الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وسخاوة الشافعي رحمه الله أشهر من أن تحكى ورأس الزهد السخاء لأن من أحب شيئا أمسكه ولم يفارق المال إلا من صغرت الدنيا في عينه وهو معنى الزهد .

ويدل على قوة زهده وشدة خوفه من الله تعالى واشتغال همته بالآخرة ، ما روي أنه روى سفيان بن عيينة حديثا في الرقائق فغشي على الشافعي فقيل له قد مات فقال إن مات فقد مات أفضل زمانه .

وما روى عبد الله بن محمد البلوي قال : كنت أنا وعمر بن نباتة جلوسا نتذاكر العباد والزهاد فقال لي عمر : ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه ، خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد إلى الصفا وكان الحارث تلميذ الصالح المري فافتتح يقرأ وكان حسن الصوت فقرأ هذه الآية عليه هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، فرأيت الشافعي رحمه الله وقد تغير لونه واقشعر جلده واضطرب اضطرابا شديدا وخر مغشيا عليه فلما أفاق جعل يقول : أعوذ بك من مقام الكاذبين وإعراض الغافلين اللهم لك خضعت قلوب العارفين وذلت لك رقاب المشتاقين إلهي هب لي جودك وجللني بسترك واعف عن تقصيري بكرم وجهك .

قال ثم مشى وانصرفنا فلما دخلت بغداد وكان هو بالعراق فقعدت على الشط أتوضأ للصلاة إذ مر بي رجل فقال لي : يا غلام ، أحسن وضوءك أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة فالتفت فإذا أنا برجل يتبعه جماعة فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفو أثره فالتفت إلي فقال : هل لك من حاجة فقلت ؟ : نعم تعلمني مما علمك الله شيئا فقال لي اعلم أن من صدق الله نجا ومن أشفق على دينه سلم من الردى ومن زهد في الدنيا قرت عيناه مما يراه من ثواب الله تعالى غدا أفلا أزيدك ؟ قلت : نعم ، قال : من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان : من أمر بالمعروف وائتمر ونهى عن المنكر وانتهى وحافظ على حدود الله تعالى ألا أزيدك ؟ قلت بلى فقال : كن في الدنيا زاهدا وفي الآخرة راغبا واصدق الله تعالى في جميع أمورك تنج مع الناجين ثم مضى فسألت من هذا ؟ فقالوا : هو الشافعي فانظر إلى سقوطه مغشيا عليه ثم إلى وعظه كيف يدل ذلك على زهده وغاية خوفه ولا يحصل هذا الخوف والزهد إلا من معرفة الله عز وجل فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء ولم يستفد الشافعي رحمه الله هذا الخوف والزهد من علم كتاب السلم والإجارة وسائر كتب الفقه بل هو من علوم الآخرة المستخرجة من القرآن والأخبار إذ حكم الأولين والآخرين مودعة فيهما .

وأما كونه عالما بأسرار القلب وعلوم الآخرة فتعرفه من الحكم المأثورة عنه روي أنه سئل عن الرياء فقال على البديهة : الرياء فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم .

التالي السابق


(وسخاوة الشافعي أكثر من أن تحصى) وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال كان الشافعي أسخى الناس بما يجد، وقال داود بن علي الظاهري: حدثنا أبو ثور، قال: كان الشافعي من أجود الناس، وأسمحهم كفا، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي سمعت عمرو بن سواد الدجى قال: كان الشافعي أسخى الناس على الدينار والدرهم، والطعام، وقال محمد بن عبيد الله بن محمد، أخبرنا أبو عمر محمد بن الحسين البسطامي، أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود، سمعت المزني، سمعت الشافعي يقول: السخاء والكرم يغطيان عيوب الدنيا والآخرة بعد أن لا يلحقها بدعة (ورأس الزهد السخاء) بما ملكت يداك من مال وطعام وملبوس (لأن من أحب شيئا أمسكه ولا يفارقه فلا يفرق المال إلا من صغرت الدنيا في عينه وهو معنى الزهد) كما سيأتي بيان ذلك في باب الزهد (و) مما (يدل على قوة زهده) عن الدنيا (وشدة خوفه من الله تعالى واشتغال همه بالآخرة، ما روي أنه روى سفيان بن عيينة) هو أبو محمد الهلالي مولاهم الكوفي، أحد الأعلام، روى عن الزهري، وعمرو بن دينار وعنه أحمد وعلي الزعفراني ثقة ثبت حافظ إمام مات في رجب سنة ثمان وتسعين ومائة (حديثا من الرقائق) وروى أبو سعيد بن زياد، حدثنا تميم بن عبد الله أبو محمد سمعت سويد بن سعيد يقول: كنا عند سفيان بن عيينة بمكة فجاء الشافعي فسلم وجلس فروى ابن عيينة حديثا رقيقا (فغشي على الشافعي فقيل له) يا أبا محمد (قد مات) ابن إدريس (فقال) ابن عيينة (إن مات) ابن إدريس (فقد مات أفضل أهل زمانه) هكذا رواه الحافظ ابن كثير (وما روى عبد الله بن محمد البلوي) في كتابه رحلة الشافعي قال ابن كثير هو كذاب وضاع اختلق [ ص: 196 ] في كتابه أشياء لا أصل لها فمن ذلك مناظرة الشافعي أبا يوسف بحضرة الرشيد وتأليب أبي يوسف عليه، فهو مكذوب باطل اختلقه هذا البلوي قبحه الله تعالى، فإن الشافعي قدم بغداد أول قدمته سنة أربع وثمانين ومائة بعد موت أبي يوسف بسنتين فلم يدركه ولا رآه، وأبو يوسف كان أجل قدرا وأعلى منزلة، مما نسب إليه، وإنما أدرك في هذه القدمة محمد بن الحسن الشيباني، فأنزله في داره وأجرى إليه نفقته، وأحسن إليه بالكتب، وغير ذلك، وكان يتناظران فيما بينهما كما جرت عادة الفقهاء هذا على مذهب أهل الحجاز، وهذا على مذهب أهل العراق، وكلاهما بحر لا يكدره الدلاء. اهـ .

وقال الذهبي في الميزان في ترجمة أحمد بن موسى النجار ما لفظه: حيوان وحشي، قال: قال محمد بن سهل الأموي، حدثنا عبد الله بن محمد البلوي، فذكر محنة مكذوبة للشافعي فضيحة لمن تدبرها، وذكر في ترجمة محمد بن عبد الله بن محمد البلوي أنه روى عن عمارة بن يزيد بخبر منكر ذكره ابن الجوزي، وكذبه (قال: كنت أنا وعمر بن نباتة) لم أعرف من حاله شيئا ولا وجدت له ذكرا في طبقة أصحاب الشافعي ولا غيرها وإن كان هو والد أبي نصر بن عبد العزيز فبعيد; لأن هذا متأخر الوفاة في سنة 405 فليتحقق من حاله .

(جلوسا نتذاكر العباد والزهاد فقال لي عمر: ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي، خرجت أنا وهو والحارث بن أسد) هو أبو عبد الله المحاسبي المتقدم ذكره، وقد ذكره السمعاني في الطبقة الأولى من أصحاب الشافعي ممن صحبه وقد رده ابن الصلاح فقال: وصحبته للشافعي لم أر أحدا ذكرها سواه، وليس يعتمد على قول السمعاني فيما تفرد به، والقرائن شاهدة بانتفائها. اهـ .

قال ابن السبكي: إن كان السمعاني صرح بأنه صحب الشافعي فالاعتراض عليه لائح، وإلا فقد يكون أراد بالطبقة الأولى ممن عاصر الشافعي وكان في طبقة الآخذ عنه وقد ذكره في الطبقة الأولى أيضا أبو عاصم العباداني، وقال كان ممن عاصر الشافعي واختار مذهبه ولم يقل كان ممن صحبه فلعل هذا القدر مراد السمعاني. اهـ .

وقد تقدم أن وفاته ببغداد سنة 243 (إلى الصفا) وهو الجبل المطل على الحرم (وكان الحارث تلميذ الصالح المري) هو الصالح بن بشير بن وادع بن أبي الأقعس أبو بشر القاضي المعروف بالمري، روى عن الحسن وابن سيرين، وقتادة وغيرهم وعنه سيار بن حاتم، ويونس بن محمد وعفان وغيرهم، اختلف كلام ابن معين فيه، وقال ابن عدي هو رجل قاص حسن الصوت وعامة أحاديثه مناكير، وعندي مع هذا أنه لا يتعمد الكذب بل يغلط شيئا، نقله الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب، وفي الكاشف للذهبي صالح بن بشير أبو بشر المري الواعظ الزاهد روى عن الحسن ومحمد وعنه يونس المؤدب ويحيى بن يحيى وخالد بن خراش ضعفوه، وقال أبو داود لا يكتب حديثه توفي سنة 178 اهـ، وذكره العراقي في كتابه الباعث على الخلاص من حوادث القصاص في عدد يزيد الرقاشي والحارث بن أسد من المشهورين بالصلاح، والزهد المعروفين بالضعف في رواية الحديث، (فافتتح) أي: الحارث (يقرأ) حزبا من القرآن (وكان حسن الصوت فقرأ) قوله تعالى: ( هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ، فرأيت الشافعي قد تغير لونه واقشعر جلده فاضطرب اضطرابا شديدا وخر مغشيا عليه) خوفا من هول الموقف (فلما أفاق قال: أعوذ بالله من مقام الكذابين) بين يديك (وإعراض الغافلين) عنك (اللهم لك خضعت قلوب العارفين و) لك (ذلت هيبة المشتاقين) وفي نسخة: رقاب المشتاقين (إلهي هب لي جودك وجللني) أي: غطني (بسترك واعف عن تقصيري بكرم وجهك قال) أي: عمر بن نباتة (ثم قمنا) من المجلس (فانصرفنا) من مكة (فلما دخلت بغداد وكان هو) أي: الشافعي بالعراق إقليم معروف يذكر ويؤنث وهما عراقان عراق العرب وعراق العجم، وبغداد والكوفة من عراق العرب (فقعدت على الشط) أي: شط دجلة (أتهيأ للصلاة) بالوضوء (إذ مر بي رجل فقال: يا غلام، أحسن وضوءك أحسن الله إليك في الدنيا والآخرة فالتفت فإذا أنا برجل تتبعه جماعة فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفو) أي أتتبع (أثره) خلفه (فالتفت إلي فقال: هل من حاجة؟ قلت: نعم تعلمني مما علمك الله شيئا) أراد النصيحة [ ص: 197 ] (فقال لي اعلم أن من صدق الله) أي: في معاملاته (نجا) أي: من عذابه (ومن أشفق) أي: خاف ( على دينه سلم من الردى) أي: الهلاك (ومن زهد في الدنيا) بالإعراض عن لذاتها (قرت عيناه مما يرى من ثواب الله غدا) ثم قال لما رأى من حرصه على الملتقى (أفلا أزيدك؟ قلت: نعم، قال: من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان: من أمر) غيره (بالمعروف) هو كل ما عرف في الشرع (وائتمر) بنفسه (ونهى) غيره ( عن المنكر) هو كل ما أنكره الشرع (وانتهى) بنفسه (وحافظ على حدود الله تعالى) فلم يتجاوزها ثم قال (ألا أزيدك؟ قلت: نعم، قال: كن في الدنيا زاهدا) أي مقللا منها (وفي الآخرة راغبا واصدق الله في جميع أمورك) سرا وعلانية (تنج مع الناجين ثم مضى فسألت من هذا؟ فقالوا: هو الشافعي) وفي هذه الحكاية نظر من وجوه، أما أولا: اجتماع الحارث بالشافعي وقد تقدم أنه لم يثبت، وثانيا: كون الحارث تلميذا للمري وسنة وفاة المري كان الحارث لم يولد أو كان رضيعا وثالثا: قوله: فسألت من هذا؟ بعد قوله أولا: ما رأيت أورع ولا أفصح إلخ، عند التأمل يظهر فيها غير ما ذكرت، والآفة فيها من البلوي فإنه اختلقها، وفي الصحيح من الأقوال الدالة على زهد الشافعي وخشيته مما نقله غير واحد من أصحابه مقنع عن هذا الذي اختلقه البلوي (فانظر إلى سقوطه) على الأرض (مغشيا عليه ثم) قال (انظر إلى وعظه) لعمر (كيف يدل ذلك على زهده وغاية خوفه) من الله تعالى (ولا يحصل هذا الخوف والزهد إلا من معرفة الله تعالى فإنما يخشى الله من عباده العلماء) .

وكان الشافعي أخشى الناس لأنه كان أعلم الناس ومن كان أعلم الناس كان أخشى الناس، وهذا مركب من الضرب الأول من الشكل الأول والمقدمة الصغرى ينبغي أن تكون محققة باتفاق أو غيره، فكان كونه أعلم الناس أمر مفروغ منه حتى استنتج منه كان أخشى الناس (ولم يستفد الشافعي هذا الخوف) والخشية والزهد (من علم كتاب السلم والإجارة وسائر كتب الفقه بل) استفاده (من علوم الآخرة المستخرجة من القرآن والأخبار إذ حكم الأولين والآخرين مودعة فيهما) أي: في الكتاب والسنة، علمها من علمها وجهلها من جهلها (وأما كونه عالما بأسرار القلب) وعجائبه (وعلوم الآخرة فتعرفه من الحكم المأثورة عنه) مما جمعها غير واحد كالبيهقي والخطيب والحاكم، وقد أفردت بتأليف (روي عنه أنه سئل عن الرياء) أي: عن حقيقته (فقال) في الجواب (على البديهة: الرياء فتنة عقدها الهوى) أي: هوى النفس، وميلها إلى الشهوات (حيال) بالكسر أي: تجاه (أبصار قلوب العلماء) أثبت للقلوب أبصارا على سبيل المجاز (فنظروا إليها) أي: تلك الفتنة (بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم) أي: أفسدت وأهدرت، ويروى عنه أيضا أنه قال: لا يعرف الرياء إلا مخلص، قال النووي: أي: لا يتمكن في معرفة حقيقته والاطلاع على غوامض خفياته ودقائقه إلا من أراد الإخلاص فإنه يجتهد أزمانا متطاولة في البحث والفكر، والتفتيش عليه حتى يعرفه أو يعرف بعضه، ولا يحصل هذا لكل أحد، وإنما يحصل للخواص ومن يزعم من آحاد الناس أنه يعرف الرياء فهو جاهل بحقيقته .




الخدمات العلمية