الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولم ينصف من أنكر هذا ورد العقل إلى مجرد العلوم الضرورية فإن الغافل عن العلوم والنائم يسميان عاقلين ، باعتبار وجود هذه الغريزة فيهما مع فقد العلوم وكما أن الحياة غريزة بها يتهيأ الجسم للحركات الاختيارية والإدراكات الحسية فكذلك العقل غريزة بها تتهيأ بعض الحيوانات للعلوم النظرية ، ولو جاز أن يسوى بين الإنسان والحمار في الغريزة والإدراكات الحسية .

فيقال : لا فرق بينهما إلا أن الله تعالى بحكم إجراء العادة ، يخلق في الإنسان علوما وليس يخلقها في الحمار والبهائم لجاز أن يسوي بين الحمار والجماد في الحياة ويقال : لا فرق ألا إن الله عز وجل يخلق في الحمار حركات مخصوصة بحكم إجراء العادة .

فإنه لو قدر الحمار جمادا ميتا لوجب القول بأن كل حركة تشاهد منه فالله سبحانه وتعالى قادر على خلقها فيه على الترتيب المشاهد .

وكما وجب أن يقال : لم يكن مفارقته للجماد في الحركات إلا بغريزة اختصت به عبر عنها بالحياة ، فكذا مفارقة الإنسان البهيمة في إدراك العلوم النظرية بغريزة يعبر عنها بالعقل وهو كالمرآة التي تفارق غيرها من الأجسام في حكاية الصور والألوان ، بصفة اختصت بها وهي الصقالة .

وكذلك العين تفارق الجبهة في صفات وهيئات بها استعدت للرؤية فنسبة هذه الغريزة إلى العلوم كنسبة العين إلى الرؤية ونسبة القرآن والشرع إلى هذه الغريزة في سياقها إلى انكشاف العلوم لها كنسبة نور الشمس إلى البصر ، فهكذا ينبغي أن تفهم هذه الغريزة .

التالي السابق


وإلى هذا الكلام الأخير نظر المصنف فقال: (ولم يتصف من أنكر هذا) أي مقالة المحاسبي، (ورد العقل إلى مجرد العلوم الضرورية) ، وقال ابن السبكي في الطبقات: واعلم أنه ليس في ارتضاء مذهب الحارث واعتقاده ما ينتقد ولا يلزمه قوله بالطبائع، ولا شيء من مقالات الفلاسفة، كما ظنه بعض شراح البرهان، وقول إمام الحرمين أنه أراد معرفة الله ممنوع، فقد قدمنا عن الحارث بالإسناد قوله: نور الغريزة يقوى ويزيد بالتقوى، نعم الحارث لا يريد بكونه نورا ما تدعيه الفلاسفة اهـ .

(فإن الغافل عن العلوم والنائم يسميان عاقلين، باعتبار وجود هذه الغريزة فيهما) ، واتصاف كل منهما بها (مع فقد العلوم) الضرورية (وكما أن الحياة) وهي صفة توجب للمتصف بها العلم والقدرة (غريزية بها يتهيأ) ويستعد (بعض الحيوانات للعلوم النظرية، ولو جاز أن يسوي بين الإنسان والحمار [ ص: 460 ] في الغريزة ويقال: لا فرق إلا أن الله تعالى بحكم إجراء العادة، يخلق في الإنسان علوما وليس يخلقها في الحمار والبهائم لجاز أن يسوي بين الحمار والجماد في الحياة) ; نظرا إلى القوة النامية، (ويقال: لا فرق إلا أن الله عز وجل يخلق في الحمار حركات مخصوصة بحكم إجراء العادة، فإنه لو قدر الحمار جمادا ميتا لوجب القول بأن كل حركة تشاهد منه فالله سبحانه وتعالى قادر على خلقها فيه على الترتيب المشاهد، وكما وجب أن يقال: لم يكن مفارقته للجماد في الحركة إلا بغريزة اختصت به عبر عنها بالحياة، فكذا مفارقة الإنسان البهيمة في إدراك العلوم النظرية بغريزة يعبر عنها بالعقل) ، فثبت بما ذكر تصحيح قول المحاسبي (وهو) أي العقل (كالمرآة) المجلوة، (التي تفارق غيرها من الأجسام في حكاية الصور والألوان،) كما هي (بصفة اختصت بها وهي الصقالة) والجلاء (وكذلك العين تفارق الجبهة) ، وهي ما بين الجبينين (في صفات وهيئات بها استعدت) وتهيأت (للرؤية) ترى بها المرئيات على اختلاف أنواعها وأجناسها، (ونسبة هذه الغريزة إلى العلوم نسبة العين إلى الرؤية ونسبة القرآن والشرع إلى هذه الغريزة في سياقها إلى انكشاف العلوم لها) بالظهور التام (كنسبة نور الشمس إلى البصر، فهكذا ينبغي أن تفهم هذه الغريزة) ولا عليك ممن أنكرها .

وقال الراغب في الذريعة والمصنف: والفخر في كتاب أسرار التنزيل: العقل عقلان غريزي وهو القوة المتهيئة لقبول العلوم ووجوده في الطفل كوجود النخل في النواة، والسنبلة في الحبة اهـ، وسيأتي ذكر القسم الثاني قريبا .




الخدمات العلمية