الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومما أنكروا عليه أيضا: قوله ضاع لبعض الصوفية ولد صغير فقيل له: لو سألت الله تعالى أن يرده عليك، فقال: اعتراضي عليه أشد من ذهاب ولدي.

قال ابن القيم: لقد طال تعجبي من أبي حامد هذا، كيف يحكي هذه الحكايات على وجه الاستحسان لها والرضا عن أصحابها، ويعد الدعاء والسؤال لله تعالى اعتراضا، لقد طوى هذا بساط الشريعة طيا؛ إذ الدعاء مشروع بالإجماع.

والجواب: إن مراد الغزالي أن ذلك فيه معنى الاعتراض لا أنه اعتراض، وإيضاحه أن الاعتراض يرجع إلى تمني غير ما سبق في علم الله -عز وجل- وقد سبق في علمه تعالى ضياع ولد هذا الصوفي، فرضي بقضاء ربه، ولم يطلب رجوع ولده؛ ليتساوى وجود ولده وعدمه عنده في أي مكان كان، ولا فرق بين كونه في داره أو أقصى الأرض؛ لأنه عبد لله تعالى لا عبد لولده فافهمه .

ومما أنكروا عليه أيضا قوله في الإحياء: كان بعض الشيوخ في بدايته يكسل عن قيام الليل، فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل لتصير نفسه تجيبه إلى قيام الليل اختيارا، وكذلك عالج بعضهم حب المال فباع جميع أمتعته، ورمى ثمنها في البحر؛ خوفا من أن يقع في حب تزكية الناس له ووصفه بالجود أو الرياء في فعلها المذكور؛ ولذلك كان بعضهم يستأجر من يشتمه على رؤوس الأشهاد؛ ليعود نفسه الحلم، وكان آخر يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الموج؛ ليعود نفسه الشجاعة، وكان بعضهم إذا خاف النوم يقف على رأس حائط عال حتى لا يأخذه النوم .

قال المنكر: أعجب من جميع هؤلاء عندي أبو حامد كيف حكى هذه الأشياء ولم ينكرها؟! ولكن كيف ينكرها وقد أتى بها في معرض التعليم، ولم يزنها بميزان الشريعة؟!

وقبل أن يورد هذه الحكايات قال: ينبغي للشيخ أن ينظر حال المبتدي فإن رأى معه مالا حاضرا زائدا عن حاجته أخذه فصرفه في الخير، وفرغ قلب المريد منه حتى لا يلتفت إليه، وإن رأى الكبر قد غلب عليه أمره أن يخرج إلى السوق للحرفة، والسؤال بالإلحاح، يكلفه المواظبة على ذلك، وإن رأى الغالب عليه البطالة استخدمه في تعهد الأخلية وتنظيفها من القذر، وملازمة المطبخ، وكنس القاذورات، ومواضع الدخان، وإن رأى شره حب الطعام غالبا عليه ألزمه الصوم، وإن رآه عزبا ولم تنكسر شهوته بالصوم أمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز، وليلة على الخبز دون الماء، ويمنعه اللحم رأسا .

قال ابن القيم: وإني لأتعجب من أبي حامد هذا كيف يأمر بهذه الأمور التي تخالف ظاهر الشريعة؟! وكيف يحل لأحد أن يقوم على رأسه طول الليل؟! وكيف يحل رمي المال في البحر؟! وكيف يحل سب المسلم بلا سبب؟! وهل يجوز لمسلم أن يستأجر من يشتمه؟! وهل يجوز لأحد أن يقوم على رأس جدار عال ويعرض نفسه للوقوع بالنوم فتنكسر رقبته فيموت؟! فما أرخص ما باع أبو حامد الفقه بالتصوف الذي يراه!

والجواب: إن أهل الطريق في جميع ذلك مجتهدون، لا سيما في ترجيح الأعمال بعضها على بعض، فكل ما أدى اجتهادهم إلى أنه أرضى لله تعالى أو فيه [ ص: 38 ] تقريب للطريق على المريدين قدموه، على أنه يحتمل أن الشيخ كان ممن أقدره الله تعالى على جمع ذلك المال الذي أمر مريده برميه في البحر، وكذلك يحتمل أن الشيخ ما أمره بالوقوف على رأسه، أو على رأس جدار إلا بعد أن علم قدرته على ذلك، ولو بإدمان سابق. والله أعلم .

ومما أنكروا عليه أيضا حكايته عن أبي تراب النخشبي أنه قال لمريد له: لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من رؤية الله -عز وجل- سبعين مرة.

قال ابن القيم: هذا الكلام فوق الجنون بدرجات .

والجواب: لا ينكر تقريره أبا تراب على مقالته؛ لأن مراده أن ذلك المريد يجهل مقام الأدب والمعرفة لله تعالى، فهو لا ينتفع برؤيته، ولا يصح أن يمنحه الحق تعالى بشيء من الآداب، بخلاف رؤية أبي يزيد فإنها تعلمه طريق الأدب مع الله تعالى، ومع خلقه، فكان أنفع له من رؤية ربه، وهو لا يعرف أنه هو، وهذا شأن أكثر الناس اليوم، فلا يصح لهم الأخذ عن الله تعالى لكثرة حجبهم التي بينهم وبينه، فهذا معنى قول أبي تراب، وليس مراده أن رؤية أبي يزيد أفضل من رؤية الله تعالى لمن يعرفه، فافهمه. والله أعلم .

ومما أنكروا عليه أيضا في حكايته عن ابن الكريتي شيخ الجنيد أنه قال: نزلت في محلة، فعرفت فيها بالصلاح، فشت قلبي، ونفر مني، فدخلت الحمام، وسرقت ثيابا فاخرة، ولبستها، ثم لبست مرقعتي فوقها، وخرجت فجعلت أمشي قليلا قليلا، فلحقوني وأخذوا مني الثياب وصفعوني، وسموني لص الحمام، فسكنت نفسي .

قال الغزالي: فهكذا كانوا يروضون نفوسهم، حتى يخلصهم الله تعالى من فتنة النظر إلى الخلق ومراعاتهم لهم، ثم أهل النظر إلى النفس وأرباب الأحوال ربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما رأوا صلاح قلوبهم بذلك، ثم يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير، كما فعل هذا في الحمام .

قال ابن القيم: سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء! فليته لم يحك فيه مثل هذه الأمور، التي لا يحل لأحد السكوت عليها! والعجب أنه يحكي هذه الأمور ويستحسنها ويسمي أصحابها أرباب الأحوال، وأي حالة أقبح من حال من خالف الشريعة، ورأى المصلحة في النهي عن اتباعها؟! وكيف يجوز أن يطلب صلاح القلوب بفعل المعاصي؟! ثم كيف يجوز التصرف في مال الغير بغير إذنه؛ فإن في نص الإمام أحمد والشافعي أن من سرق من الحمام ثيابا عليها حافظ وجب قطع يده، ثم أين أرباب الأحوال أولا حتى يعمل العبد على وفاقهم من الرياضة؟! كلا والله، إنها شريعة لو رام مثل أبي بكر -رضي الله عنه- أن يخرج عنها لما وجد لذلك مساغا، ولو أنه خالفها وعمل برأيه لكان عمله مردودا عليه؛ إذ الحق تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان على فوق الشريعة المطهرة .

قال: وتعجبي من هذا الفقيه الذي استلب التصوف علمه وعقله أكثر من تعجبي من هذا المستلب للثياب من الحمام! فيا ليت أبا حامد بقي مع قواعد الفقه واستغنى عن هذه الهذايانات!

والجواب عن هذا كله كما سبق قريبا أن القوم مجتهدون في أحكام الطريق، فكل ما رأوه أصلح لقلوبهم عملوا به، وذلك من باب تعارض المفسدتين، فيجب ارتكاب الأخف منهما، وأما ما يترتب على ذلك الفعل شرعا فقد جربوا حمايتهم من وقوع العقوبة لهم بسببه، بل تعرفهم الناس بعد ذلك ويقبلون أيديهم، فاعلم ذلك .

قلت: وقد نقل الغزالي مثل هذه الحكاية التي جرت في الحمام لابن الكريتي عن إبراهيم الخواص، وأنكر عليه ابن القيم كإنكاره من الأول، وتعجب من أبي حامد، وقال: فيا ليته لم يتصوف .

والجواب واحد، وأن للفقير أن يداري قلبه ببعض المحرمات ليدفع عنه محرما آخر، هو أشد منه، قياسا على مداواة الأجسام والأمراض، إنما تداوى بأضداد عللها، وأين هلاك الأبدان من هلاك القلوب؟!

التالي السابق


الخدمات العلمية