                                                                                      والمصاحف إنما هي " ولات حين " . وحمل العامة ما رآه على أنه مما شذ عن قياس الخط كنظائر له مرت لك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما البيت فقيل : إنه شاذ لا يلتفت إليه . وقيل : إنه إذا حذف الحين المضاف إلى الجملة التي فيها " لات " جاز أن تحذف " لا " وحدها ويستغنى عنها بالتاء . والأصل : العاطفون حين لات حين لا من عاطف ، فحذف " حين " الأول و " لا " وحدها ، كما أنه قد صرح بإضافة " حين " إليها في قول الآخر : [ ص: 350 ]

                                                                                                                                                                                                                                      3836 - وذلك حين لات أوان حلم      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      ذكر هذا الوجه ابن مالك ، وهو متعسف جدا . وقد تقدر إضافة " حين " إليها من غير حذف لها كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      3837 - تذكر حب ليلى لات حينا      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      أي : حين لات حين . وأيضا فكيف يصنع أبو عبيد بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      3838 - ... ... ... ...     ولات ساعة مندم



                                                                                                                                                                                                                                      [وقوله ] :


                                                                                                                                                                                                                                      3839 - ... ... ... ... لات أوان      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      فإنه قد وجدت التاء مع " لا " دون " حين " ؟

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني من الأوجه السابقة : أنها عاملة عمل " إن " يعني أنها نافية [ ص: 351 ] للجنس فيكون " حين مناص " اسمها ، وخبرها مقدر تقديره : ولات حين مناص لهم ، كقولك : لا غلام سفر لك ، واسمها معرب لكونه مضافا .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن بعدها فعلا مقدرا ناصبا لـ " حين مناص " بعدها أي : لات أرى حين مناص لهم بمعنى : لست أرى ذلك ومثله : لا مرحبا بهم ولا أهلا ولا سهلا أي : لا أتوا مرحبا ، ولا لقوا أهلا ، ولا وطئوا سهلا . وهذان الوجهان ذهب إليهما الأخفش وهما ضعيفان . وليس إضمار الفعل هنا نظير إضماره في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      3840 - ألا رجلا جزاه الله خيرا      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      لضرورة أن اسمها المفرد النكرة مبني على الفتح ، فلما رأينا هذا معربا قدرنا له فعلا خلافا للزجاج ، فإنه يجوز تنوينه في الضرورة ، ويدعي أن فتحته للإعراب ، وإنما حذف التنوين للتخفيف ويستدل بالبيت المذكور وتقدم تحقيق هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن " لات " هذه ليست هي " لا " مزادا فيها تاء التأنيث ، وإنما هي : " ليس " فأبدلت السين تاء ، وقد أبدلت منها في مواضع قالوا : النات [ ص: 352 ] يريدون : الناس . ومنه " ست " وأصله سدس . قال :


                                                                                                                                                                                                                                      3841 - يا قاتل الله بني السعلات     عمرو بن يربوع شرار النات




                                                                                                                                                                                                                                      ليسوا بأخيار ولا أكيات

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ شاذا " قل أعوذ برب النات " إلى آخره . يريد : شرار الناس ولا أكياس ، فأبدل . ولما أبدل السين تاء خاف من التباسها بحرف التمني فقلب الياء ألفا فبقيت " لات " وهو من الاكتفاء بحرف العلة ; لأن حرف العلة لا يبدل ألفا إلا بشروط منها : أن يتحرك ، وأن ينفتح ما قبله ، فيكون " حين مناص " خبرها ، والاسم محذوف على ما تقدم ، والعمل هنا بحق الأصالة لا الفرعية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عيسى بن عمر ولات حين مناص بكسر التاء وجر " حين " وهي قراءة مشكلة جدا . زعم الفراء أن " لات " يجر بها ، وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      3842 - ... ... ... ...     ولتندمن ولات ساعة مندم



                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد غيره :


                                                                                                                                                                                                                                      3843 - طلبوا صلحنا ولات أوان      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 353 ] البيت . وقال الزمخشري : " ومثله قول أبي زبيد الطائي : طلبوا صلحنا . البيت . قال : فإن قلت ما وجه الجر في " أوان " ؟ قلت : شبه بـ " إذ " في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      3844 - ... ... ... ...      ... ... ... ... وأنت إذ صحيح



                                                                                                                                                                                                                                      في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض منه التنوين لأن الأصل : ولات أوان صلح . فإن قلت : فما تقول في " حين مناص " والمضاف إليه قائم ؟ قلت : نزل قطع المضاف إليه من " مناص" - لأن أصله : حين مناصهم - منزلة قطعه من " حين " لاتحاد المضاف والمضاف إليه ، وجعل تنوينه عوضا من المضاف المحذوف ، ثم بنى الحين لكونه مضافا إلى غير متمكن " . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وخرجه الشيخ على إضمار " من " والأصل : ولات من حين مناص ، فحذفت " من " وبقي عملها نحو قولهم : على كم جذع بنيت بيتك ؟ أي : من جذع في أصح القولين . وفيه قول آخر : أن الجر بالإضافة ، ومثله قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      3845 - ألا رجل جزاه الله خيرا      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      أنشدوه بجر " رجل " أي : ألا من رجل .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 354 ] قلت : وقد يتأيد بظهورها في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      3846 - ... ... ... ...     وقال : ألا لا من سبيل إلى هند



                                                                                                                                                                                                                                      قال : " ويكون موضع " من حين مناص " رفعا على أنه اسم لات بمعنى ليس ، كما تقول : ليس من رجل قائما ، والخبر محذوف ، وعلى هذا قول سيبويه . وعلى أنه مبتدأ والخبر محذوف على قول الأخفش . وخرج الأخفش " ولات أوان " على حذف مضاف ، يعني : أنه حذف المضاف وبقي المضاف إليه مجرورا على ما كان . والأصل : ولات حين أوان .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد رد هذا الوجه مكي : بأنه كان ينبغي أن يقوم المضاف إليه مقامه في الإعراب فيرفع . قلت : قد جاء بقاء المضاف إليه على جره . وهو قسمان : قليل وكثير . فالكثير أن يكون في اللفظ مثل المضاف نحو :


                                                                                                                                                                                                                                      3847 - أكل امرئ تحسبين امرأ     ونار توقد بالليل نارا



                                                                                                                                                                                                                                      أي : وكل نار . والقليل أن لا يكون كقراءة من قرأ والله يريد الآخرة [ ص: 355 ] بجر " الآخرة " فليكن هذا منه . على أن المبرد رواه بالرفع على إقامته مقام المضاف .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : " الأصل : ولات أواننا ، فحذف المضاف إليه فوجب أن لا يعرب ، وكسره لالتقاء الساكنين " . قال الشيخ : " هذا هو الوجه الذي قرره الزمخشري ، أخذه من أبي إسحاق " قلت : يعني الوجه الأول ، وهو قوله : ولات أوان صلح .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا ما يتعلق بجر " حين " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما كسر تاء " لات " فعلى أصل التقاء الساكنين كـ جير ، إلا أنه لا تعرف تاء تأنيث إلا مفتوحة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عيسى أيضا بكسر التاء فقط ، ونصب " حين " كالعامة . وقرأ أيضا " ولات حين " بالرفع ، " مناص " بالفتح . وهذه قراءة مشكلة جدا لا تبعد عن الغلط من راويها عن عيسى فإنه بمكانة من العلم المانع له من مثل هذه القراءة . وقد خرجها أبو الفضل الرازي في " لوامحه " على التقديم والتأخير ، وأن " حين " أجري مجرى قبل وبعد في بنائه على الضم عند قطعه عن الإضافة بجامع ما بينه وبينهما من الظرفية الزمانية . و " مناص " اسمها مبني على الفتح فصل بينه وبينها بـ " حين " المقطوع عن الإضافة . والأصل : ولات مناص حين كذا ، ثم حذف المضاف إليه " حين " ، وبني على الضم وقدم فاصلا بين " لات " واسمها . قال : " وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه " . وقد روي في تاء " لات " الفتح والكسر والضم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 356 ] وقوله : " فنادوا " لا مفعول له ; لأن القصد : فعلوا النداء ، من غير قصد منادى . وقال الكلبي : " كانوا إذا قاتلوا فاضطروا نادى بعضهم لبعض : مناص أي : عليكم بالفرار ، فلما أتاهم العذاب قالوا : مناص " . فقال الله تعالى لهم : ولات حين مناص " . قال القشيري : " فعلى هذا يكون التقدير : فنادوا مناص ، فحذف لدلالة ما بعده عليه " . قلت : فيكون قد حذف المنادى وهو بعضا وما ينادون به ، وهو مناص ، أي : نادوا بعضهم بهذا اللفظ . وقال الجرجاني : " أي : فنادوا حين لا مناص أي : ساعة لا منجى ولا فوت ، فلما قدم " لا " وأخر " حين " اقتضى ذلك الواو كما تقتضي الحال إذا جعل ابتداء وخبرا مثل ما تقول : " جاء زيد راكبا " ثم تقول : جاء وهو راكب . فـ " حين " ظرف لقوله " فنادوا " . قال الشيخ : " وكون أصل هذه الجملة فنادوا : حين لا مناص ، وأن " حين " ظرف لقوله : " فنادوا " دعوى أعجمية في نظم القرآن ، والمعنى على نظمه في غاية الوضوح " . قلت : الجرجاني لا يعني أن حين ظرف لـ " نادوا " في التركيب الذي عليه القرآن الآن ، إنما يعني بذلك في أصل المعنى والتركيب ، كما شبه ذلك بقولك " جاء زيد راكبا " ثم بـ " جاء زيد وهو راكب " فـ " راكبا " في التركيب الأول حال ، وفي الثاني خبر مبتدأ ، كذلك " حين " كان في الأصل ظرفا للنداء ، ثم صار خبر " لات " أو اسمها على حسب الخلاف المتقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      والمناص : مفعل من ناص ينوص أي : هرب فهو مصدر يقال : ناصه ينوصه إذا فاته فهذا متعد ، وناص ينوص أي : تأخر . ومنه ناص عن قرنه أي : [ ص: 357 ] تأخر عنه جبنا . قاله الفراء ، وأنشد قول امرئ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                      3848 - أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص     فتقصر عنها حقبة وتبوص



                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو جعفر النحاس : " ناص ينوص أي : تقدم فيكون من الأضداد " . واستناص طلب المناص . قال حارثة بن زيد :


                                                                                                                                                                                                                                      3849 - غمر الجراء إذا قصرت عنانه     بيدي استناص ورام جري المسحل



                                                                                                                                                                                                                                      ويقال : ناص إلى كذا ينوص نوصا أي : التجأ إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية