الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل .

فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يكون من العلماء من لا عقل له ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بينهما طمع في غير مطمع فهو جاهل بشرائع الأنبياء كلهم بل هو كافر بالقرآن كله من أوله إلى آخره فكيف يعد من زمرة العلماء ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته فكيف يعد من حزب العلماء من هذه درجته .

وفي أخبار داود عليه السلام حكاية عن الله تعالى إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي يا داود لا تسأل عني عالما قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي يا داود ، إذا رأيت لي طالبا فكن له خادما ، يا داود ، من رد إلي هاربا كتبته جهبذا ومن كتبته جهبذا لم أعذبه أبدا ولذلك قال الحسن رحمه الله عقوبة العلماء موت القلب وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة .

ولذلك قال يحيى بن معاذ إنما يذهب بهاء العلم والحكمة إذا طلب بهما الدنيا .

وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فهو لص وقال عمر رضي الله عنه إذا رأيتم العالم محبا للدنيا فاتهموه على دينكم فإن كل محب يخوض فيما أحب وقال مالك بن دينار رحمه الله قرأت في بعض الكتب السالفة إن الله تعالى يقول : إن أهون ما أصنع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة مناجاتي من قلبه .

وكتب رجل إلى أخ له إنك قد أوتيت علما فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم وكان يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله يقول لعلماء الدنيا يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية وبيوتكم كسروية وأثوابكم ظاهرية وأخفافكم جالوتية ومراكبكم قارونية وأوانيكم فرعونية ومآثمكم جاهلية ومذاهبكم شيطانية فأين الشريعة المحمدية قال الشاعر .


وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب

وقال الآخر .


يا معشر القراء يا ملح البلد     ما يصلح الملح إذا الملح فسد

وقيل لبعض العارفين أترى أن من تكون المعاصي قرة عينه لا يعرف الله قال لا شك أن من تكون الدنيا عنده آثر من الآخرة أنه لا يعرف الله تعالى .

وهذا دون ذلك بكثير ولا تظنن أن ترك المال يكفي في اللحوق بعلماء الآخرة فإن الجاه أضر من المال ولذلك قال بشر حدثنا باب من أبواب الدنيا فإذا سمعت الرجل يقول حدثنا فإنما يقول أوسعوا لي .

ودفن بشر بن الحارث بضعة عشر ما بين قمطرة وقوصرة من الكتب وكان يقول أنا أشتهي أن أحدث ولو ذهبت عني شهوة الحديث لحدثت وقال هو وغيره إذا اشتهيت أن تحدث فاسكت فإذا لم تشته فحدث .

وهذا لأن التلذذ بجاه الإفادة ومنصب الإرشاد أعظم لذة من كل تنعم في الدنيا فمن أجاب شهوته فيه فهو من أبناء الدنيا .

ولذلك قال الثوري فتنة الحديث أشد من فتنة الأهل والمال والولد وكيف لا تخاف فتنته وقد قيل لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا

التالي السابق


وهذه أمثلة [ ص: 357 ] ضربها في مباينة الدنيا مع الآخرة ومباينة سالكيها وإن كانت الدنيا جعلت وسيلة للآخرة فما يصح عليه وصف الضدية الذي هو شغل العبد عن مولاه وقطعه عن السلوك إليه وما لا فليس بضد فإن من أمورها ما يتوسل به إلى الله تعالى، وقد تقدم تحقيقه في أثناء كلام المصنف في أوائل الكتاب ( فإن من لا يعلم حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذتها) الحسية ( بألمها) الأبدي ( ثم انصرام ما يصفو منها) سريعا ( فهو فاسد العقل) محتاج إلى الإرشاد والتهذيب ( فإن المشاهدة) بعين البصر ( والتجربة) من أهلها ( ترشد إلى ذلك) ولا برهان أعظم منها ( فكيف يكون من العلماء) أي: كيف يعد في زمرتهم ( من لا عقل له) صحيحا ( ومن لا يعلم أمر الآخرة ودوامها) وانصرام أمور الدنيا بأجمعها ( فهو) إذا ( كافر مسلوب الإيمان) أي: قد نزع منه الإيمان وانسلخ عن أموره باتباعه لشهوات نفسه وإيثاره الدنيا على الآخرة ( فكيف يكون من العلماء من لا إيمان له) وأخرج أبو نعيم في الحلية في ترجمة محمد بن كعب القرظي بسنده إليه عن أبي هريرة رفعه: لا إيمان لمن لا عقل له ولا دين لمن لا عقل له ( ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة و) من لا يعلم ( أن الجمع بينهما طمع في غير مطمع) أي: في غير محله وفيه رد على من يزعم أنه يجمع بينهما مع إعطاء كل منهما حقه كلا والله ( فهو جاهل بشريعة الأنبياء عليهم السلام كلهم) أي: بأسرارها وإذ قد ركز في قلبه ذلك فإزالته مستصعبة إلا بتوفيق من الله وعنايته ( بل هو كافر بالقرآن كله من أوله إلى آخره) ; لأنه مصرح من أوله إلى آخره بأحكامه وقصصه، وأمثاله ومواعظه على حقارة الدنيا وعظم أمر الآخرة فهو يقرأه باللسان ولا يجاوز إلى قلبه ( فكيف يعد) هذا الذي شأنه كذا ( من زمرة العلماء) الأبرار؟ كلا والله حتى يلج الجمل في سم الخياط .

( ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير) حبائل ( الشيطان) مغرور في نفسه قد مسخه الله تعالى لا يبالي الله به بالة بأي واد هلك ( قد أهلكته شهوته) النفسانية بغلبتها عليه، وأوثقته معاصيه ( وغلبت عليه شقوته) فلا يقبل العلاج ( فكيف يعد من أضراب العلماء من هذه درجته) عند الله وهذه رتبته ومنزلته:


لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي

( وفي أخبار) النبي ( داود) ابن إيشا بن عبيد بن بهيس بن قارب بن يهوذا بن يعقوب عليهم السلام وذلك فيما أورده صاحب القوت ما لفظه: إن الله تعالى أوحى إليه يا داود ( إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر) أي: اختار ( شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي يا داود لا تسأل عني عالما) ولفظ القوت: لا تسألن عني عالما قد ( أسكرته الدنيا) أي: جعلته كهيئة السكران ( فيصدك) أي: يمنعك ( عن طريق محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي) ولفظ القوت: قطاع طريق عبادي المريدين ( يا داود، إذا رأيت لي طالبا فكن له خادما، يا داود، من رد إلي هاربا كتبته) عندي ( جهبذا) هو بالكسر النقاد الخبير بغوامض الأمور البارع العارف بطرق النقد وهو معرب صرح به الشهاب الخفاجي، وابن التلمساني كذا في شرحي على القاموس، وفي عبارات بعضهم: هو الحاذق الكيس ( ومن كتبته جهبذا لم أعذبه أبدا) هذا كله نص القوت، إلا أنه بتقديم الجملة الثانية على الأولى .

( ولذلك قال الحسن رضي الله عنه) كذا في النسخ فالمراد به الحسن بن علي بن أبي طالب ( عقوبة العلماء موت القلب وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة) والأشبه أن يكون هذا من كلام الحسن البصري ( وقال يحيى بن معاذ) الرازي الآتي ترجمته ( إنما يذهب بهاء العلم والحكمة) أي: نورهما ( إذا طلبت الدنيا بهما وقال عمر) بن الخطاب ( رضي الله عنه إذا رأيتم العالم محبا للدنيا) أي: مائلا إليها ( فاتهموه على دينكم) الذي تستفيدونه منه ( فإن كل محب يخوض فيما أحب) فإن حبك للشيء يعمي ويصم ( وقال مالك بن دينار) البصري أحد الزهاد المشهورين كنيته أبو يحيى، أخرج له البخاري في التاريخ والأئمة الأربعة قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب هو من موالي بني ناجية أبوه من سبي سجستان وقيل: من كابل روى عن أنس بن مالك والحسن وابن سيرين [ ص: 358 ] وعكرمة وعطاء بن أبي رباح، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وأبي غالب صاحب أبي أمامة وغيرهم، روى عنه أخوه عثمان وأبان بن يزيد العطار، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد السلام بن حرب، وآخرون، قال النسائي ثقة وذكره ابن حبان في الثقات، توفي سنة 130 قال أبو نعيم في الحلية حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا أحمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثني محمد بن عبد الله العبدي، حدثنا جعفر عن مالك ( قرأت في بعض الكتب) أي: التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام ونص الحلية أن في بعض الكتب ( أن الله عز وجل يقول: إن أهون ما أصنع) ، ونص الحلية: ما أنا صانع ( بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة مناجاتي من قلبه) .

ونص الحلية: حلاوة ذكري وكأنه عنى به ما خاطب الله تعالى به داود عليه السلام كما تقدم قريبا ( وكتب رجل إلى أخ له أنك قد أوتيت) من الله ( علما فلا تطفئن نور علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم) وهذا بعينه قد تقدم للمصنف في ترجمة الشافعي ( وكان يحيى بن معاذ) بن جعفر أبو زكريا الرازي أوحد وقته في زمانه أقام ببلخ مدة، ثم عاد إلى نيسابور ومات بها سنة 258 قال صاحب القوت: وهو أول من جلس على كرسي للوعظ في مصر.

( يقول لعلماء الدنيا) متعجبا من حالهم يا أصحاب العلم، ( قصوركم قيصرية) أي: عالية تشبه قصور قيصر ملك الروم وفيهما جناس اشتقاق ( وبيوتكم كسروية) أي: مثل بيوت كسرى، ملك الفرس في زخارفها ( وأثوابكم) جمع ثوب ( طاهرية) منسوبة إلى عبد الله بن طاهر بن الحسين الوزير، وكان يتغالى في الثياب أي رفيعة ( وأخفافكم جالوتية) أي: مزينة كأخفاف جالوت، وكان جبارا من الجبابرة جاء ذكره في القرآن ( ومراكبكم قارونية) أي: كمراكب قارون في التفاخر بها لكونها مزينة بالذهب والفضة والحرير ( وأوانيكم فرعونية) أي: فاخرة ثمينة كأواني فرعون ( ومآثمكم جاهلية) أي: من أفعال الجاهلية وفي بعض النسخ موائدكم ( ومذاهبكم شيطانية) تتبعون النفس والهوى والشيطان فتذهبون إلى ما مالت به النفوس فبطاعة الشيطان صارت مذاهبكم منسوبة إليه ( فأين) الطريقة ( المحمدية) فإن إعلاء القصور وزخرفة المساكن والتزين بالمراكب والملابس والفرش والأواني كل ذلك من أفعال الجبابرة والمترفهين المؤثرين الدنيا على الآخرة، ليس شيء من ذلك في طريقته صلى الله عليه وسلم يؤثر الخمول على نفسه ويقنع بالقليل، ويزهد في الدنيا وجدر حجرته الشريفة لم تبلغ ما فوق القامة ويركب الحمار بإكاف وغير إكاف ويردف خلفه إنسانا وكان فراشه أدما حشوه ليف، وكان له قدح من خشب يشرب منه إلى غير ذلك من أحواله وأموره صلى الله عليه وسلم، يعرفها من مارس كتب الحديث فمن كان مدعيا اتباع سنته السنية فعليه أن يتبع طريقته ويتبع أحواله حتى يكون محمديا، وفي أحواله مرضيا ( وأنشدوا) في هذا المعنى:


( وراعي الشاة يحمي الذئب عنه فكيف إذا الرعاة لها ذئاب )

أي: إن العلماء هم الرعاة للناس يصلحون من أمورهم ما أفسدوا فإذا تلبست العلماء بأمور الدنيا وتفاخروا بها كانوا ذئابا وكيف تصلح الذئاب أن تكون رعاة أصلا ( وقيل) في معنى ذلك ( أيضا) :

( يا معشر القراء بأملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد)

المراد بالقراء العلماء شبههم بالملح بجامع الإصلاح، وأخرج أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا عبد الله بن أبي داود، حدثنا عمرو بن عثمان، ومحمود بن خالد قالا: حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: العلماء مثل الملح هو صلاح كل شيء فإذا فسد الملح لم يصلحه شيء وينبغي أن يوطأ بالأقدام، ثم يلقى، وقال في ترجمة سفيان بن عيينة، حدثنا أبو بكر حدثنا عبد الله، حدثني أبو معمر عن سفيان، قال: قال عيسى عليه السلام: إنما أعلمكم لتعلموا ليس لتعجبوا بأملح الأرض لا تفسدوا فإن الشيء إذا فسد إنما يصلح بالملح وإن الملح إذا فسد لم يصلح بشيء ( وقيل لبعض العارفين أترى أن من تكون المعاصي قرة عينه لا يعرف الله) تعالى أي معرفة كاملة أو لا يذوق لذة معرفته ( قال) مجيبا ( ما أشك أن من تكون الدنيا عنده آثر) أي: أخص [ ص: 359 ] ( من الآخرة لا يعرف الله تعالى هذا دون ذلك بكثير) أي: فكيف يعرف الله تعالى من كانت المعاصي قرة عينه فإن إيثار الدنيا دون من أقر عينه بعصيان، وأخرج أبو نعيم في الحلية في ترجمة هشام الدستوائي بسنده إليه قال: قرأت في كتاب بلغني أنه من كلام عيسى عليه السلام فقال: كيف يكون من أهل العلم من دنياه آثر عنده من آخرته وهو في دنياه أفضل رغبة ( ولا تظنن) في نفسك ( أن ترك المال) صامتا أو ناطقا هو ترك الدنيا وأنه ( يكفي في اللحوق بعلماء الآخرة) وقد وقع في ذلك كثير من العلماء فظنوا أن اللحوق بأهل الآخرة يتم بالزهد عما ملكت يد الإنسان والتخلي عنه وركنوا إلى ذلك فأبطأوا في سيرهم ولم يعرفوا أن هناك ما هو أضر منه ( فإن الجاه) عند الأمراء والملوك والأغنياء ( أضر من المال) يفسد الأعمال ( ولذلك قال) الإمام أبو نصر ( بشر) بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال المروزي نزيل بغداد الشهير بالحافي، الزاهد الجليل المشهور، ثقة عابد قدوة، روى عن حماد بن زيد، وإبراهيم بن سعد، وفضيل بن عياض، ومالك وأبي بكر بن عياش، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم، وعنه أحمد بن حنبل وإبراهيم الحربي، وإبراهيم بن هانئ، وعباس العنبري، ومحمد بن حاتم، وأبو خيثمة، وخلق، وقال ابن سعد: طلب الحديث وسمع سماعا كثيرا، ثم أقبل على العبادة واعتزل عن الناس، فلم يحدث وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ثوري المذهب في الفقه والورع .

وقال الدارقطني: ثقة زاهد ليس يروي إلا حديثا صحيحا، مات سنة سبع وعشرين ومائتين، وله ست وسبعون أخرج له أبو داود في كتاب المسائل له، والنسائي في كتاب مناقب علي له ( حدثنا) وأخبرنا ( باب من أبواب الدنيا) هكذا نقله صاحب القوت عنه ( و) قال أيضا ( إذا سمعت الرجل يقول حدثنا) وأخبرنا ( فإنما يقول أوسعوا لي) نقله صاحب القوت عنه، ويروى عن علي أو ابن مسعود أنه مر على رجل يتكلم فقال هذا يقول: اعرفوني ( ودفن بشر) ولفظ القوت: وحدثنا عن بعض أشياخنا عن بعض شيوخه قال دفنا له ( بضعة عشر ما بين قوصرة وقمطرة من الكتب) ولفظ القوت: كتبا لم يحدث منها بشيء إلا ما سمع منه نادرا في الفرد إلى هنا نص القوت، وقال الخطيب في تاريخه: كان كثير الحديث إلا أنه لم ينصب نفسه للرواية كان يكرهها ودفن كتبه لأجل ذلك وكل ما سمع منه فإنما هو على طريق المذاكرة اهـ .

والقوصرة بتشديد الراء وتخفيف وعاء للتمر من قصب وقيل: من البواري وقيد صاحب المغرب بأنها قوصرة ما دام بها التمر ولا تسمى زنبيلا في عرفهم هكذا نقل شيخنا في حاشية القاموس قلت: وهو المفهوم من كلام الجوهري والقمطر بكسر ففتح فسكون شبه سقط يسوى من قيب يصان فيه الكتب كالقمطرة وأنشد الخليل بن أحمد:


ليس بعلم ما حواه القمطر إنما العلم ما حواه الصدر

وبالتشديد شاذ ( وكان) بشر ( يقول أنا أشتهي أن أحدث ولو ذهبت عني شهوة الحديث لحدثت) هكذا نقله عنه صاحب القوت وزاد ما نصه: وأنا أجاهد نفسي منذ أربعين سنة ( وقال هو وغيره) أيضا ( إذا اشتهيت أن تحدث فلا تحدث وإذا لم تشته) أن تحدث ( فحدث) هكذا نقله صاحب القوت وأخرج الخطيب في كتاب شرف أصحاب الحديث قال أخبرنا أبو بكر البرقاني، قال قرأت على محمد بن علي بن النضر حدثكم أحمد بن عمرو بن عثمان حدثنا عبد الله بن أبي سعد، حدثنا محمد بن عبد الله بن علوان، قال قلت لبشر بن الحارث ألا تحدث قال: أنا أشتهي أحدث وإذا اشتهيت شيئا تركته اهـ .

وزاد صاحب القوت وقال رحمه الله مرة الحديث ليس من زاد الآخرة اهـ .

وأخرج الخطيب في كتاب اقتضاء العلم العمل بسنده إلى عباس بن عبد العظيم العنبري قال: قال بشر بن الحارث إن أردت أن تنتفع بالحديث فلا تستكثر منه ولا تجالس أصحاب الحديث وأخرج أيضا فيه بسنده إلى إسحاق بن الضيف قال: قال لي بشر بن الحارث: إنك قد أكثرت مجالستي ولي إليك حاجة أنك صاحب حديث فأخاف أن تفسد على قلبي فأحب أن لا تعود علي فلم أعد إليه ( وهذا لأن التلذذ بجاه الإفادة ومنصب الإرشاد) والتعليم ( أعظم من كل نعيم في الدنيا) فقد أخرج الخطيب في كتاب شرف أصحاب الحديث بسنده إلى القاضي يحيى بن أكثم قال: قال لي الرشيد ما أنبل المراتب قلت: ما أنت فيه قال: لكني [ ص: 360 ] أعرفه رجل في حلقة يقول: حدثنا فلان عن فلان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا أمير المؤمنين، هذا خير منك وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولي عهد المسلمين قال: نعم، ويلك ها خير مني لأن اسمه مقترن باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت أبدا، نحن نموت ونفنى والعلماء باقون ما بقي الدهر، وأخرج أيضا بسنده إلى عمر بن حبيب العدوي القاضي قال قال لي أمير المؤمنين المأمون ما طلبت مني نفسي شيئا إلا وقد نالته ما خلا هذا الحديث فإني كنت أحب أن أقعد على كرسي ويقال من حدثك فأقول: حدثني فلان قال: فقلت يا أمير المؤمنين فلم لا تحدث؟ قال: لا تصلح الخلافة مع الحديث للناس، قال الحافظ أبو بكر الخطيب كان المأمون أعظم خلفاء بني العباس عناية بالحديث، كثير المذاكرة به شديد الشهوة لروايته مع أنه قد حدث أحاديث كثيرة لمن كان يأنس به من خاصته، وكان يحب إملاء الحديث في مجلس عام يحضر سماعه كل أحد وكان يدافع نفسه بذلك حتى عزم على فعله .

وأخرج أيضا بسنده إلى الحارث بن أبي أسامة قال: قال بعض أصحابنا سمعت يحيى بن أكثم القاضي يقول: وليت القضاء وقضاء القضاة والوزارة وكذا وكذا ما سررت بشيء كسروري بقول المستملي من ذكرت رضي الله عنك ( فمن أجاب شهوته فيه فهو في أبناء الدنيا) لأنه أعطى النفس مشتهاها ( ولذلك قال) سفيان ( الثوري) رحمه الله تعالى ( فتنة الحديث أشد من فتنة الأهل والمال والولد) وكانت رابعة العدوية تقول: نعم الرجل سفيان لولا أنه يحب الحديث وقالت مرة لولا أنه يحب الدنيا يعني اجتماع الناس حوله للحديث هذا نص القوت بتمامه وأخرج الخطيب في شرف أصحاب الحديث: أخبرنا محمد بن الحسين القطان حدثنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، حدثنا يعقوب بن سفيان حدثني أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن يمان، قال: سمعت سفيان يقول: فتنة الحديث أشد من فتنة الذهب والفضة .

ونقل مثل ذلك عن بشر بن الحارث فيما أخرجه الخطيب، في كتاب الاقتضاء بسنده إلى حمزة بن الحسين بن عمر، قال: سمعت إبراهيم بن هانئ النيسابوري، يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: ما لي وللحديث ما لي وللحديث إنما هو فتنة إلا لمن أراد الله به ومثل كلام رابعة في سفيان يروى عن يحيى بن سعيد أنه قال: ما أخشى على سفيان شيئا في الآخرة إلا حبه للحديث، ويروى عن محمد بن هارون بن شيبة الحربي، قال: لقيني بشر بن الحارث في الطريق فنهاني عن الحديث وأهله، وقال: أقبلت إلى يحيى بن سعيد القطان، فبلغني أنه قال: أنا أحب هذا الفتى وأبغضه فقيل له: لم تحبه وتبغضه فقال: أحبه لمذهبه وأبغضه لطلبه الحديث، كل ذلك في كتاب الاقتضاء للخطيب.

وفي كتاب شرف أصحاب الحديث له بسنده إلى علي بن قادم، قال سمعت الثوري يقول: لوددت أني لم أكن دخلت في شيء منه يعني الحديث ولوددت أني أفلت منه لا علي ولا لي وقال محمد بن بشر: سمعت سفيان يقول: ليتني أنجو منه كفافا يعني الحديث ( وكيف لا تخاف فتنة وقد قيل لسيد البشر صلى الله عليه وسلم ولولا أن ثبتناك) وقرنا صدرك بنور اليقين ( لقد كدت تركن) أي: تميل ( إليهم شيئا قليلا) وقد رويت مثل مقالة سفيان وبشر أخبار عن أساطين العلماء فربما أشكلت على سامعيها ونحن نبين لك ونجيب عنه على حسب الاختصار فمن ذلك يذكر عن الفضيل قال: قال المغيرة ما طلب أحد هذا الحديث إلا قلت صلاته ويروى عن شعبة بن الحجاج أن هذا الحديث ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ، ويروى عن الشعبي أنه قال لوددت أني لم أتعلم من هذا العلم شيئا ويروى عن الأعمش لأن أتصدق بكسرة أحب إلي من أن أحدث بسبعين حديثا ويروى عنه أيضا ما في الدنيا شر من أصحاب الحديث قال أبو بكر بن عياش الراوي عنه فأنكرتها عليه حتى رأيت منهم ما أعلم ويروى عن محمد بن هشام العيشي قال: كنا نأتي أبا بكر بن عياش، فإذا كان طيب النفس قال حين رآنا خير قوم على وجه الأرض يحبون سنة لنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أتيناه على غير ذلك يقول شر قوم على وجه الأرض عقوق الآباء والأمهات وتركوا الصلوات في الجماعات إلى غير ذلك من أقوال رويناها بالأسانيد، أما الجواب عن كلام بشر بن الحارث فقد تقدم في ترجمته أنه دفن كتبه وترك الحديث وأقبل على العبادة فلكراهته ذلك قال ما قال وأخرج [ ص: 361 ] الخطيب في شرف أصحاب الحديث بسنده إلى محمد بن الهيصم قال رأيت بشر بن الحرث وقد جاء أصحاب الحديث فقال لهم بشر: ما هذا الذي أرى معكم قد أظهرتموه قالوا يا أبا نصر نطلب العلم لعل الله ينفع به قوما قال: علمتم أنه يجب عليكم فيه زكاة كما يجب على أحدكم إذا ملك مائتي درهم خمسة دراهم فكذلك يجب على أحدكم إذا سمع مائتي حديث فليعمل منها بخمسة أحاديث وإلا فانظر أيش يكون هذا عليكم غدا وأخرج أيضا في كتاب الاقتضاء بسنده إلى أبي بكر عبد الله بن جعفر، قال: سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن رجل يطلب الحديث فيكثر قال: ينبغي أن يكثر العمل به على قدر زيادته في الطلب، ثم قال سبيل العلم سبيل المال، إن المال إذا زاد زادت زكاته فذم بشر للحديث وطلبه ليس لذاته، بل لما يعرض له من عدم القيام بحقوق واجباته، وأما سفيان فإنما قال: ما قال منعا للناس عن الشهوة الخفية والركون إليها وخوفا على نفسه أن لا يكون قام بحق الحديث والعمل به، فخشي أن يكون ذلك حجة عليه كما خاف من ذلك بشر بن الحارث، وكان حب الإسناد وشهوة الرواية، غلبا على قلب سفيان حتى كان يحدث عن الضعفاء ومن لا يحتج بروايته فخاف على نفسه من هذا .

ومن ذلك قول شعبة: نعم الرجل سفيان لولا أنه يقمش، يعني يأخذ من الناس كلهم، وكأنه أراد بقوله ذم من يطلب شواذ الحديث وغرائبه والإكثار من طلب الأسانيد الغريبة والطرق المستنكرة وليس يجوز الظن بالثوري أنه قصد بقوله الذي قاله صحاح الحديث ومعروف السنن وكيف يكون ذلك وهو القائل أكثروا من الأحاديث فإنها سلاح، وقال ينبغي للرجل أن يكره ولده في طلب الحديث فإنه مسئول عنه، وقال ما أعلم شيئا يطلب به الله هو أفضل من الحديث فقال له إنسان: فإنهم يطلبونه بغير نية قال طلبهم له نية، وكان ربما حدث بعسقلان وصور فيبدأهم ثم يقول: انفجرت العيون انفجرت العيون يعجب من نفسه، وربما حدث الرجل فيقول له: هذا خير لك من ولايتك عسقلان وصور .

وأما قول المغيرة فإنه خرج منه على حال نفسه ولعله كان يكثر صلاة النوافل، فإذا سعى في طلب الحديث إلى المواضع البعيدة، كان ذلك قاطعا له عن بعض نوافله ولو أمعن النظر لعلم أن سعيه في طلب الحديث أفضل من صلاته كيف، وقد قال ابن المبارك لو علمت أن الصلاة أفضل من الحديث ما حدثتكم ومر عن الشافعي طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، وأما قول شعبة فقد سئل عنه ابن حنبل، فأجاب لعل شعبة كان يصوم فإذا طلب الحديث وسعى فيه يضعف فلا يصوم فهو أخبر عن حال نفسه، وليس يجوز لأحد أن يقول إن شعبة كان يثبط عن طلب الحديث، وكيف يكون ذلك وقد بلغ من قدره أن سمي أمير المؤمنين في الحديث، كل ذلك لأجل طلبه له، واشتغاله به ولم يزل على ذلك حتى مات، على غاية الحرص في جمعه لا يشتغل بشيء سواه ويروى عنه أنه قال: إني لأذاكر الحديث فيفوتني فأمرض، وأما الأعمش فإنه مع جلالة قدره وصدقه وحفظه، فإنه كان سيئ الخلق جدا عسرا على استماع الحديث، وأخباره في ذلك مشهورة فالذي قاله تبرأ من طلبة الحديث فلذا كان يستقبلهم بالذم ثم يصالحهم بعد بالأسماع كيف ويروى عنه أنه قال من لم يطلب الحديث أشتهي أن أصفعه بنعلي .

وقال سفيان سمعت الأعمش يقول لولا هذه الأحاديث لكنا مع البقالين بالسوية ولو كنت باقلانيا استقذرتموني، وأما أبو بكر بن عياش فإنه كان عسرا في أسماع الحديث كالأعمش فلما أضجره أصحاب الحديث، قال ما قال: وقد يروى عنه قول ظاهر بفضلهم، قال حمزة بن سعيد المروزي سمعت أبا بكر بن عياش وضرب بيده على كتف يحيى بن آدم فقال ويلك يا يحيى في الدنيا قوم أفضل من أصحاب الحديث فهذا الذي ذكرناه مختصرا كاف في الجواب عما عسى أن يستشكل من أقوال بعض الأئمة وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية