الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فكذلك العالم الفاجر فإن بلعام أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات فشبه بالكلب أي سواء أوتي الحكمة أو لم يؤت فهو يلهث إلى الشهوات .

وقال عيسى عليه السلام مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع ومثل علماء السوء مثل قناة الحش ظاهرها جص وباطنها نتن ومثل القبور ظاهرها عامر وباطنها عظام الموتى .

فهذه الأخبار والآثار تبين أن العالم الذي هو من أبناء الدنيا أخس حالا وأشد عذابا من الجاهل وأن الفائزين المقربين هم علماء الآخرة ولهم علامات .

التالي السابق


( وكذلك العالم الفاجر) المعرض عن آيات الله بعد معرفته بها ( فإن بلعم) المذكور ( أوتي كتاب الله عز وجل) وقال البيضاوي: أوتي علم بعض كتاب الله، وقال السهيلي: كان أوتي اسم الله الأعظم، وقال محمد بن علي الأوسي: وكانت له حمارة إذا ركبها وذكر اسم الاسم الأعظم الذي علمه الله سارت مسيرة خمسمائة يوم في يوم واحد، ويروى في ساعة واحدة، ذكره الطبري، وكان بحيث إذا نظر يرى العرش، وقال السهيلي وكان مع الجبارين فسألوه أن يدعو على موسى وجيشه، فأبى وأري في المنام أن لا يفعل، فلم يزالوا به حتى فتنوه فقلب لسانه، فأراد الدعاء على موسى فدعا على قومه وخلع الإيمان من قلبه ونسي الاسم الأعظم ( فأخلد إلى الشهوات) أي: مال إليها واتبع هواه في إيثار الدنيا واسترضى قومه وأعرض عن مقتضى الآيات ( فشبه بالكلب) الذي هو أخس الحيوانات ( أي سواء أوتي الحكمة أو لم يؤت فهو يلهث) وإيماء ( إلى الشهوات) كالكلب يلهث دائما سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده واللهث ادلاع أي إخراجه من العطش، قال البيضاوي والشرطية في موضع الحال، والمعنى لاهثا في الحالتين وقال السمين: مثل الله تعالى حال بلعام بحال كلب هذه صفته فإذا كان لاهثا لم يملك دفع ضر ولا جلب نفع، فلم يكتف بأن جعل مثله مثل الكلب بل مثل كلب متصف بما ذكر فقوله إن تحمل عليه في محل الحال لا أن الكلب لا يزال كذلك دائما فنبهك بذلك لأن بعض الناس قد توهمه اهـ ( وقال عيسى عليه السلام) ونص القوت: وروينا عن عيسى عليه السلام ( مثل علماء السوء مثل صخرة وقعت على فم النهر لا هي شربت) وفي القوت لا هي تشرب ( الماء ولا هي تترك الماء يخلص) أي: يصل ( إلى الزرع) وكذلك علماء الدنيا قعدوا على طريق الآخرة فلا هم نفذوا ولا تركوا العباد يسلكون إلى الله تعالى، وأخرج الخطيب في كتابه الاقتضاء بسنده إلى محمد بن يزيد بن خنيس قال: سمعت وهيب بن الورد يقول ضرب مثل للمعلم السوء [ ص: 356 ] فقيل إنما مثل العالم السوء كمثل حجر وقع في ساقية فلا هو يشرب من الماء ولا هو يخلى عن الماء فيحيا به الشجر اهـ .

قال ( ومثل علماء السوء مثل قناة الحش) أصل الحش النخل المصطف ثم استعير لموضع قضاء حاجة الإنسان ( ظاهرها جص) أي: مطلي بالنورة ( وباطنها نتن) أي: نجس قذر ومنه قول الحريري: فما أنت في جشة باطنك إلا كروث مفضض أو كنيف مبيض قال ( و) مثل علماء السوء ( مثل القبور) المشيدة ( ظاهرها عامر) بالبناء والتراكيب والستور والقناديل ( وباطنها عظام الموتى) إلى هنا كلام سيدنا عيسى عليه السلام على ما أورده صاحب القوت، وأورده كذلك في مواضع أخر ولفظه: وكان عيسى عليه السلام يمثل علماء الدنيا بالكنيف فيقول: ويلكم علماء السوء مثلكم مثل قناة حش ظاهرها جص وباطنها نتن ويلكم علماء السوء، إنما أنتم مثل قبور مشيدة ظاهرها مشيد وباطنها عظام الموتى، يا علماء الدنيا إنما أنتم مثل شجرة الدفلى نورها حسن وطعمها مر أو قال سم يقتل، يا علماء الدنيا مثلكم مثل صخرة في فم النهر فذكره .

وأورد أبو نعيم في الحلية في ترجمة الفضيل بن عياض بسنده إلى عبد الصمد قال: سمعت الفضيل يقول: إذا ظهرت الغيبة ارتفعت الأخوة في الله إنما مثلكم في ذلك الزمان مثل شيء مطلي بالذهب والفضة داخله خبيث وخارجه حسن ( فهذه الأخبار) الشريفة ( والآثار) المنيفة ( تبين) وتصرح لك ( أن العالم الذي من أبناء الدنيا) وعلمه لأجل تحصيلها ( أخس) الناس ( حالا) وأرداهم ( وأشد عذابا) يوم القيامة ( من الجاهل) وقال بعض السادة الصوفية: وإنما كان عذابه أشد لأنه مضاعف فوق عذاب مفارقة الجسد بقطعه عن اللذات الحسية المألوفة ولعدم وصوله إلى ما هو أكمل منها لعدم انفتاح بصيرته مع عذاب الحجاب عن مشاهدة الحق تعالى فعذاب الحجاب إنما يحصل للعلماء الذين تنبهوا للذة لقاء الله في الجملة ولم يتوجهوا لتحصيل ذلك واتبعوا الشهوات الحسية المانعة لذلك، وأما غيرهم فلا يعذب عذاب الحجاب الذي هو أعظم من عذاب الجحيم لعدم تصورهم له بالكلية وعدم ذوقهم له رأسا ( وإن الفائزين) بمشاهدة الحق تعالى ( المقربين) عنده ( هم علماء الآخرة ولهم علامات) تميزهم عن غيرهم .




الخدمات العلمية