الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
السابع : أن لا يمنع معينه في النظر من الانتقال من دليل إلى دليل ومن إشكال إلى إشكال فهكذا كانت مناظرات السلف ويخرج من كلامه جميع دقائق الجدل المبتدعة فيما له وعليه كقوله هذا لا يلزمني ذكره وهذا يناقض كلامك الأول فلا يقبل منك فإن الرجوع إلى الحق مناقض للباطل ويجب قبوله .

وأنت ترى أن جميع المجالس تنقضي في المدافعات والمجادلات حتى يقيس المستدل على أصل بعلة يظنها فيقال له ما الدليل على أن الحكم في الأصل معلل بهذه العلة فيقول هذا ما ظهر لي فإن ظهر لك ما هو أوضح منه وأولى فاذكره حتى أنظر فيه فيصر المعترض ويقول فيه معان سوى ما ذكرته وقد عرفتها ولا أذكرها إذ لا يلزمني ذكرها ويقول المستدل عليك إيراد ما تدعيه وراء هذا ويصر المعترض على أنه لا يلزمه ويتوخى مجالس المناظرة بهذا الجنس من السؤال وأمثاله ولا يعرف هذا المسكين أن قوله إني أعرفه ولا أذكره إذ لا يلزمني كذب على الشرع فإنه إن كان لا يعرف معناه وإنما يدعيه ليعجز خصمه فهو فاسق كذاب عصى الله تعالى وتعرض لسخطه بدعواه معرفة هو خال عنها وإن كان صادقا فقد فسق بإخفائه ما عرفه من أمر الشرع وقد سأله أخوه المسلم ليفهمه وينظر فيه فإن كان قويا رجع إليه وإن كان ضعيفا أظهر له ضعفه وأخرجه عن ظلمة الجهل إلى نور العلم .

ولا خلاف أن إظهار ما علم من علوم الدين بعد السؤال عنه واجب لازم .

فمعنى قوله لا يلزمني أي : في شرع الجدل الذي أبدعناه بحكم التشهي والرغبة في طريق الاحتيال والمصارعة بالكلام لا يلزمني وإلا فهو لازم بالشرع فإنه بامتناعه عن الذكر إما كاذب وإما فاسق .

فتفحص عن مشاورات الصحابة ومفاوضات السلف رضي الله عنهم هل سمعت فيها ما يضاهي هذا الجنس وهل منع أحد من الانتقال من دليل إلى دليل ومن قياس إلى أثر ، ومن خبر إلى آية بل جميع مناظراتهم من هذا الجنس إذ كانوا يذكرون كل ما يخطر لهم كما يخطر وكانوا ينظرون فيه .

التالي السابق


(السابع: أن لا يمنع معينه في النظر) وهو الذي يبحث معه وهو المعين له في صورة الخصم (من الانتقال من دليل إلى دليل) آخر والدليل عند الأصوليين ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري أي: فإذا أورد دليلا على إقامة مسألة فوجد منقوضا [ ص: 291 ] فانتقل إلى دليل آخر ليس لخصمه أن يمنعه من ذلك (و) كذا ليس له أن يمنعه من الانتقال (من إشكال إلى إشكال) آخر إذ المراد طلب الضالة فبأي وجه طلب لا يمنع فيه (فهكذا كانت مناظرات السلف) الصالحين فمن ذلك مناظرة إسحاق بن راهويه مع الشافعي وأحمد بن حنبل حاضر، قرأت في كتاب الناسخ والمنسوخ للحافظ أبي الحسن بدل بن أبي المعمر التبريزي الشافعي ما نصه: وأخبرني أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي الخطيب أخبرنا يحيى بن عبد الوهاب العبدي أخبرنا محمد بن أحمد الكاتب أخبرنا أبو الشيخ الحافظ قال حكي أن إسحاق بن راهويه ناظر الشافعي وأحمد بن حنبل حاضر في جلود الميتة إذا دبغت فقال الشافعي دباغها طهورها فقال له إسحاق ما الدليل فقال: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: هلا انتفعتم بإهابها؟ فقال له إسحاق: حديث ابن عكيم كتب إلينا النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة لا بإهاب ولا عصب فهذا يشبه أن يكون ناسخا لحديث ميمونة؛ لأنه قبل موته بشهر، فقال الشافعي هذا كتاب وذاك سماع فقال إسحاق إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وقيصر فكانت حجة بينهم عند الله فسكت الشافعي فلما سمع بذلك أحمد ذهب إلى حديث ابن عكيم، وأفتى به ورجع إسحاق إلى حديث الشافعي قلت: وقد حكى الخلال في كتابه أن أحمد توقف في حديث ابن عكيم لما روى تزلزل الرواة فيه وقال بعضهم رجع عنه وطريق الإنصاف فيه أن يقال: إن حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ لو صح ولكنه كثير الاضطراب ثم لا يقاوم بحديث ميمونة في الصحة وقال أبو عبد الرحمن النسوي أصح ما في هذا الباب حديث ميمونة، وروينا عن عباس أنه قيل ليحيى بن معين أيما أعجب إليك من هذين الحديثين فأشار إلى حديث ميمونة. اهـ .

وهذه المناظرة قد أوردها التاج السبكي في طبقاته كما سقناه، وقال في آخر ذلك فانظر إلى سكوت الشافعي ومحبته لظهور الحق وربما يظن فيه قاصر الفهم أن الشافعي انقطع فيها مع إسحاق، ولو تأمل رجوع إسحاق إليه لظهر له الحق وتحقيق هذا أن اعتراض إسحاق فاسد الموضع لا يقابل بغير السكوت، بيانه أن كتاب عبد الله بن عكيم كتاب عارضه سماع، ولم يتيقن أنه مسبوق بالسماع وإنما ظن ذلك ظنا لقرب التاريخ ومجرد هذا الأمر لا ينهض بالنسخ، وأما كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر فلم يعارضها شيء فعضدتها القرائن وساعدتها بالتواتر الدال على أن هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء بالدعوة إلى ما في هذا الكتاب فلاح بهذا أن السكوت من الشافعي تسجيل على إسحاق بأن اعتراضه فاسد الموضع فلم يستحق عنده جوابا وهذا شأن الخارج عن البحث عند الجدليين فإنه لا يقابل بغير السكوت ورب سكوت أبلغ من نطق، ومن ثم رجع إليه إسحاق، فافهم .

(ويخرج من كلامه) الذي يقرره (جميع دقائق الجدل المبتدعة) على طريقه العميدي أو البزدوي (فماله ولقوله) فيما بعد (هذا) القول (لا يلزمني ذكره) في هذا البحث (وهذا) إن تأملت (يناقض كلامك الأول فلا يقبل منك) والانتقال من دليل إلى دليل قد يوجد فيه ذلك (فإن الرجوع إلى الحق أبدا يكون مناقضا للباطل ويجب قبوله) ولا عبرة بمناقضة الكلام الثاني الأول والجدلي لا يسلم ذلك (وأنت ترى أن جميع المجالس) في زمانك (تنقضي) على غير طائل (في المدافعات والمجادلات) مع الخصوم لألفتهم في العناد وضراوة الاعتياد على داعية المخالفة (حتى يقيس المستدل على أصل) من الأصول (بعلة) موجبة له (يظنها فيقال له وما الدليل أن الحكم في الأصل معلل بهذه العلة) .

قال المناوي: العلة عند الأصوليين المؤثر للحكم وقيل المؤثر بذاته بإذن الله تعالى وقيل الباعث عليه والعلة القاصرة عندهم هي التي لا تتعدى محل النص. اهـ .

وقد أورد ما يتعلق بالعلة ومسائلها المصنف في كتاب مستقل سماه شفاء الغليل في بيان مسائل التعليل، وذكر فيه أن العلة القاصرة صحيحة عند الشافعي باطلة عند أبي حنيفة (فيقول هذا ما ظهر لي) في هذا الحكم (فإن ظهر لك) فيه (ما هو أوضح وأولى منه فاذكره) [ ص: 292 ] لي (حتى أنظر فيه) فإن كان حقا تبعته (فيصر) أي: يبقى مصرا (للتعرض) أي: على التعرض وفي نسخة: فيصر المعترض (ويقول المستدل عليك إبراز) إظهار (ما تدعيه) وفي نسخة: ادعيته (وراء هذا ويصر المعترض على أنه لا يلزمه) إبرازه (ويترجى) وفي نسخة: يتوخى وفي أخرى (فتنقضي مجالس المناظرة بهذا الجنس من السؤال وأمثاله) ويتبجح بذلك بين أقرانه المناضلين (ولا يعرف هذا المسكين) في عقله وفهمه (أن قوله إني أعرف ولا أذكره أو لا يلزمني) ذكره (كذب) محض (على الشرع فإنه إن كان لا يعرف معنى) حقيقة (وإنما يدعيه) ادعاء (ليعجز خصمه) ويسكته (فهو) حينئذ (فاسق) في فعله (عصى الله تعالى وتعرض لسخطه) ومقته (بدعواه معرفة) معنى (هو خال) منها وعار (عنها وإن كان صادقا) فيما يقول (فقد فسق بإخفائه ما عرفه من أمر الشرع) فكيف يكتم علما (وقد سأله أخوه المسلم) استشفاء لغليله (ليفهم وينظر) نظر تدبر (فإن كان قويا) راجحا (رجع إليه وإن كان ضعيفا) مرجوحا (أظهر له ضعفه) وبين له مرجوحيته (وأخرجه عن ظلمة الجهل) والحيرة (إلى) مقام (نور العلم) فكان مرشدا له لا محالة (ولا خلاف أن إظهار ما علم من علم الدين) وتعليمه (بعد السؤال) والبحث عنه (واجب لازم) وقد ورد في كتمان العلم للسائلين وذمه أحاديث تقدم ذكرها في أول الكتاب (فمعنى قوله ولا يلزمني أي: في شرع الجدل الذي أبدعناه) وجعلنا له أركانا وقواعد (بحكم التشهي) النفساني (والرغبة) المردية إلى مهاوي الضلال (في طريق الاحتيال) والمكر (والمصارعة بالكلام) أي: المواثبة به (لا يلزمني) ذكره (وإلا فهو لازم في الشرع) المحمدي (فإنه بامتناعه عن الذكر إما كاذب) في قوله (وإما فاسق) بفعله (فتفحص) رحمك الله ( عن مشاورات الصحابة ومفاوضات السلف) رحمهم الله تعالى (هل سمعت فيها ما يضاهي) أي يشبه (هذا الجنس) من المجادلات (وهل منع أحد من الانتقال من دليل إلى دليل) آخر (ومن قياس) عقلي (إلى أثر نبوي، ومن خبر إلى آية) كلا والله (بل جميع مناظراتهم من هذا الجنس إذ كانوا يذكرون) ما عندهم (كلما يخطر لهم) في أفهامهم (كما يخطر وكانوا ينظرون فيه) نظر تدبر فإن رأوا حقا رجعوا إليه وانظر رجوع إسحاق بن راهويه إلى قول الشافعي بعد مناظرته في إهاب الميتة المدبوغة واستدلاله بحديث ابن عكيم كما تقدم له ظهر له الحق فيه وتصمم أحمد فلم يرجع ثم لما ظهر له ترجيح حديث ميمونة رجع إليه كما نقل عنه .




الخدمات العلمية