الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
(خاتمة الفصول: في بيان الجرح والتعديل) .

ومعرفة هذه المسألة مهمة، قال ابن السبكي في الطبقات في ترجمة أبي جعفر أحمد بن صالح من الطبقة الأولى من أصحاب الشافعي ما نصه: ننبهك هنا على قاعدة عظيمة في الجرح والتعديل ضرورية نافعة، لا تراها في شيء من كتب الأصول .

قلت: وقد انتقيت من كلامه في هذه المسألة ما يدل على المقصود منه، قال: فإنك إذا سمعت أن الجرح مقدم على التعديل ورأيت الجرح والتعديل في الإنسان، وكنت غرا بالأمور، وقدما مقتصرا على منقول الأصول، حسبت أن العمل على جرحه، فإياك ثم إياك، والحذر كل الحذر من هذا الحسبان، بل الصواب أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره، فلا يلتفت إلى الجرح فيه، ويعمل فيه بالعدالة، وإلا لو فتحنا هذا الباب وأخذنا بتقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة؛ إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون .

وقد أشار لذلك ابن عبد البر في كتاب العلم، واستدل أن السلف تكلم بعضهم في بعض بكلام منه ما حمل عليه التعصب والحسد، ومنه ما دعا إليه التأويل واختلاف الاجتهاد، كما لا يلزم المقول فيه ما قال القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا .

قال: ومما نقم به على يحيى بن معين، وعيب به، كلامه في الشافعي، وهو لا يعرف الشافعي، ولا يعرف ما قاله الشافعي، ومن جهل شيئا عاداه، وكلام ابن أبي ذئب، وإبراهيم بن سعد، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ومحمد بن إسحاق، وابن أبي يحيى، وابن أبي الزناد في مالك بن أنس، وعابوا عليه أشياء، وقد برأه الله -عز وجل- عما قالوا قال: وما مثل من تكلم في مالك والشافعي ونظائرهما إلا كما قال الأعشى:

.

كناطح صخرة يوما ليفلقها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

أو كما قال الحسن بن حميد:


يا ناطح الجبل العالي ليكلمه     أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل

ولقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول:


ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما     وللناس قال بالظنون وقيل

وقيل لابن المبارك: فلان يتكلم في أبي حنيفة فأنشد:


حسدوك لما رأوك فضلك اللـ     ـه بما فضلت به النجباء

وقيل لأبي عاصم النبيل: فلان يتكلم في أبي حنيفة فقال: هو كما قال نصيب:


سلمت وهل حي من الناس سالم

وقال أبو الأسود الديلي:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه     فالقوم أعداء له وخصوم

هذا كله كلام ابن عبد البر، وفصل الخطاب فيه أن الجارح لا يقبل منه الجرح وإن فسره في حق من غلبت طاعته على معصيته، ومادحوه على ذاميه، ومزكوه على جارحيه إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل [ ص: 52 ] أن ذلك من تعصب مذهبي، أو منافسة دنيوية، كما يكون بين النظراء، فلا يلتفت إلى كلام ابن أبي ذئب في مالك وابن معين في الشافعي، والنسائي في أحمد بن صالح; لأن هؤلاء مشهورون، صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب، لو صح لتوفرت الدواعي على نقله، فكان القاطع قائما على كذبه فيما قاله .

ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة، فجرحه لذلك، وقد وقع هذا لكثير من الأئمة، جرحوا بناء على معتقدهم، وهم المخطئون، والمجروح مصيب، وإلى هذا أشار ابن دقيق العيد في الاقتراح، وقال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس المحدثون والحكام. اهـ .

ثم قال: ومن شهد على آخر وهو مخالف له في العقيدة أوجبت مخالفته له ريبة عند الحاكم المتبصر، لا يجدها إذا كانت الشهادة صادرة من غير تخالف في العقيدة، ثم المشهود به يختلف باختلاف الأغراض والأحوال، فربما وضح غرض الشاهد على المشهود عليه إيضاحا لا يخفى على أحد، وذلك لقربه من نص معتقده، أو ما أشبه ذلك، وربما دق وغمض بحيث لا يدركه إلا الفطن من الحكام، ورب شاهد من أهل السنة ساذج قد مقت المبتدع مقتا زائدا على ما يطلبه الله منه، وأساء الظن به إساءة أوجبت له تصديق ما يبلغه عنه فبلغه عنه شيء، فغلب على ظنه صدقه، كما قدمناه، فشهد به، فسبيل الحاكم التوقف في مثل هذا إلى أن يتبين له الحال فيه، وسبيل الشاهد الورع ولو كان من أصلب أهل السنة أن يعرض على نفسه ما نقل له عن هذا المبتدع، وقد صدقه وعزم على أن يشهد عليه به، ويعرض على نفسه مثل هذا الخبر بعينه أن لو كان عن شخص من أهل عقيدته، هل كان يصدقه، وبتقدير أن لو كان يصدقه، فهل كان يبادر إلى الشهادة عليه به، وبتقدير أنه كان يبادر فليوازن ما بين المبادرتين، فإن وجدهما سواء فدونه، وإلا فليعلم أن حظ النفس داخله .

وأزيد من ذلك أن الشيطان استولى عليه، فخيل له أن هذه قربة وقيام في نصر الحق، وليعلم من هذه سبيله أنه أتى من جهل وقلة دين، هذا قولنا في سني يجرح مبتدعا، فما الظن بمبتدع يجرح سنيا، وفي المبتدعة زيادة لا توجد في غيرهم وهو أنهم يرون الكذب لنصرتهم والشهادة على من يخالفهم في العقيدة بما يسوءه في نفسه وماله بالكذب تأييدا لاعتقادهم، ويزداد حنقهم وتقريرهم إلى الله بالكذب عليه بمقدار زيادته في النيل منهم; فهؤلاء لا يحل لمسلم أن يعتبر كلامهم .

ثم قال: ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح أيضا حال الجارح في الخبرة بمدلولات الألفاظ، ولا سيما العرفية التي تختلف باختلاف عرف الناس، ويكون في بعض الأزمنة مدحا، وفي بعضها ذما، وهذا أمر شديد لا يدركه إلا فقيه بالعلم .

ويعتبر أيضا حاله في العلم بالأحكام الشرعية، فرب جاهل ظن الحلال حراما، فيجرح به، ومن هنا أوجب الفقهاء التفسير; ليتضح الحال .

قال صاحب البحر: حكي أن رجلا جرح رجلا، وقال: إنه طين سطحه بطين استخرج من حوض السبيل .

ومما ينبغي أيضا تفقده الخلاف الواقع بين كثير من الصوفية، وأصحاب الحديث، فقد أوجب كلام بعضهم في بعض، كما تكلم بعضهم في حق الحارث المحاسبي وغيره، وهذا في الحقيقة داخل في قسم مخالفة العقائد .

والطامة الكبرى إنما هي في العقائد المثيرة للتعصب والهوى، نعم وفي المنافسات الدنيوية على حطام الدنيا، وهذا في المتأخرين أكثر منه في المتقدمين، وأمر العقائد سواء في الفريقين .

ثم قال: لا شك أن من تكلم في إمام استقر في الأذهان عظمته، وتناقلت الرواة ممادحه فقد جر الملام إلى نفسه، ولكنا لا نقضي أيضا على من عرفت عدالته إذا جرح من لم يقبل منه جرحه إياه بالفسق، بل تجوز أمور:

أحدها: أن يكون واهما، ومن ذا الذي لا يهم .

والثاني: أن يكون مؤولا قد جرح بشيء ظنه جارحا ولا يراه المجروح كذلك، كاختلاف المجتهدين .

والثالث: أن يكون نقله إليه من يراه هو صادقا، ونحن نراه كاذبا، وهذا لاختلافنا في الجرح والتعديل، فرب مجروح عند عالم معدل عند غيره، فيقع الاختلاف في الاحتجاج حسب الاختلاف في تزكيته، فلم يتعين أن يكون الحامل للجارح على الجرح مجرد التعصب والهوى حتى نجرحه بالجرح .

ومعنا أصلان نستصحبهما إلى أن نتيقن خلافهما: أصل عدالة الإمام [ ص: 53 ] المجروح الذي قد استقرت عظمته، وأصل عدالة الجارح الذي ثبتت، فلا يلتفت إلى جرحه ولا نجرحه بجرحه .

ثم قال وقولهم: إن الجرح مقدم إنما يعنون به حالة تعارض الجرح والتعديل، فإذا تعارضا عند التجريح قدمنا الجرح؛ لما فيه من زيادة العلم، وتعارضهما هو استواء الظن عندهما؛ لأن هذا شأن المتعارضين .

أما إذا لم يقع استواء الظن عندهما فلا تعارض، بل العمل بأقوى الظنين من جرح أو تعديل، وفيما نحن فيه لم يتعارضا; لأن غلبة الظن بالعدالة قائمة، وهذا كما أن عدد الجارح إذا كان أكثر قدم الجرح إجماعا; لأنه لا تعارض، والحالة هذه، ولا يقول هنا أحد بتقديم التعديل لا من قال بتقديمه عند التعارض، ولا غيره، فظهر بهذا أنه ليس كل جرح مقدما .

ثم قال: ولنختم هذه القاعدة بفائدتين عظيمتين:

إحداهما: أن قولهم: "لا يقبل الجرح إلا مفسرا" إنما هو أيضا في جرح من ثبتت عدالة صاحبه، واستقرت، فإذا أراد رافع رفعها بالجرح قيل له: ائت ببرهان على هذا، أو مبهم لم يعرف حاله، ولكن ابتدأه جارحان ومزكيان، فيقال إذ ذاك للجارحين: فسرا ما رميتماه به .

أما من ثبت أنه مجروح، فيقبل قول من أطلق جرحه لجريانه على الأصل المقرر عندنا، ولا نطالبه بالتفسير؛ إذ لا حاجة إلى طلبه .

والفائدة الثانية: أنا لا نطلب التفسير من كل أحد، بل إنما نطلبه حيث يحتمل الحال شكا إما للاختلاف في الاجتهاد، أو لتهمة في الجارح، أو نحو ذلك مما لا يوجب سقوط قول الجارح، ولا ينتهي إلى الاعتبار به على الإطلاق، بل يكون بين بين .

أما إذا انتفت الظنون، واندفعت التهم، وكان الجارح حبرا من أحبار الأمة، مبرأ عن مظان التهمة، أو كان المجروح مشهورا بالضعف متروكا بين النقاد، فلا يتلعثم عند جرحه، ولا يحوج الجارح إلى تفسير، بل طلب التفسير منه والحالة هذه طلب لغيبة لا حاجة إليها .

هذا خلاصة ما ذكره، فافهمه .

فهذا ما تيسر لنا جمعه من أحواله ومشايخه ومن صحبه، وروى عنه أو تفقه عليه، وما يتعلق بكتابه، وما اعترض عليه فيه، والجواب عنه على قدر الإمكان، مع الاختصار الزائد، وعسى إن وقفت على زيادة على ما ذكرت ألحقتها به .

وقد عن لنا أن نرخي العنان إلى المقصود الأعظم الذي هو شرح أسرار كتابه المعظم، والله أسأل أن يوفقني لإتمامه على نهج يرتضيه أهل الحق، ويستحسنه من كسف له على الجمع والفرق، وأن يرزقه القبول كأصله، وأن يوقعه موقع الرضا عند أهله؛ إنه بالإجابة جدير، وعلى ما يشاء قدير، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية