الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومما لا ينبغي أن يبادر في إلقائه إليه إذا لم يكن قد انتقل عن ملة إلى ملة أخرى : الإيمان بالجنة والنار ، والحشر والنشر ، حتى يؤمن به ويصدق وهو من تتمة كلمتي الشهادة فإنه بعد التصديق بكونه عليه السلام رسولا ينبغي أن يفهم الرسالة التي هو مبلغها وهو أن من أطاع الله ورسوله فله الجنة ، ومن عصاهما فله النار فإذا انتبهت لهذا التدريج علمت أن المذهب الحق هو هذا وتحققت أن كل عبد هو في مجاري أحواله في يومه وليلته لا يخلو من وقائع في عبادته ومعاملاته عن تجدد لوازم عليه فيلزمه ، السؤال عن كل ما يقع له من النوادر ويلزمه المبادرة إلى تعلم ما يتوقع وقوعه على القرب غالبا ، فإذا : تبين أنه عليه الصلاة والسلام إنما أراد بالعلم المعرف بالألف واللام في قوله صلى الله عليه وسلم " طلب العلم فريضة على كل مسلم " علم العمل الذي هو مشهور الوجوب على المسلمين لا غير فقد ، اتضح وجه التدريج ووقت وجوبه والله أعلم .

التالي السابق


(ومما ينبغي أن يبادر في إلقائه إليه) وتلقينه إياه (إذا لم يكن قد انتقل عن ملة أخرى: الإيمان بالجنة والنار، والحشر والنشر، وعذاب القبر، حتى يؤمن به ويصدق) ذلك بقلبه (وهو من تتمة كلمتي الشهادة) داخل في ضمنها في الإيمان التفصيلي (فإنه بعد التصديق بكونه صلى الله عليه وسلم رسولا) من الله تعالى (ينبغي أن يفهم الرسالة التي هو) أي: الرسول (مبلغها) إليهم (وهو أن من أطاع الله ورسوله فله الجنة، ومن عصاه فله النار) وضمير عصاه عائد إلى الله أو إلى الرسول، ولم يأت بضمير التثنية؛ حذرا من جمع الله ورسوله في ضمير واحد، نظرا إلى إنكاره صلى الله عليه وسلم على خطيب الأنصار إذ قال: "من أطاع الله ورسوله فقد هدى، ومن يعصهما فقد غوى، فقال: بئس خطيب القوم أنت".

(وإذا انتبهت لهذا التدريج) الذي ذكرناه (علمت أن المذهب الحق هو هذا) لا غير (وتحققت أن كل عبد) لله تعالى (فهو في مجاري أحواله في يومه وليلته لا يخلو عن وقائع) تقع له في عباداته وفي معاملاته (تجدد عليه لوازم، فيلزم السؤال عن كل ما يقع له من النوادر) والوقائع (فيلزمه المبادرة والمسارعة إلى علم ما يتوقع) ويرتجى (وقوعه على القرب غالبا، فإذا: تبين أنه عليه) الصلاة و (السلام أنه إنما أراد بالعلم المعرف بالألف واللام) أي: المعهود المعروف بإدخال التعريف عليه (في قوله) صلى الله عليه وسلم ("طلب العلم فريضة" علم العمل الذي هو مشهور الوجوب على المسلمين لا غير، وقد اتضح وجه التدريج في وقت وجوبه) .

وفي القوت بعدما ذكر اختلاف الآراء في شرح الحديث المذكور ما نصه: وكلها ساقطة، والخبر بلفظ العموم بذكر الكلية وبمعنى الاسم، فقال: "طلب العلم فريضة" ثم قال: "على كل مسلم" بعد قوله: "اطلبوا العلم" فكان هذا على الأعيان، وكأنه ما وقع عليه اسم العلم، ومعناه: المعهود المعروف بإدخال التعريف عليه، فأشير بالألف واللام إليه. اهـ .

وهذا آخر ما ذكره المصنف في بيان العلم الذي هو فرض عين، وقد قسم بعضهم العلم على ثلاثة أقسام: قسم ظاهر في مقام الإسلام وعالم الحس، وقسم باطن في مقام الإيمان وعالم الغيب، وقسم في مقام الإحسان وعالم الروح، ثم العلم ليس هو الإقرار بأن الله بعث الرسل وأنزل الكتب، وقولك بلسانك أن هذا القرآن حق، وأن الذي جاء به صدق، والتزام الشرائع بالاستسلام؛ إذ كل من انتسب إلى الإسلام مقر بهذا، ولكن لا يبلغ به منزلة العلم، ولا يرتفع به عن منزلة الجهل، وإنما يفارق بذلك ملة الكفر، ويتحرم بحرمة الشريعة، ثم يرتفع العالم عن الجهل بمعرفة حقائق ذلك معرفة يقين .

فالعلم هو إثبات صورة المعلوم في نفس العالم، إلا أنه قد تتراءى وتثبت في النفس صورة ليس لها وجود في الحق، فيحتاج أن ينظر في هذا الباب نظرا شافيا، فإن أكثر ما تدخل الشبهة من هذا الباب، فأول طلب العلم أن يستمع الراغب فيه، فيروي ما يسمعه بلسانه ويعي حروفه في حفظه أو صحيفته، فعلم اللسان هو حجة الله على ابن آدم، وعلم القلب هو العلم النافع، فعلم اللسان والأذن ليس له حقيقة في نفع وضر حتى يستقر بأحد الجانبين، ويسلك إحدى الجادتين، ثم الطالب للعلم إن استلهاه علم اللسان بالشهوة في تعرف وجوه الأخبار سماعا ورواية، وتراغبت نيته إلى التزين بها في الناس، والتشوق والتطاول عليهم، حرم علم الحقيقة في ذلك، وشغل عن علم النورية من جهة القلب، فلم يعرف ما يشهد به قلبه، فيعتقده مما ينفيه ويكذبه، وإن هو لم يستلهه علم اللسان ولم يفضل شهوة السمع والتلذذ بظاهر الخبر على شهوة الانتفاع والوصول إلى ثمرة القلب، فكلما روى شيئا عرضه على قلبه، فإن أدرك الحقيقة منه وإلا صبر على جادة الطريق في النظر حتى يعتقده صافيا قويا من جهة إخلاص قلبه وطمأنينته بلا ريب ولا تقليد، فلا جرم أن الله يقبسه نور العلم في بصر قلبه، فيدرك بقليل ذلك كثيرا .

ثم العلوم ثلاثة: العلم الأعلى منها علم الدين، وأفضله العلم بالله وأسمائه وصفاته، وعلم الأوسط وهو علم الدنيا الذي يكون معرفة الشيء بمعرفة نظيره، والعلم [ ص: 144 ] الأسفل وهو إحكام الصناعات والأعمال التي لا نهاية لها .

وقال أبو عبد الله الخوارزمي في كتابه مبيد الهموم ومفيد العلوم: الفرائض الواجبة على قسمين، منها ما هو فرض عين، وهو أن يجب على كل آدمي، خاص وعام، أمير ووزير، حر وعبد، شيخ وشاب، مسلم وكافر، ففرض العين: ما يجب على كل مكلف، ولا يسقط بفعل الناس عن بعض، وذلك معرفة الله تعالى بوحدانيته، والتنزيه، وأنه بعث الأنبياء، وأنه بعث نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة، فطاعته فريضة، وشريعته مؤيدة، وأنه نبي في قبره ما بطلت رسالته، فمعرفة فرض العين أركان الشريعة الخمسة، وشرائط المعاملات إن كان تاجرا، وأحكام النكاح إن كان متأهلا، وأحكام الإمارة والوزارة إن كان أميرا، ويجب على الأمير أن يعرف حقوق الرعية، وشروط السياسة، وكيف استيفاء الحقوق، وعلى السوقي ما يحرم من البيع والشروط الفاسدة، إلى غير ذلك، كل من يتولى أمرا فيجب عليه فرض عين أن يحصل لنفسه علم ذلك الشيء من الحلال والحرام، الذي لا يسعه جهله، ومن تركها فلا يعذر في القيامة. اهـ .




الخدمات العلمية