الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومنها ما يضر وإن كان صدقا ومن فتح ذلك الباب على نفسه اختلط عليه الصدق بالكذب والنافع بالضار فمن هذا نهي عنه ولذلك قال أحمد بن حنبل رحمه الله ما أحوج الناس إلى قاص صادق .

فإن كانت القصة من قصص الأنبياء عليهم السلام فيما يتعلق بأمور دينهم وكان القاص صادقا صحيح الرواية فلست أرى بها بأسا فليحذر الكذب وحكايات أحوال تومئ إلى هفوات أو مساهلات يقصر فهم العوام عن درك معانيها أو عن كونها هفوة نادرة مردفة بتفكيرات متداركة بحسنات تغطي عليها فإن العامي يعتصم بذلك في مساهلاته وهفواته ويمهد لنفسه عذرا فيه ويحتج بأنه حكي كيت وكيت عن بعض المشايخ وبعض الأكابر فكلنا بصدد المعاصي فلا غرو إن عصيت الله تعالى فقد عصاه من هو أكبر مني ويفيده ذلك جراءة على الله تعالى من حيث لا يدري فبعد الاحتراز عن هذين المحذورين فلا بأس به وعند ذلك يرجع إلى القصص المحمودة وإلى ما يشتمل عليه القرآن ويصح في الكتب الصحيحة من الأخبار .

التالي السابق


(ومنها ما يضر سماعه وإن كان صادقا) أخرج أحمد في الزهد عن أبي المليح قال ذكر ميمون بن مهران القصاص فقال لا يخطئ للقاص ثلاثا: أما أن يسمن قوله بما يهزل دينه وإما عجب بنفسه وإما أن يأمر بما لا يفعل، فلهذا قال - صلى الله عليه وسلم- القاص ينتظر المقت (ومن فتح ذلك الباب على نفسه اختلط عليه الصدق بالكذب والنافع بالضار فمن) أجل (هذا نهى عنه) وفي بعض النسخ: فعن هذا نهى (ولذلك قال أحمد بن حنبل -رحمه الله- ما أحوج الناس إلى قاص صادق) ويروى صدوق لأنهم يذكرون الميزان وعذاب القبر، قيل له أنت كنت تحضر مجالسهم قال: لا، هكذا أورده صاحب القوت وقد تقدم قريبا من رواية الطرطوشي قال صاحب القوت، وأخبرنا عن محمد بن أبي هارون أن إسحاق بن حنبل حدثه قال صليت مع أحمد بن حنبل صلاة العيد فإذا قاص يقص يلعن المبتدعة ويذكر السنة فلما قضينا الصلاة وصرنا ببعض الطريق ذكر أبو عبد الله القاص فقال: ما أنفعهم للعامة وإن كان عامة ما يحدثونه كذبا. اهـ .

(فإن كانت القصة) التي يقصها القاص (من قصص الأنبياء) عليهم السلام (فيما يتعلق بأمور دينهم وكان القاص صادقا) فيما ينقله (صحيح الرواية) غير مخلطها من طرق صحيحة (فلست أرى به بأسا) وليس بمذموم في نفسه؛ لأن في ذلك اقتداء بصواب لمتبع (فليحذر) القاص (الكذب) فيما ينقله عن الشيوخ وليحذر (حكاية أحوال تومئ) أن تشير وفي نسخة: تؤدي (إلى هفوات) أي: سقطات (أو مساهلات يقصر فهم العوام عن درك معانيها) فيفسد قلوبهم بذلك (و) يقصر فهمهم (عن) درك (كونها هفوة نادرة) الوقوع (ومردفة) أي: متبعة (بتكفيرات) أي بما يكفرها (ومتداركة بحسنات تغطي عليها) هذا هو المناسب في حضرات السلف (فإن العامي) الجاهل حين يسمع (يعتصم بذلك في مساهلاته وهفواته) مع نفسه (ويمهد لنفسه عذرا فيه) فيقع في الخطأ (ويحتج بأنه حكي كيت وكيت عن المشايخ وبعض الأكابر وكلنا بصدد المعاصي) ومن الذي عصم منا (فلا غرو) أي لا عجب (إن عصيت الله فقد عصى أكبر مني) مقاما وحالا (ويفيده ذلك جراءة على الله تعالى من حيث لا يدري) .

وهذا الذي ذكره أحد الوجوه الستة لكراهة بعض السلف القصص وذكره بعد الكذب فهما وجهان من الوجوه الستة وقد أفصح عنها ابن الجوزي في كتاب القصاص والمذكرين وسيأتي للمصنف مزيد على ذلك في المهلكات في ذم الغرور (فبعد الاحتراز عن هذين المحذورين) هما الكذب والمحالات (فلا بأس به) ولا يكون مذموما (وعند ذلك ترجع القصص المحمودة إلى ما يشتمل عليه القرآن) أخرج ابن أبي شيبة والمروزي عن ابن سيرين قال بلغ عمر أن قاصا يقص بالبصرة فكتب إليه: الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص إلى آخر الآيات قال فعرف الرجل فتركه، وأخرج عبد بن حميد في تفسيره عن قيس بن سعد قال جاء ابن عباس حتى قام على عبيد بن عمير وهو يقص فقال: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا واذكر في الكتاب إسماعيل الآية واذكر في الكتاب إدريس الآية، ذكرنا بأيام الله وأثن على من أثنى الله عليه (و) إلى (ما صح في الكتب الصحيحة من الأخبار) كالكتب الستة الصحاح ومن كتب التفاسير ما وقع الاتفاق على صحتها والوثوق بها قال الحافظ العراقي في "الباعث على الخلاص من حوادث القصاص" إنهم ينقلون حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير معرفة بالصحيح [ ص: 246 ] والسقيم قال: وإن اتفق أنه نقل حديثا صحيحا كان آثما في ذلك لأنه ينقل ما لا علم له به وإن صادف الواقع كان آثما بإقدامه على ما لا يعلم، قال: وإن نظر أحدهم في بعض التفاسير المصنفة لا يحل له النقل منها لأن كتب التفاسير فيها الأقوال المنكرة والصحيحة ومن لا يميز صحيحها عن منكرها لا يحل له الاعتماد على الكتب، قال: وليت شعري كيف يقدم من هذه حاله على تفسير كتاب الله أحسن أحواله أن لا يعرف صحيحه من سقيمه .

قال: وأيضا فلا يحل لأحد ممن هو بهذا الوصف أن ينقل حديثا من الكتب بل ولو في الصحيحين ما لم يقرأه على من يعلم ذلك من أهل الحديث، وقد حكى الحافظ أبو بكر بن خير اتفاق العلماء على أنه لا يصح لمسلم أن يقول قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا، حتى يكون عنده ذلك القول مرويا ولو على أقل وجوه الروايات. اهـ .

قلت: فالذي تلخص مما ذكرنا أنه لا ينبغي أن يقص على الناس إلا العالم المتقن فنون العلم الحافظ لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العارف بصحيحه وسقيمه ومسنده ومقطوعه ومنفصله، العالم بالتواريخ وسير السلف، الحافظ لأخبار الزهاد، الفقيه في دين الله، العالم بالعربية واللغة، ومدار كل ذلك على تقوى الله، وإنه يخرج الطمع في أموال الناس من قلبه، كذا حققه ابن الجوزي وسيأتي لذلك مزيد في ربع المهلكات إن شاء الله تعالى .




الخدمات العلمية