الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت : فلم لم تورد في أقسام العلوم الكلام والفلسفة وتبين أنهما مذمومان أو محمودان فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه وما خرج عنهما فهو إما مجادلة مذمومة وهي من البدع كما سيأتي بيانه وأما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفرق لها وتطويل بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع وتمجها الأسماع وبعضها خوض فيما لا يتعلق بالدين

التالي السابق


(فإن قلت: فلم لم تورد في أقسام العلوم) علم (الكلام وعلم الفلسفة) مع شدة شهرتهما وإكباب الناس على تحصيلهما (وتبين أنهما مذمومان) فيتركان (أو محمودان) فيعتنى بهما (فاعلم أن) علم (الكلام) وهو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها (وحاصل ما يشتمل عليه) علم (الكلام من الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار) النبوية (مشتملة عليه وما خرج عنهما) أي: عن الكتاب والسنة (فهو) لا يخلو من حالتين (إما مجادلة مذمومة) نهى الشارع عنها (وهي من البدع كما سيأتي بيانه وإما مشاغبة) أي: مخاصمة مع رفع الصوت (بالتعلق بمناقضات الفرق) أي: المسائل التي ناقض بها بعضهم بعضا (وتطويل) وقت (بنقل المقالات) الكثيرة المختلفة (التي أكثرها ترهات) أي بواطل، قال الزمخشري: والترهات في الأصل للطرق الصغيرة المتشعبة من الجادة ثم استعير في الأقاويل الخالية عن طائل (وهذيانات) لا مزية فيها (تزدريها) أي: تحقرها (الطباع) السليمة (وتمجها) تلقيها (الأسماع) المستقيمة (وبعضها خوض) واشتغال (فيما لا يتعلق بالدين) أصلا وفي سياق هذا الكلام رد على بعض جهال المناطقة الزاعمين أن الشريعة خطاب للجمهور ولا احتجاج فيها، وإن الأنبياء دعوا الجمهور بطريق الخطاب والحجج للخواص وهم أهل البرهان يعنون نفوسهم، ومن سلك طريقتهم، وربما تعلق بعضهم بظاهر قوله تعالى: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم ، وهذا الذي فهموه ليس بشيء، ومعنى الآية: قد وضح الحق واستبان وظهر، فلا خصومة بيننا وبينكم بعد ظهوره ولا مجادلة فإن الجدال شريعة موضوعة للتعاون على إظهار الحق، فإذا ظهر الحق ولم يبق به خفاء، فلا فائدة في الخصومة والجدال على بصيرة فمخاصمة المنكر ومجادلته عناد لا غنى فيه، هذا معنى هذه الآية .



وأما إنكارهم الاحتجاج في القرآن فمن جهلهم بالشريعة والقرآن فإن القرآن مملوء من الحجج والأدلة والبراهين في مسائل التوحيد وإثبات الصانع والمعاد وإرسال الرسل وحدوث العالم فلا يذكر المتكلمون وغيرهم دليلا صحيحا على ذلك إلا وهو في القرآن بأفصح عبارة وأتم معنى، وقد اعترف بذلك حذاقهم من المتقدمين والمتأخرين فمن ذلك تقرير المصنف السابق، ومن ذلك قال الفخر الرازي في كتابه أقسام اللذات: لقد تأملت الكتب الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيتها تروي غليلا ورأيت أقرب الطريق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: إليه يصعد الكلم الطيب ، الرحمن على العرش استوى ، واقرأ في النفي: ليس كمثله ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، وقال بعضهم: أفنيت عمري في الكلام أطلب [ ص: 175 ] الدليل وإذا أنا لا أزداد إلا بعدا عنه، فرجعت إلى القرآن أتدبره وأتفكر فيه وإذا أنا بالدليل حقا معي وأنا لا أشعر به فقلت والله ما مثلي إلا كما قال القائل:

ومن العجائب والعجائب جمة قرب الحبيب وما إليه وصول كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول

وإذا هو كما قيل بل فوق ما قيل:

كفى وشفى ما في الفؤاد فلم يدع لذي أرب في القول جدا ولا هزلا

والمقصود أن القرآن مملوء بالاحتجاج وفيه جميع أنواع الأدلة والأقيسة الصحيحة، وأمر صلى الله عليه وسلم، فيه بإقامتها، وهذه مناظرات القرآن مع الكفار موجودة ومناظراته -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لخصومهم لا ينكرها إلا جاهل مفرط في الجهل،كما سيأتي بيان ذلك في كتاب قواعد العقائد .




الخدمات العلمية