الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فقد عرفت العلم المحمود والمذموم ومثار الالتباس وإليك الخيرة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلف أو تتدلى بحبل الغرور وتتشبه بالخلف فكل ما ارتضاه السلف من العلوم قد اندرس وما أكب الناس عليه فأكثره مبتدع ومحدث وقد صح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء فقيل : ومن الغرباء ؟ قال الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنتي والذين يحيون ما أماتوه من سنتي وفي آخر هم المتمسكون بما أنتم عليه اليوم وفي حديث آخر الغرباء ناس قليل صالحون بين ناس كثير ومن يبغضهم في الخلق أكثر ممن يحبهم وقد صارت تلك العلوم غريبة بحيث يمقت ذاكرها ولذلك قال الثوري رحمه الله إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلط لأنه إن نطق بالحق أبغضوه .

التالي السابق


(فقد عرفت العلم المحمود والمذموم) وعرفت (مثار الالتباس) أي: ما يوثر به الاختلاط (وإليك الخيرة) أي: الاختيار (في أن تنظر لنفسك) وفي بعض النسخ: بعد قوله مثار الالتباس والشك والحيرة فانظر الآن أترى خيرا لنفسك (فتقتدي بالسلف) الصالحين (أو تتدلى) أن تنزل إلى أسفل متمسكا ( بحبل الغرور) أي: الاغترار بما يوهمك إعجابا (وتتشبه بالخلف) المتأخرين (فكل ما ارتضاه السلف من العلوم) الجليلة (قد اندرس) أثرها وعفا (وما أكب الناس عليه) مشتغلين بتحصيله (فأكثره) في الحقيقة (مبتدع محدث) لم يكن يعرف فيما سلف، قال صاحب القوت: اعلم أن العلوم تسعة: أربعة منها سنة معروفة من الصحابة والتابعين وخمسة محدثة لم تكن تعرف فيما سلف فأما الأربعة المعروفة: فعلم الإيمان وعلم القرآن وعلم السنن، والآثار وعلم الفتاوى والأحكام، وأما الخمسة المحدثة فالنحو والعروض وعلم المقاييس والجدل في الفقه وعلم المعقول بالنظر وعلم علل الحديث وتطريق الطرقات إليه وتعليل الضعفاء وتضعيف النقلة للآثار فهذا العلم من المحدث إلا أنه علم لأهله يسمعه أصحابه منهم. اهـ .

(وقد صح قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء) هكذا رواه مسلم وابن ماجه من رواية يزيد بن [ ص: 265 ] كيسان عن حازم عن أبي هريرة ورواه مسلم من رواية عاصم بن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر بلفظ: إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها وقال فيه البزار فطوبى للغرباء، وروى الطبراني من رواية عيسى بن ميمون عن عون بن شداد عن أبي عثمان عن سليمان مختصرا هكذا إلى قوله، كما بدا وروي في الأوسط من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مثله إلى قوله فطوبى للغرباء، وروى ابن ماجه من رواية سنان بن سعد عن أنس هكذا مختصرا وقال السخاوي في المقاصد، وأخرج البيهقي في الشعب من حديث شريح بن عبيد مرسلا وفيه زيادة هي إلا أنه لا غربة على مؤمن من مات في أرض غربة غابت عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض (فقيل: ومن الغرباء؟ قال الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي والذين يحيون ما أماتوه من سنتي) رويت هذه الزيادة من طرق فأخرج الترمذي من رواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده رفعه فذكر الحديث وفيه أن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي وقال: هذا حديث حسن وروى عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني في الكبير من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن يوسف بن سليمان عن جدته ميمونة عن عبد الرحمن بن حسنة أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: بدأ الإسلام غريبا ثم يعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس.

وأخرج أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب صفة الغرباء والطبراني في الكبير من رواية عبد الله بن يزيد بن آدم الدمشقي عن أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة وأنس رفعوه وفيه فقالوا ومن الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأخرج أحمد وأبو يعلى والبزار في مسانيدهم من رواية أبي صخر عن أبي حازم عن ابن سعد، قال: وأحسبه عامر بن سعد، وقال أحمد وأبو يعلى: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الإيمان بدأ غريبا وسيعود قال: أحمد غريبا ثم اتفقوا كما بدأ فطوبى للغرباء يومئذ إذا فسد الناس ولم يقل البزار يومئذ إلخ، وقد عرف بمجموع ما سقناه أن قول المصنف والذين يحيون إلخ ليس في سياقهم للحديث المذكور ونظر المصنف أوسع، وأخرج الترمذي وابن ماجه من رواية أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رفعه أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، زاد الترمذي كما بدأ ثم اتفقا فطوبى للغرباء زاد ابن ماجه، قال: قيل: ومن الغرباء قال: النزاع من القبائل، قال الترمذي: حسن صحيح غريب، أي: الذين نزعوا عن أهلهم وعترتهم، قيل وهم أصحاب الحديث، فإن هذا المعنى صادق عليهم، قال المناوي هو تخصيص بغير مخصص، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأبي موسى الأشعري (وفي خبر آخر المتمسكون بما أنتم عليه اليوم) أي: ورد ذلك في تفسير الغرباء المذكور في الحديث المتقدم .

قال العراقي: لم أقف له على إسناد إلا أن في أثناء حديث أبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة وأنس وفيما أخرجه الطبراني في الكبير وأبو الآجري في كتاب صفة الغرباء ذكر افتراق الأمم كلهم على الضلالة إلا السواد الأعظم قالوا: ما السواد الأعظم؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي، الحديث. اهـ .

قلت: وبه يصح حملهم على أهل الحديث كما لا يخفى (وفي حديث آخر الغرباء ناس قليل صالحون بين ناس كثير من يبغضهم أكثر ممن يحبهم) .

قال العراقي رواه أحمد في مسنده قال: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا الحارث بن يزيد عن جندب بن عبد الله أنه سمع سفيان بن عوف يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ذات يوم ونحن عنده طوبى للغرباء فقيل من الغرباء يا رسول الله قال: أناس صالحون في أناس سوء [ ص: 266 ] كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم وابن لهيعة مختلف فيه. اهـ .

قلت: وهكذا أخرجه السيوطي في الجامع الكبير عن ابن عمرو وعزاه لأحمد بلفظ: طوبى للغرباء: أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم (وقد صارت تلك العلوم) المشار إليها (غريبة) عن أهلها (بحيث يمقت) أي: يبغض (ذاكرها) بينهم (ولذلك قال) سفيان بن سعيد (الثوري) -رحمه الله تعالى- (إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلط) هكذا نقله صاحب القوت عنه زاد المصنف (لأنه إذا نطق بالحق أبغضوه) .

قال ابن الجوزي في ترجمة سفيان بسنده إلى سليمان بن داود حدثنا يحيى بن المتوكل سمعت سفيان الثوري يقول إذا أثنى على الرجل جيرانه أجمعون فهو رجل سوء، قيل كيف ذلك؟ قال: يراهم يعملون بالمعاصي فلا يغير عليهم ويلقاهم بوجه طلق، وقال فضيل بن عياض: سمعت سفيان يقول إذا رأيت القارئ محببا إلى إخوانه محمودا في جيرانه فاعلم أنه مداهن، وفي القوت: وقال أيضا إذا رأيت الرجل محببا إلى إخوانه محمودا في جيرانه فاعلم أنه مراء وفي تاريخ الذهبي قبيصة عن سفيان قال: كثرة الأخوان من سخافة الدين .




الخدمات العلمية