الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
(الفصل التاسع عشر: في ذكر مصنفاته التي سارت بها الركبان)

قال المناوي: نقل النووي في بستانه عن شيخه التغليسي قال نقلا عن بعضهم: إنه أحصيت كتب الغزالي التي صنفها ووزعت على عمره فخص كل يوم أربعة كراريس .

قلت: وهذا من قبيل نشر الزمان لهم، وهو من أعظم الكرامات، وقد وقع كذلك لغير واحد من الأئمة كابن جرير الطبري، وابن شاهين، وابن النقيب، والنووي، والسبكي، والسيوطي، وغيرهم .

ثم إن الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- له تصانيف في غالب الفنون، حتى في علوم الحرف وأسرار الروحانيات، وخواص الأعداد، ولطائف الأسماء الإلهية، وفي السيمياء وغيرها على ما سيأتي بيانها قريبا إن شاء الله تعالى .

فمن أشرف مصنفاته وأشهرها ذكرا وأعظمها قدرا هذا الكتاب المسمى بإحياء علوم الدين فنشرح حاله، ونتكلم على ما يتعلق به وبغيره على ترتيب حروف المعجم لأجل سهولة الكشف والمعرفة، فاقتضى تقديم هذا الكتاب في الذكر لوجوه:

الأول: أن اسمه مبدوء بالألف .

الثاني: شرفه على غيره؛ لما فيه من علوم الآخرة .

والثالث: شهرته في الآفاق، وسيرورته مسير الشمس في الاختراق، حتى قيل: إنه لو ذهبت كتب الإسلام وبقي الإحياء لأغنى عما ذهب، وهو مرتب على أربعة أقسام: ربع العبادات، وربع العادات، وربع المهلكات، وربع المنجيات، في كل منها عشرة كتب، فالجملة أربعون .

نقل في لطائف المنن عن القطب أبي الحسن الشاذلي أنه قال: كتاب الإحياء يورثك العلم، وكتاب القوت يورثك النور .

وقال ابن السبكي: وهو من الكتب التي ينبغي للمسلمين الاعتناء بها وإشاعتها؛ ليهتدي بها كثير من الخلق، وقل ما ينظر فيه ناظر إلا وتيقظ له في الحال .

وقال أيضا: ولو لم يكن للناس في الكتب التي صنفها أهل العلم إلا الإحياء لكفاهم، وأنا لا أعرف له نظيرا في الكتب التي صنفها الفقهاء الجامعون في تصانيفهم بين النقل والنظر والفكر والأثر .

ونقل المناوي عن لواقح الأنوار للشعراني قالوا: ولما أفتى القاضي عياض بإحراق كتاب الإحياء بلغه ذلك فدعا عليه فمات وقت الدعوة في حمام فجأة، وقيل: بل أمر المهدي بقتله بعد أن ادعى عليه أهل بلده وزعموا أنه يهودي; لأنه كان لا يخرج يوم السبت لكونه كان يصنف كتاب الشفاء، وعندي في قوله: فمات وقت الدعوة توقف; فإن وفاة القاضي بمراكش يوم الجمعة سابع جمادى الآخرة، وقيل: في رمضان سنة 544 فتأمل ذلك .

وروى الإمام اليافعي، عن ابن الميلق، عن ياقوت العرشي، عن أبي العباس المرسي، عن القطب الشاذلي أن الشيخ ابن حرزهم خرج على أصحابه يوما ومعه كتاب فقال: أتعرفونه؟ قال: هذا الإحياء، وكان الشيخ المذكور يطعن في الغزالي، وينهى عن قراءة الإحياء فكشف لهم عن جسمه فإذا هو مضروب بالسياط، وقال: أتاني الغزالي [ ص: 28 ] في النوم ودعاني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما وقفنا بين يديه قال: يا رسول الله، هذا يزعم أني أقول عليك ما لم تقل، فأمر بضربي فضربت .

وأخبر القطب محيي الدين بن عربي عن نفسه أنه كان يقرأ كتاب الإحياء تجاه الكعبة .

وقال المولى أبو الخير: أول ما دخل الإحياء المغرب أنكر عليه بعض المغاربة أشياء، فصنف الإملاء في الرد عن الإحياء، ثم رأى ذلك المصنف رؤيا ظهرت فيها كرامة الشيخ وصدق نيته، فتاب عن ذلك .

وقال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: بضاعة الغزالي في الحديث مزجاة .

وقال أبو الفرج بن الجوزي: قد جمعت أغلاط الإحياء في كتاب، وسميته: إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء، وأشرت إلى بعض ذلك في كتاب تلبيس إبليس .

وقال سبطه أبو المظفر: وضعه على مذاهب الصوفية، وترك فيه قانون الفقه، فأنكروا عليه ما فيه من الأحاديث التي لم تصح .

قال المولى أبو الخير: وأما الأحاديث التي لم تصح فلا ينكر عليه في إيرادها؛ لجوازه في الترغيب والترهيب .

قال صاحب كشف الظنون: وليس ذلك على إطلاقه، بل بشرط أن لا يكون موضوعا .

قلت: والأمر كذلك؛ فإن الأحاديث التي ذكرها المصنف ما بين متفق عليه من صحيح وحسن بأقسامهما، وفيه الضعيف والشاذ والمنكر والموضوع على قلة، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى .

(ذكر طعن أبي عبد الله المازري وأبي الوليد الطرطوشي وغيرهما فيه، والجواب عن ذلك)

أما المازري فقال مجيبا لمن سأله عن حاله وحال كتابه الإحياء ما نصه: هذا الرجل -يعني الغزالي- وإن لم أكن قرأت كتابه فقد رأيت تلامذته وأصحابه، فكل منهم يحكي لي نوعا من حاله وطريقته، فأتلوح بها من سيرته ومذهبه، فأقام لي مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حال الرجل وحال كتابه، وذكر جمل من مذاهب الموحدين والفلاسفة، والمتصوفة، وأصحاب الإشارات، فإن كتابه متردد بين هذه الطوائف لا يعدوها، ثم أتبع ذلك بذكر حمل أهل مذهب على أهل مذهب آخر، ثم أبين عن طرق الغرور فأكشف عما دفن من خيال الباطل؛ ليحذر من الوقوع في حبال صائده، ثم أثنى على الغزالي بالفقه، وقال: هو بالفقه أعرف منه بأصوله .

وأما علم الكلام الذي هو أصول الدين فإنه صنف فيه أيضا، وليس بالمستبحر فيها، ولقد فطنت لسبب عدم استبحاره فيها، وذلك أنه قرأ علم الفلسفة قبل استبحاره في فن الأصول، فأكسبته قراءة الفلسفة جراءة على المعاني، وتسهيلا للهجوم على الحقائق; لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها، وليس لها حكم شرع يزعها، ولا يخاف من مخالفة أئمة يتبعها .

وعرفني بعض أصحابه أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة، ومصنفها فيلسوفي قد خاض في علم الشرع والنقل، فمزج ما بين العلمين، وذكر الفلسفة وحسنها في قلوب أهل الشرع بآيات يتلوها عندها، وأحاديث يذكرها، ثم كان في هذا الزمان المتأخر رجل من الفلاسفة يعرف بابن سينا، ملأ الدنيا تأليفا في علم الفلسفة، وهو فيها إمام كبير، وقد أداه قوته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطف جهده حتى تم له ما لم يتم لغيره، وقد رأيت جملا من دواوينه، ورأيت هذا الغزالي يعول عليه في أكثر ما يشير إليه من الفلسفة، ثم قال: وأما مذاهب الصوفية فلست أدري على من عول فيها .

ثم أشار إلى أنه عول على أبي حيان التوحيدي، ثم ذكر توهية أكثر ما في الإحياء من الأحاديث، وقال: عادة المتورعين أن لا يقولوا: قال مالك، قال الشافعي، فيما لم يثبت عندهم، ثم أشار إلى أنه يستحسن أشياء مبناها على ما لا حقيقة له، مثل قوله في قص الأظفار أن تبدأ بالسبابة؛ لأن لها الفضل على بقية الأصابع، لكونها المسبحة، إلى آخر ما ذكر من الكيفية، وذكر فيه أثرا .

وقال: من مات بعد بلوغه، ولم يعلم أن الباري قديم مات مسلما إجماعا، قال: ومن تساهل في حكاية هذا الإجماع الذي الأقرب أن يكون الإجماع فيه بعكس ما قال فحقيق أن لا يوثق بما نقل .

وقد رأيت له أنه ذكر أن في علومه هذه ما لا يسوغ أن يودع في كتاب، فليت شعري أحق هو أم باطل، فإن كان باطلا فصدق، وإن كان حقا -وهو مراده بلا شك- فلم لا يودع في الكتب، ألغموضه ودقته؟! فإن كان هو فهمه فما المانع أن يفهمه غيره؟!

هذا ملخص كلام المازري، وسبقه إلى قريب منه من المالكية الإمام أبو الوليد الطرطوشي نزيل الإسكندرية، فذكر في رسالة إلى ابن مظفر:

فأما ما ذكرت من [ ص: 29 ] أمر الغزالي فرأيت الرجل وكلمته فرأيته من أهل العلم، قد نهضت به فضائله، واجتمع فيه العقل والفهم وممارسة العلوم طول عمره، وكان على ذلك طول زمانه، ثم بدا له عن طريق العلماء، فدخل في غمار العمال، ثم تصوف فهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة ورموز الحلاج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين، فلقد كاد ينسلخ من الدين، فلما عمل الإحياء عمد يتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، وشحن كتابه بالموضوعات .

قال ابن السبكي عقب هذا الكلام: وأنا أتكلم على كلامهما، ثم أذكر كلام غيرهما، وأتعقبه أيضا، وأجتهد أن لا أتعدى طور الإنصاف، وأسأل الله الإمداد بذلك والإسعاف، فما أحد منهم معاصرا لنا، ولا قريبا، ولا بيننا إلا وصلة العلم، ودعوة الخلق إلى جناب الحق، فأقول: أما المازري فقبل الخوض معه في الكلام أقدم لك مقدمة، وهي أن هذا الرجل كان من أذكى المغاربة قريحة، وأحدهم ذهنا، بحيث اجترأ على شرح البرهان لإمام الحرمين، وهو لغز الأمة الذي لا يحوم نحو حماه، ولا يدنو حول أثره إلا غواص على المعاني، ثاقب الذهن، فبرز في العلم، وكان مصمما على مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري، جليها ودقيقها، لا يتعداها خطوة، ويبدع من خالفه، ولو في النزر اليسير، وهو مع ذلك مالكي المذهب، شديد الميل إلى مذهبه، كثير المناضلة عنه، وهذان الإمامان -أعني إمام الحرمين وتلميذه الغزالي- وصلا من التحقيق وسعة الدائرة في العلم إلى المبلغ الذي يعلم كل منصف بأنه ما انتهى إليه أحد بعدهما، وربما خالفا أبا الحسن في مسائل من علم الكلام، والقوم - أعني الأشاعرة- لا سيما المغاربة منهم يستصعبون هذا الصنع، ولا يرون مخالفة أبي الحسن في نقير ولا قطمير، وربما ضعفا مذهب مالك في كثير من المسائل، كما فعلا في مسألة المصالح المرسلة، وعند ذكر الترجيح بين المذاهب فهذان أمران يغص المازري منهما، وينضم إلى ذلك أن الطرق شتى مختلفة، وقلما رأيت سالك طريق إلا ويستقبح الطريق التي لم يسلكها، ولم يفتح عليه من قبلها، ويضع عند ذلك من أهلها، لا ينجو من ذلك إلى القليل من أهل المعرفة والتمكن، ولقد وجدت هذا، واعتبرته، حتى في مشايخ الطريقة، ولا يخفى أن طريقة الغزالي التصوف والتعمق في الحقائق، ومحبة إشارات القوم، وطريقة المازري الجمود على العبارات الظاهرة، والوقوف معها، والكل حسن ولله الحمد، إلا أن اختلاف الطريقين يوجب تباين المزاجين، وبعد ما بين القلبين، لا سيما وقد انضم إليه ما ذكرناه من المخالفة في المذهب .

وتوهم المازري أنه يضع من مذهبه، وأنه يخالف شيخ السنة الأشعري، حتى رأيته -أعني المازري- قال في شرح البرهان في مسألة خالف فيها إمام الحرمين أبا الحسن الأشعري: ليست من القواعد المعتبرة، ولا المسائل المهمة، من خطأ شيخ السنة أبا الحسن الأشعري فهو المخطئ، وأطال في هذا .

وقال في الكلام على ماهية العقل في أوائل البرهان: وقد حكي أن الأشعري يقول: العقل العلم، وأن الإمام رضي مقالة الحارث المحاسبي أنه غريزة بعد أن كان في الشامل أنكرها أنه إنما رضيها لكونه في آخر عمره قرع باب قوم آخرين، يعني يشير إلى الفلاسفة، فليت شعري ما في هذه المقالة مما يدل على ذلك .

وأعجب من هذا أنه -أعني المازري- في آخر كلامه اعترف بأن الإمام لا ينحو نحوهم، وأخذ يجل من قدره، وله من هذا الجنس كثير .

فهذه أمور توجب التنافر بينهم، وتحمل المنصف على أن لا يسمع كلام المازري فيهما إلا بعد حجة ظاهرة، ولا تحسب أن نفعل ذلك إزراء بالمازري، وحطا من قدره، لا والله، بل تبيينا لطريق الوهم عليه، وهو في الحقيقة بيان لعذره؛ فإن المرء إذا ظن بشخص سوءا قلما أمعن النظر بعد ذلك في كلامه، بل يصير بأدنى لمحة يحمل أمره على السوء،ويكون مخطئا في ذلك إلا من وفق الله ممن برئ من الأغراض، ولم يظن إلا الخير، وتوقف عند سماع كل كلمة، وذلك مقام لم يصل إليه إلا الآحاد من الخلق .

وليس المازري بالنسبة إلى هذين الإمامين من هذا القبيل، وقد رأيت ما فعله في حق الإمام في مسألة الاسترسال، وكيف وهم على الإمام، وفهم عنه ما لا تفهمه العوام، وفوق نحوه سهم الملام .

فإذا عرفت ذلك فاعلم أن ما ادعاه أنه عرف مذهبه بحيث قام له مقام العيان كلام عجيب؛ فإنا لا نجيز أن نحكم [ ص: 30 ] على عقيدة أحد بهذا الحكم، فإن ذلك لا يطلع عليه إلا الله، ولن تنتهي إليها القرائن والأخبار أبدا .

وقد وقفنا نحن على غالب كلام الغزالي، وتأملنا كتب أصحابه الذين شاهدوه، وتناقلوا أخباره، وهم به أعرف من المازري، ثم لم تنته إلى أكثر من غلبة الظن بأنه رجل أشعري العقيدة، خاض في كلام الصوفية .

وأما قوله: وذكر جملا من مذاهب الموحدين والفلاسفة المتصوفة وأصحاب الإشارات، فأقول: إن عنى بالموحدين الذين يوحدون الله فالمسلمون أول داخل فيهم، ثم عطف الصوفية عليهم يوهم أنهم ليسوا مسلمين، وحاش لله، وإن عنى بهم أهل التوكل على الله فهم خير فرق الصوفية، الذين هم من خير المسلمين، فما وجه عطف الصوفية عليهم بعد ذلك؟!

وإن أراد أهل الوحدة المطلقة المنسوب كثير منهم إلى الاتحاد والحلول فمعاذ الله، ليس الرجل في هذا الصوب، وهو مصرح بتكفير هذه الفئة، وليس في كتابه شيء من معتقداتهم .

وأما قوله: إنه ليس بالمتبحر في علم الكلام، فأنا أوافقه على ذلك، لكن أقول: إن قدمه فيه راسخ، ولكن لا بالنسبة إلى قدمه في بقية علومه، هذا ظني .

وأما قوله: إنه اشتغل بالفلسفة قبل استبحاره في فن الأصول، فيلس الأمر كذلك، بل لم ينظر في الفلسفة إلا بعدما استبحر في فن الأصول، وقد أشار هو -أعني الغزالي- في كتابه "المنقذ من الضلال" وصرح بأنه توغل في علم الكلام قبل الفلسفة .

ثم قول المازري: قرأ علم الفلسفة قبل استبحاره في علم الأصول، بعد قوله: إنه لم يكن بالمستبحر في الأصول، كلام يناقض أوله آخره .

وأما دعواه أنه تجرأ على المعاني، فليست له جراءة إلا حيث دله الشرع، ومدعي خلاف ذلك لا يعرف الغزالي، ولا يدري مع من يتحدث .

ومن الجهل بحاله دعوى أنه اعتمد على كتب أبي حيان التوحيدي، والأمر بخلاف ذلك، ولم يكن عمدته في الإحياء بعد معارفه وعلومه وتحقيقاته التي جمع بها شمل الكتاب، ونظم بها محاسنه إلا على كتاب "قوت القلوب" لأبي طالب المكي، وكتاب الرسالة للأستاذ أبي القاسم القشيري، المجمع على جلالتهما وجلالة مصنفيهما .

وأما ابن سينا فالغزالي يكفره، فكيف يقال: إنه يقتدي به؟! ولقد صرح في كتابه "المنقذ من الضلال" أنه لا شيخ له في الفلسفة، وأنه أطلعه الله على هذه العلوم بمجرد المطالعة في أقل من سنتين ببغداد، مع اشتغاله بالإفادة والتدريس .

وقوله: لا أدري على من عول في التصوف، قلت: عول على كتاب "القوت"، و"الرسالة" مع ما ضم إليه من كلام مشايخه أبي علي الفارمذي وأمثاله، ومع ما زاده من قبل نفسه بفكره ونظره وما فتح به عليه، وهو عندي أغلب ما في الكتاب، وليس في الكتاب للفلاسفة مدخل، ولم يصنفه إلا بعد ما ازدرى علومهم، ونهى عن النظر في كتبهم، وقد أشار إلى ذلك في غير موضع من الإحياء، ثم في كتاب المنقذ من الضلال .

فهذا رجل ينادي على كافة الفلاسفة بالكفر، وله في الرد عليهم الكتب الفائقة، وفي الذب عن حريم الإسلام الكلمات الرائقة، ثم يقال: إنه بنى كتابه على مقالتهم، فيا لله وللمسلمين! نعوذ بالله من تعصب يحمل على الوقيعة في أئمة الدين .

وأما ما عاب به الإحياء من توهية بعض الأحاديث فالغزالي معترف بأنه لم تكن له في الحديث يد باسطة، وعامة ما في الإحياء من الأخبار والآثار مبدد في كتب من سبقه من الصوفية، والفقهاء، ولم يستبد الرجل بحديث واحد، وقد اعتنى بتخريج أحاديث الإحياء بعض أصحابنا فلم يشذ عنه إلا اليسير .

وأما ما ذكره في قص الأظفار فالأثر المشار إليه عن علي -كرم الله وجهه- غير أنه لم يثبت، وليس في ذلك كبير أمر، ولا يخالفه شرع، وقد سمعت جماعة من الفقراء يذكرون أنهم جربوه فوجدوه لا يخطئ من دوامه أمن من وجع العين .

وأما قول المازري: عادة المتورعين أن لا يقولوا: قال مالك... إلخ، فقلما قال الغزالي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على سبيل الجزم، وإنما يقول عن، وبتقدير الجزم فلو لم يغلب على ظنه لم يقله، وغايته أنه ليس الأمر على ما ظن .

وأما مسألة من مات ولم يعلم قدم الباري ففرق بين انتفاء اعتقاده بالقدم واعتقاده أن لا قدم، والثاني هو الذي أجمعوا على تكفير من اعتقده، فمن استحضر بذهنه صفة القدم، ونفاها عن الباري، أو حسبها منفية، أو شك في انتفائها كان كافرا. وأما الساذج من مسألة القدم، الخالي، الجلف، المؤمن بالله على الجملة، فهو الذي ادعى الغزالي الإجماع على أنه مؤمن على الجملة، ناج من حيث مطلق الإيمان الجملي، ومن البلية العظمى أن يقال عن مثل الغزالي أنه غير موثوق [ ص: 31 ] به في نقله، فما أدري ما أقول، ولا بأي وجه يلقى الله تعالى من يعتقد ذلك في هذا الإمام .

وأما تقسيم المازري في العلم الذي أشار حجة الإسلام أنه لا يودع في كتاب فوددت لو لم يذكره؛ فإنه شبه عليه، وهذا المازري كان رجلا فاضلا ذكيا، وما كنت أحسبه يقع في مثل هذا، أوخفي عليه أن للعلوم دقائق، نهي العلماء عن الإفصاح بها؛ خشية على ضعفاء الخلق، وأمور أخر لا تحيط بها العبارات، ولا يعرفها إلا أهل الذوق، وأمور أخر لم يأذن الله في إظهارها، وماذا يقول المازري فيما خرجه البخاري في صحيحه من حديث الطفيل، سمعت عليا -رضي الله عنه- يقول: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله" وكم مسألة نص العلماء على عدم الإفصاح بها؛ خشية على أفهام من لا يفهمها، وربما وقع السكوت عن بعض العلم؛ خشية من الوقوع في محذور، وأمثلته تكثر .

وأما كلام الطرطوشي فمن الدعاوى العارية عن الدلالة، ولا أدري كيف استجاز في دينه أن ينسب هذا الحبر إلى أنه دخل في وساوس الشيطان؟! ولا من أين اطلع على ذلك؟!

وأما قوله: شابها بآراء الفلاسفة ورموز الحلاج، فلا أدري أي رموز في هذا الكتاب غير إشارات القوم التي لا ينكرها عارف، وليس للحلاج رموز فيعرف بها .

وأما قوله: كاد ينسلخ من الدين، فيا لها كلمة وقاه الله شرها .

وأما دعواه أنه غير أنيس بعلوم الصوفية، فمن الكلام البارد، فإنه لا يرتاب ذو نظر بأن الغزالي كان ذا قدم راسخ في التصوف، وليت شعري إن لم يكن الغزالي يدري التصوف فمن يدريه؟!

وأما دعواه أنه سقط على أم رأسه فوقعة في العلماء بغير دليل؛ فإنه لم يذكر لنا بماذا سقط، كفاه الله وإيانا غائلة التعصب .

وأما الموضوعات في كتابه فليت شعري أهو واضعها حتى ينكر عليه، إن هذا إلا تعصب بارد، وتشنيع بما لا يرتضيه ناقد .

وممن تكلم عليه أيضا وبسط لسانه فيه ابن الصلاح .

قال التقي السبكي في جواب كتبه للعفيف المطري المقيم بالمدينة المنورة، ما نصه: ماذا يقول الإنسان في الغزالي وفضله واسمه قد طبق الأرض، ومن خبر كلامه عرف أنه فوق اسمه، وأما ما ذكره ابن الصلاح من عند نفسه، ومن كلام يوسف الدمشقي والمازري فما أشبه هؤلاء الجماعة -رحمهم الله- إلا بقوم متعبدين سليمة قلوبهم، قد ركنوا إلى الهوينا رأوا فارسا عظيما من المسلمين قد رأى عدوا عظيما لأهل الإسلام فحمل عليهم، وانغمس في صفوفهم، وما زال في غمرتهم حتى فل شوكتهم، وكسرهم، وفرق جموعهم شذر مذر، وفلق هام كثير منهم، فأصابه يسير من دمائهم، وعاد سالما، فرأوه وهو يغسل الدم عنه، ثم دخل معهم في صلاتهم وعبادتهم، فتوهموا إبقاء أثر دم عليه، فأنكروا عليه، هذا حال الغزالي وحالهم، والكل إن شاء الله مجتمعون في مقعد صدق عند مليك مقتدر .

وأما المازري فمعذور لأنه مغربي، وكانت المغاربة لما وقع بهم كتاب الإحياء لم يفهموه فحرقوه، فمن تلك الحالة تكلم المازري، ثم إن المغاربة بعد ذلك أقبلوا عليه، ومدحوه بقصائد، منها قصيدة أولها:


أبا حامد أنت المخصص بالحمد وأنت الذي علمتنا سنن الرشد     وضعت لنا الإحياء يحيي نفوسنا
وينقذنا من ربقة المارد المردي

وهي طويلة وإن كنت لا أرضى بقوله: أنت المخصص بالحمد، ويتأول لقائله أنه أراد من بين أقرانه، أو من بين من يتكلم فيه، وأين نحن ومن فوقنا ومن فوقهم من فهم كلام الغزالي؟! والوقوف على مرتبته في العلم والدين والتأله، ولا ينكر فضل الشيخ ابن الصلاح وفقهه وحديثه ودينه، وقصده الخير، ولكن لكل عمل رجال، ولا ينكر علو رتبة المازري، ولكن كل حال لا يعرفه من لم يذقه أو يشرف عليه، وكل أحد إنما يتكيف بما نشأ عليه، ووصل إليه .

ثم قال: وإن كان في الإحياء أشياء يسيرة تنتقد لا ترفع محاسن أكثر التي لا توجد في كتاب غيره، وكم من منقبة للغزالي! وقد أطال في الكلام فراجعه في طبقات ولده؛ فإنه نفيس في الباب .

وفي الجزء التاسع عشر من تذكرة الحافظ جلال الدين السيوطي قال: ومما وقع للعلماء من ضرب المثل لأهل عصرهم بالآيات ما وقع لحجة الإسلام الغزالي في كتابه "الانتصار لما في الإحياء من الأسرار" حين أنكر عليه علماء عصره مواضع منه، ألف الكتاب المذكور لجواب ما أنكروه، فقال في أوله ما نصه: سألت -يسرك الله لمراتب العلم تصعد مراقيها، وقرب لك مقامات الولاية تحل معاليها- في بعض ما وقع في الإملاء الملقب بالإحياء مما [ ص: 32 ] أشكل على من حجب فهمه، وقصر علمه، ولم يفز بشيء من الحظوظ الملكية قدحه وسهمه، وأظهرت التحزن لما شاش به شركاء الطعام، وأمثال الأنعام، وإجماع العوام، وسفهاء الأحلام، وذعار أهل الإسلام، حتى طعنوا عليه، ونهوا عن قراءته ومطالعته، وأفتوا بمجرد الهوى على غير بصيرة باطراحه ومنابذته، ونسبوا ممليه إلى ضلال وإضلال، ونبذوا قراءه ومنتحليه بزيغ في الشريعة واختلال، فإلى الله انصرافهم ومآبهم، وعليه في العرض الأكبر إيقافهم وحسابهم، فستكتب شهادتهم ويسألون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم .

ولكن الظالمون في شقاق بعيد، ولا عجب فقد ثوى أدلاء الطريق، وذهب أرباب التحقيق، فلم يبق في الغالب إلا أهل الزور والفسوق متشبثين بدعاوى كاذبة، متصفين بحكايات موضوعة، متزينين بصفات منمقة، متظاهرين بظواهر بالعلم فاسدة، ومتقاطعين بحجج غير صادقة، كل ذلك لطلب دنيا، أو محبة ثناء، أو مغالبة نظراء، قد ذهبت المواصلة بينهم بالبر، وتآلفوا جميعا على الفعل المنكر، وعدمت النصائح منهم في الأمر، وتصافوا بأسرهم على الخديعة والمكر، إن نصحتهم العلماء أغروا بهم، وإن صمت عنهم العقلاء أزروا عليهم .

أولئك الجهال في علمهم، الفقراء في طولهم، البخلاء عن الله عز وجل بأنفسهم، لا يفلحون، ولا ينجح تابعهم؛ ولذلك لا تظهر عليهم موارثة الصدق، ولا تسطع حولهم أنوار الولاية، ولا تتحقق لديهم أعلام المعرفة، ولا يستر عوراتهم لباس الخشية؛ لأنهم لم ينالوا أحوال النقباء، ومراتب النجباء، وخصوصية البدلاء، وكرامات الأوتاد، وفوائد القطب، وفي هذه أسباب السعادة، وتتمة الطهارة، لو عرفوا أنفسهم لظهر لهم الحق، وعلموا علة أهل الباطن، وداء أهل الغضب، ودواء أهل القوة، ولكن ليس هذا من بضائعهم .

حجبوا عن الحقيقة بأربعة: بالجهل والإصرار، ومحبة الدنيا، وإظهار الدعوى. فالجهل أورثهم السخف، والإصرار أورثهم التهاون، ومحبة الدنيا أورثتهم طول الغفلة، وإظهار الدعوى أورثهم الكبر والإعجاب والرياء، والله من ورائهم محيط، وهو على كل شيء شهيد .

فلا يغرنك -أعاذنا الله وإياك من أحوالهم- شأنهم، ولا يذهلنك عن الاشتغال بصلاح نفسك تمردهم وطغيانهم، ولا يغوينك بما زين لهم من سوء أعمالهم شيطانهم .

فكأن قد جمع الخلائق في صعيد، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد، وتلي: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد فيا له موقفا قد أذهل ذوي العقول من القال والقيل، ومتابعة الأباطيل، فأعرض عن الجاهلين ولا تطع كل حلاف مهين فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ، كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون إلى هنا كلام الغزالي.

التالي السابق


الخدمات العلمية