الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقيل : يا رسول الله ، أي الأعمال أفضل ؟ فقال : العلم بالله عز وجل ، فقيل : أي العلم تريد قال صلى الله عليه وسلم : العلم بالله سبحانه ، فقيل له : نسأل عن العمل ، وتجيب عن العلم ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن قليل العمل ينفع مع العلم بالله ، وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل بالله " وقال صلى الله عليه وسلم : " يبعث الله سبحانه العباد يوم القيامة ، ثم يبعث العلماء ، ثم يقول : يا معشر العلماء ، إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم ، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم ، اذهبوا فقد غفرت لكم " نسأل الله حسن الخاتمة .

وأما الآثار فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل يا كميل العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال والعلم حاكم والمال محكوم عليه والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق .

وقال علي أيضا رضي الله عنه العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد ، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه وقال رضي الله عنه نظما .


ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء     وقدر كل امرئ ما كان يحسنه
والجاهلون لأهل العلم أعداء     ففز بعلم تعش حيا به أبدا
الناس موتى وأهل العلم أحياء

وقال أبو الأسود ليس شيء أعز من العلم الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك وقال ابن عباس رضي الله عنهما خير سليمان بن داود عليهما السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه وسئل ابن المبارك من الناس فقال : العلماء قيل : فمن الملوك ؟ قال : الزهاد قيل : فمن السفلة ؟ قال : الذين يأكلون الدنيا بالدين

التالي السابق


السابع والعشرون: (وقال عليه السلام: "لما قيل له: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ فقال: العلم بالله عز وجل، فقيل: الأعمال نريد، فقال: العلم بالله، فقيل له: نسأل عن العمل، وتجيب عن العلم، فقال: إن قليل العمل ينفع مع العلم، وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل") قال العراقي: أخرجه ابن عبد البر من حديث أنس بسند ضعيف. اهـ .

قلت: هو من رواية الحسين بن حميد، حدثنا محمد بن روح بن عمران القشيري، حدثنا مؤمل بن عبد الرحمن، عن عباد بن عبد الصمد، عن أنس بتكرار "أي الأعمال أفضل" مرتين، وفيه أسألك بدل نسألك، تخبرني بدل تجيب، والباقي سواء، وعباد منكر الحديث، ومؤمل ضعيف، ومحمد بن روح منكر الحديث، الحسين بن حميد المصري تكلم فيه أيضا .

وأخرجه الحاكم والترمذي في الأصل السادس والستين بعد المائتين من نوادر الأصول، فقال: حدثنا عيسى بن أحمد، حدثنا المؤمل بن عبد الرحمن، حدثنا عباد بن عبد الصمد، عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: العلم بالله، ثم أتاه فسأله، فقال مثل ذلك، فقال: يا رسول الله، أنا أسألك عن العمل، قال: إن العلم ينفعك معه قليل العمل وكثيره، وإن الجهل لا ينفعك معه قليله ولا كثيره" وقوله: "إن قليل العمل ينفع مع العلم" أي: فإنه يصححه، "وكثير العمل لا ينفع مع الجهل" لأن المتعبد من غير علم كالحمار في الطاحون .

وقد أخرجه الديلمي في الفردوس عن أنس أيضا، ومن شواهده ما أخرجه أبو الشيخ عن عبادة: "العلم خير من العمل، وملاك الدين الورع، والعالم من يعمل".

وأخرجه ابن عبد البر عن أبي هريرة: "العلم خير من العبادة، وملاك الدين الورع".

وأخرج ابن أبي شيبة والحكيم، عن الحسن مرسلا، والخطيب عنه، عن جابر: "العلم علمان فعلم في القلب فذلك العلم النافع، وعلم في اللسان فذلك حجة الله على ابن آدم" وسيأتي في الباب الخامس .

الثامن والعشرون: (وقال عليه السلام: "يبعث الله يوم القيامة العباد، ثم يبعث العلماء، ثم يقول: يا معشر العلماء، إني لم أضع علمي بينكم إلا لعلمي بكم، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم") .

أخرجه الطبراني من حديث أبي موسى بسند ضعيف، قاله العراقي.

قلت: وأخرجه أيضا يعقوب بن سفيان في تاريخه، قاله الحافظ ابن حجر، ولفظ الطبراني في الكبير، عن أبي موسى: "يبعث الله العباد يوم القيامة، ثم يميز العلماء، فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع فيكم علمي إلا وأنا أريد أن لا أعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم".

قلت: أخرجه الطبراني في الكبير والصغير من رواية عمرو بن أبي سلمة التنيسي، وأبو الشيخ في الثواب، وابن عبد البر في العلم، من رواية منبه بن عثمان، كلاهما عن صدقة بن عبد الله، عن طلحة بن زيد، عن موسى بن عبيدة، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي موسى رفعه، وصدقة وطلحة وموسى ضعفاء، وأضعفهم طلحة، وفي ترجمته أخرج ابن عدي هذا الحديث .

ويروى أيضا من حديث أبي أمامة أو واثلة، هكذا بالشك، رواه ابن عدي في ترجمة عثمان بن عبد الرحمن الجمحي، عن مكحول عنه مرفوعا بلفظ: "إذا كان يوم القيامة جمع الله العلماء، فقال: إني لم أستودع علمي فيكم، وأنا أريد أن أعذبكم، ادخلوا الجنة".

ويروى أيضا من حديث ثعلبة بن الحكم، أخرجه الطبراني من رواية سماك بن حرب عنه، رفعه: "يقول الله عز وجل للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لفصل عباده: إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان فيكم ولا أبالي".

ومن شواهده ما أخرجه ابن عدي في الكامل، والبيهقي بسند ضعيف، عن جابر، رفعه: "يبعث الله العالم والعابد، فيقال للعابد: ادخل الجنة، ويقال للعالم: اثبت حتى تشفع للناس بما أحسنت من أدبهم".

وذكر أبو الطيب في البحر الزاخر: حتى إن إسماعيل بن أبي رجاء قال: رأيت محمد بن الحسن الشيباني في المنام فقلت له: ما فعل الله بك ؟ فقال: غفر لي، ثم قال: لو أردت أن أعذبك ما جعلت هذا [ ص: 86 ] العلم في جوفك .

وإنما ختم المصنف بهذا الحديث تفاؤلا بقوله: "فقد غفرت لكم" إشارة إلى أن مآل العالم بالله العامل لله الغفران، وهذا ختام حسن، نسأل الله حسن الخاتمة .

والوارد في فضل العلم والعلماء أحاديث كثيرة، ولو تتبعنا ذكرها لطال علينا الكتاب، ولكن اقتصرنا على تبيين ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى، والله أعلم .

(الآثار) جمع أثر، تقدم تعريفه، وكذا الفرق بينه وبين الخبر في أول الكتاب، أورد فيها -رحمه الله تعالى- أقوال بعض الصحابة ،كعلي، وابن عباس، وابن مسعود، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- وبعض التابعين كأبي الأسود، والحسن، والأحنف، والزهري، ومن بعدهم كابن المبارك والشافعي والزبير بن أبي بكر -رحمهم الله تعالى- ومن بعدهم من أهل الصلاح كفتح الموصلي وغيره من الحكماء .

(قال) أبو الحسن أمير المؤمنين (علي) بن أبي طالب (رضي الله عنه) لتلميذه: ( يا كميل) بالتصغير، هو كميل بن زياد النخعي، من مشاهير أصحاب علي -رضي الله عنه- وكان من أعيان الزهاد، وللسادات الصوفية سند في لبس الخرقة إليه .

أخرج أبو نعيم في الحلية من طريق عاصم بن حميد الحناط، حدثنا ثابت بن أبي صفية أبو حمزة الثمالي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن زياد، قال: "أخذ علي بن أبي طالب بيدي فأخرجني إلى ناحية الحيان، فلما أصحرنا جلس، ثم تنفس، ثم قال: يا كميل بن زياد القلوب أوعية، فخيرها أوعاها" فساق الحديث بطوله .

وفيه: (العلم خير من المال) أشار إلى فضل العلم، ثم ذكر سببه فقال: (العلم يحرسك وأنت تحرس المال) .

قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة في شرح هذا الحديث: يعني أن العلم يحفظ صاحبه ويحميه من موارد الهلكة ومواقع العطب، فإن الإنسان لا يلقي نفسه في عطب وعقله معه ولا يعرضها للهلاك، إلا إذا كان جاهلا بذلك لا علم له به، فهو كمن أكل طعاما مسموما، فالعالم بالسم وضرره يحرسه علمه، ويمتنع به من أكله، والجاهل به يقتله جهله، فهذا مثل حراسة العلم للعالم .

وكذا الطبيب الحاذق يمتنع بعلمه عن كثير مما يجلب له الأمراض، وكذا العالم بمخاوف طريق سلكه يأخذ حذره منها، فيحرسه علمه من الهلاك. وهكذا العالم بالله وبأمره، وبعدوه ومكايده، يحرسه علمه من وساوس الشيطان وخطراته، فعلمه يحرسه منه، وكلما جاء ليأخذه صاح به حرس العلم والإيمان فيرجع خائبا، فهذا السبب الذي من العبد، والله وراء حراسته، فمتى وكله إلى نفسه طرفة عين تخطفه عدوه، وهذا هو التوفيق. اهـ .

(والعلم حاكم والمال محكوم عليه) وهذا هو الوجه الثاني لفضل العلم، والمراد بالعلم هنا علم الباطن، ففي القوت: علم الظاهر حكم، وعلم الباطن حاكم، والحكم موقوف حتى يجيء الحاكم يحكم فيه، وهذه الجملة في الحديث ليست في سياق الحلية، ولا في كتاب ابن القيم، موجودة في سياق القوت .

ثم قال رضي الله عنه: (والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق) هكذا نص القوت، وفي الحلية: العلم يزكو على العمل، والمال تنقصه النفقة .

قال ابن القيم في كتابه المذكور: العالم كلما بذل علمه للناس وأنفق منه تفجرت ينابيعه، وازداد كثرة وقوة ويقينا وظهورا، فيكسب بتعليمه حفظ ما علمه، ويحصل له علم ما لم يكن عنده، وربما تكون المسألة في نفسه غير مكشوفة، فإذا تكلم بها وعلمها اتضحت له، وأضاءت، وانفتح له منها علوم أخر .

ثم قال: ولزكاء العلم طريقان:

أحدهما: تعليمه .

والثاني: العمل به؛
فإن العمل به أيضا ينميه، ويكثره .

وقوله: والمال تنقصه النفقة لا ينافي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقصت صدقة من مال" فإن المال إذا تصدقت منه وأنفقت ذهب ذلك القدر وخلفه غيره، وأما العلم فكالمقتبس من النار لو اقتبس منها العالم لم يذهب منها شيء، بل يزيد .

ثم قال: وفضل العلم على المال يعرف بوجوه سوى الأوجه الثلاثة التي ذكرها أمير المؤمنين:

أحدها: أن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك .

الثاني: أن صاحب المال إذا مات فارقه ماله، والعلم يدخل مع صاحبه قبره .

الثالث: أن المال يحصل للمؤمن والكافر والبر والفاجر، والعلم النافع لا يحصل إلا للمؤمن .

الرابع: أن العالم يحتاج إليه الملوك فمن دونهم، وصاحب المال إنما يحتاج إليه أهل العدم والفاقة .

الخامس: النفس تشرف وتزكو بجمع العلم وتحصيله، ذلك من كمالها وشرفها، والمال لا يزكيها ولا يكملها، ولا يزيدها صفة كمال، بل النفس تنقص وتشح وتبخل بجمعه والحرص عليه، فحرصها على العلم عين كمالها، وحرصها على المال عين نقصها .

السادس: المال يدعوها إلى [ ص: 87 ] الطغيان والفخر، والعلم يدعوها إلى التواضع .

السابع: أن غنى العلم أجل من غنى المال، فإن المال لو ذهب في ليلة أصبح صاحبه فقيرا معدما، وغنى العلم لا يخشى عليه الفقر بل هو في زيادة أبدا، فهو الغنى العالي حقيقة، كما قيل:


غنيت بلا مال عن الناس كلهم فإن الغنى العالي عن الشيء لا به

الثامن: أن المال يستعبد صاحبه ومحبه، فيجعله عبدا، والعلم يستعبده لربه، فهو لا يدعوه إلا إلى عبودية الله وحده .

التاسع: أن حب العلم وطلبه أصل كل طاعة وحب المال وطلبه أصل كل سيئة .

العاشر: قيمة الغني ماله وقيمة العلم علمه، فهذا متقوم بماله، فإذا عدم ماله عدمت قيمته، والعالم لا تزول قيمته، بل هي في تضاعيف دائما .

الحادي عشر: أن جوهر المال من جنس جوهر البدن، وجوهر العلم من جنس جوهر الروح، والفرق بينهما كالفرق بين الروح والجسد .

الثاني عشر: أن العالم إذا عرض عليه بحظه من العلم الدنيا بما فيها لم يرضها عوضا عن علمه، والغني العاقل إذا رأى شرف العالم وكماله به يود لو أن له علمه بغناه أجمع .

الثالث عشر: أن العالم يدعو الناس إلى الله بعلمه وحاله، وجامع المال يدعوهم إلى الدنيا بحاله وقاله .

الرابع عشر: أن غنى المال قد يكون سبب هلاك صاحبه؛ فإنه معشوق النفوس، فإذا رأت من يستأثر بمعشوقها عليها سعت في هلاكه، وأما غنى العلم فسبب حياة الرجل وحياة غيره، والناس إذا رأوا من يستأثر عليهم به أحبوه وخدموه .

الخامس عشر: أن اللذة الحاصلة من غنى المال إن التذ صاحبه بنفس جمعه فوهمية، وأما بإنفاقه في شهواته فبهيمية، وأما لذة العلم فعقلية، وفرق بينهما .

السادس عشر: أن المال إنما يمدح صاحبه بتخليه عنه، والعلم إنما يمدح صاحبه بتحليه به .

السابع عشر: أن طلب الكمال بفناء المال كالجامع بين الضدين، وبيانه أن القدرة صفة كمال، وصفة الكمال محبوبة بالذات، والاستغناء عن الغير أيضا صفة كمال محبوبة بالذات، فإذا مال الرجل بطبعه إلى السخاء فهذا كمال مطلوب للعقلاء محبوب للنفوس، وإذا التفت إلى أن ذلك يقتضي خروج المال من يده وذلك يوجب نقصه واحتياجه إلى الغير وزوال قدرته نفرت نفسه عن فعل المكرمات، وظن أن إمساكه في المال كماله؛ فلأجل ميل الطبع إلى المدح يحب الجود، ولأجل فوت القدرة بسبب إخراجه يحب إبقاء ماله، فبقي القلب في مقام المعارضة بينهما، فمنهم من يترجح عنده جانب البذل ومنهم من يؤثر الإمساك، ومنهم من بلغ به الجهل إلى الجمع بين الوجهين، فيعد بالجود رجاء المدح، وعند حضوره لا يفي، فيقع في أنواع الفضائح. وإذا تأملت أحوال الأغنياء تراهم يشكون ويبكون، وأما غنى العلم فلا يعرض له شيء من ذلك، وتعب جمعه أقل من تعب جمع المال .

الثامن عشر: أن اللذة الحاصلة من المال إنما هي حال تجدده فقط، وأما حال دوامه فإما أن تذهب أو تنقص لمحاولته تحصيل الزيادة دائما، فهو في فقر مستمر لبقاء حرصه، بخلاف غنى العلم فإن لذته في حال بقائه مثلها في حال تجدده بل أزيد .

التاسع عشر: أن غنى المال يستدعي الإحسان إلى الناس، فصاحبه إن سد على نفسه هذا الباب مقتوه، فيتألم قلبه، وإن فتحه فلا بد من الميل إلى بعض وإمساك عن بعض، وهذا يفتح عليه باب العداوة والمذلة من المحروم والمرحوم، فالمحروم يقول: كيف جاد على غيري، والمرحوم دائما يستشرف لنظيره على الدوام، وهذا قد يتعذر غالبا، فيفضي إلى ما ذكرنا؛ ولذا قيل: اتق شر من أحسنت إليه، وصاحب العلم يمكنه بذله للكل من غير نقص فيه .

العشرون: أن غنى المال يبغض الموت للتمتع بماله، وأما العلم فإنه يحبب للعبد لقاء ربه، ويزهده في هذه الدنيا .

الحادي والعشرون: الأغنياء يموتون فيموت ذكرهم، والعلماء بخلاف ذلك، كما قال علي - رضي الله عنه-: (مات خزان المال) أي: جماعه (وهم أحياء) فهم أحياء كأموات (والعلماء باقون ما بقي الدهر) أي: بذكرهم الحسن على الألسنة، وعلمهم الفائض في القلوب، خلفا عن سلف إلى يوم القيامة .

فهم (أعيانهم) أي: ذواتهم (مفقودة) بالموت الظاهر (وأمثالهم) أي: علومهم وعوارفهم (في القلوب) أي: في قلوب العلماء (موجودة) أبدا فهم كأحياء الناس بعد موتهم .

وهذا الحديث يأتي بطوله في آخر الباب السادس من هذا الكتاب، ونلم إن شاء الله تعالى بشرحه ما عدا هذه الكلمات بتوفيق من الله [ ص: 88 ] عز وجل .

(وقال -رضي الله عنه- العالم أفضل من الصائم القائم، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه) هذا القول أخرجه الخطيب في تاريخه، ولفظه: "فإن المؤمن العالم لأعظم أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله تعالى، فإذا مات العالم انثلمت في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة" والثلمة بالضم الخلل في حائط، والخلف محركة من يخلف غيره في الأعمال الصالحة، وبسكون اللام بالعكس .

ومن شواهده ما تقدم في الحديث الثامن عن جابر مرفوعا: "موت العالم ثلمة في الإسلام لا تسد ما اختلف الليل والنهار" وعن ابن عمر: "ما قبض الله عالما إلا كان ثغرة في الإسلام لا تسد".

وقوله: "إلا خلف منه" استثناء حسن لا يخفى موقعه .

(وقال أيضا نظما) قال صاحب القاموس في تركيب "ودق" نقلا عن أبي عثمان المازني أنه لم يصح عندنا أن عليا -رضي الله عنه- تكلم بشيء من الشعر غير هذين البيتين:


تلكم قريش تمناني لتقتلني فلا وربك لا بروا ولا ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم بذات ودقين لا يعفو لها أثر

ونقل الصغاني عن المازني ذلك أيضا، ونقله المرزباني في تاريخ النحاة عن يونس: ما صح عندنا ولا بلغنا أنه قال شعرا إلا هذين البيتين، وصوبه الزمخشري قال شيخنا في حاشيته: ولعل سند ذلك قوي عندهم، وإلا فقد روي عنه شعر كثير مما شاع وذاع، لا سيما وقد قال الشعبي: كان أبو بكر شاعرا، وكان عمر شاعرا، وكان علي أشعر الثلاثة. انظر تمامه في شرحي على القاموس، وقد وجدت قبل هذه الأبيات بيتين وهما قوله:


الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
وإن يكن لهم في أصلهم شرف يفاخرون به فالطين والماء
(ما الفخر إلا لأهل العلم أنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء)
(ووزن كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء)
(ففز بعلم ولا تجهل مواضعه فالناس موتى وأهل العلم أحياء)

وقد أورد الشهاب أحمد بن إدريس بن الصلت القرافي المالكي هذه الأبيات في أول كتابه الذخيرة، ولم يذكر البيت الأخير .

وقوله: "ووزن كل امرئ" هو من جملة حكمه المأثورة: قيمة كل امرئ ما يحسنه .

وفي القوت: وقد روينا عن علي -كرم الله وجهه- فذكر البيتين، ثم قال: فمن كان عالما بعلم معلومه الله تعالى، فمن أفضل منه؟! وأي قيمة تعرف له إذ كل علم قيمته معلومة، ووزن كل عالم علمه. اهـ .

وقوله: "الجاهلون" مأخوذ من الحديث المشهور: "من جهل شيئا عاداه" وقوله: "فالناس موتى" هو مأخوذ من الحديث: "الناس هلكى إلا الصالحون" وقد أخرج الخطيب في كتاب الاقتضاء مثل ذلك عن سهل التستري، كما سيأتي .

وفي الرسالة القشيرية: سمعت محمد بن الحسن يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: قال أبو يزيد البسطامي: كنت ثنتي عشرة سنة حداد نفسي، وخمس سنين مرآة قلبي، وسنة أنظر فيما بينهما، فعملت في قطعه ثنتي عشرة سنة، ثم نظرت فإذا في باطني زنار فعملت في قطعه خمس سنين، أنظر كيف أقطع، فنظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى، فكبرت عليهم أربع تكبيرات .

قال النووي: قوله: "فرأيتهم موتى" في غاية من النفاسة والحسن، وقل أن يوجد في غير كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- كلام يحصل معناه .

(وقال أبو الأسود) : ظالم بن عمرو أو عمرو بن ظالم الديلي، معلم الحسنين، أول من ابتكر علم النحو، وتولى قضاء البصرة، روى عنه ابنه حرب، أخرج حديثه الأربعة، توفي سنة 169 .

(ليس شيء) في الدنيا (أعز) مقاما ورتبة (من العلم) وذلك لأن (الملوك حكام على الناس) بسياستهم الظاهرة (والعلماء حكام على الملوك) يعلمونهم بقوانين السياسة الشرعية، وقد نظم ذلك بعضهم فقال:


إن الأكابر يحكمون على الورى وعلى الأكابر تحكم العلماء

واعلم أن العلم حاكم على ما سواه، ولا يحكم عليه شيء، فكل شيء اختلف وجوده وعدمه، وصحته وفساده، ومنفعته [ ص: 89 ] ومضرته، ورجحانه ونقصانه، وكماله ونقصه، ومدحه وذمه، ومرتبته في الخير، وجودته ورداءته، وقربه وبعده، إلى سائر جهات المعلومات - فإن العلم حاكم على ذلك كله، فإذا حكم العلم انقطع النزاع، ووجب الاتباع، وهو الحاكم على الممالك والسياسات، والأموال والأقلام، فملك لا يتأيد بعلم لا يقوم، وسيف بلا علم مخراق لاعب، وقلم بلا علم حركة عابث، والعلم مسلط حاكم على ذلك كله، ولا يحكم شيء من ذلك على العلم. وسيأتي من قول علي - رضي الله عنه-: العلم حاكم والمال محكوم عليه .

(وقال) ترجمان القرآن عبد الله (بن عباس) رضي الله عنهما، فيما روي عنه بإسناد حسن (خير سليمان بن داود) بن إيشا (صلى الله عليه) وعلى نبينا وسلم (بين العلم والمال والملك فاختار العلم) دونهما؛ لأنه نظر إلى العلم فرآه باقيا إلى الأبد، ورأى المال والملك عارضين زائلين فاختار الباقي على الفاني .

(فأعطي العلم) كما اختار (و) أعطي (المال والملك معه) زيادة على ما اختار؛ وذلك لحسن نظره وإخلاصه -صلى الله عليه وسلم- ولذلك أثنى الله عليه في كتابه فقال: وورث سليمان داود واتفق المفسرون على أن هذه الوراثة هي النبوة والعلم، وهذا هو المناسب لجلالة مقام الأنبياء .

(وسئل) أبو عبد الرحمن عبد الله (بن المبارك) بن واضح الحنظلي مولاهم المروزي شيخ خراسان، روى عن سليمان التميمي وعاصم الأحول والربيع بن أنس، وعنه ابن مهدي وابن معين وابن عرفة، وأبوه تركي مولى تاجر، وأمه خوارزمية، ولد سنة 116 وتوفي بهيت سنة 181 .

قال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا الفضل بن محمد البيهقي، سمعت سعيد بن داود يقول: سألت ابن المبارك (عن الناس) أي: الكمل منهم، ورواية الحلية: من الناس (فقال: العلماء) أي بالله (فقيل: من الملوك) ورواية الحلية: قلت فمن الملوك؟ (فقال: الزهاد) زاد في الحلية: فمن الغوغاء؟ قال: خزيمة وأصحابه (فمن السفلة) ورواية الحلية: قلت: فمن السفلة؟ قال: الذين يعيشون بدينهم .

ثم قال أبو نعيم: حدثنا أبو محمد بن حبان، حدثنا إبراهيم بن محمد بن علي، حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا عابس بن عبد الله، قال: قيل لعبد الله بن المبارك: من أئمة الناس؟ قال: سفيان وذووه، فقيل: من سفلة الناس؟ (فقال: من يأكل بدينه) ورواية الكتاب: الذي يأكل بدينه .

وما رواه الشيخ هو نص أبي طالب في القوت إلا أنه زاد فقال: وقال مرة: الذين يتلبسون ويتطيلسون ويتعرضون للشهادات، والسفلة بكسر السين المهملة ... وفتح الفاء: الأرذال .




الخدمات العلمية